بعد 40 عاما في البحر.. «محمد دياب» يصنع مجسمات تنبض بحياة الموانئ

هذه قصة رجل عاش أربعة عقود بين الموانئ والسفن، لا كزائر عابر، بل كأحد أبنائها، يتنفس رائحتها ويأنس بأصواتها. «محمد دياب»، ابن حي فيصل في محافظة السويس، أحد أولئك الذين شكّل البحر هويتهم، ورسم على وجدانهم معالم لا تُمحى. وبعد تقاعده، لم ينكفئ كما يفعل الكثيرون، بل حوّل صالة بيته إلى متحف صغير، و«البلكونة» إلى ورشة تصنع الحنين وتجسد الذكريات في شكل مجسمات بحرية مدهشة.

محمد دياب.. رسالة من البحر إلى الجيل الجديد

قصة محمد دياب ليست فقط عن مجسمات، بل عن الوفاء للشغف، والاستمرار في الإبداع حتى بعد التقاعد، وعدم التسليم لفكرة “انتهى الدور”. إنه نموذج يُلهم الأجيال الجديدة بأن الفن قد يولد من تجربة حياتية طويلة. وأن الحب العميق لمكان أو مهنة يمكن أن يتحول إلى عمل فني خالد.

كما يقدم رسالة خفية لكل من غادر البحر مضطرًا: “البحر لا يُغادر القلوب بسهولة، وإن ابتعد الجسد، يظل الحنين سفينة تبحر في الذاكرة”.

البحر الملهم والمعلم الأول

لم يكن البحر مجرد مكان عمل لمحمد دياب، بل كان المدرسة التي تعلّم فيها التأمل، والدقة، والجمال. فمنذ أن التحق بالعمل في الموانئ والسفن، تعلق قلبه بتلك اللوحة المتحركة التي لا تهدأ، أمواج تتلاطم، مراكب تبحر، أضواء تتلألأ في العتمة، وصفارات سفن تشق السكون.

كل هذه التفاصيل لم تكن تمر عليه مرور الكرام، بل كانت تخزن في ذاكرته وتختمر في وجدانه، حتى صار البحر جزءًا من كيانه. لذا، حين بلغ سن المعاش، لم يكن الرحيل عن البحر نهاية، بل بداية لرؤية جديدة.

البداية من “بلكونة” المنزل

لم يحتج “دياب” إلى ورشة أو مرسم فاخر لينفذ أفكاره، ولا إلى تمويل ضخم ليشتري الخامات. كانت “بلكونة” منزله كافية ليبدأ منها رحلته الثانية، جهزها بورشة صغيرة لتقطيع الأخشاب، وجلب أدواته البسيطة، وبدأ بتشكيل المجسمات التي تنوعت بين مراكب شراعية، وسفن بضائع، ولنشات، وبوارج، وحتى حاويات دقيقة التفاصيل، ويخوت سياحية.

أما صالة المنزل، فتحولت تدريجيًا إلى معرض دائم يعرض فيه إنتاجه، في تشكيلة تأسر العين وتثير الدهشة بين ألوان زاهية، إضاءة متقنة، تفاصيل تنطق بالحياة.

محمد دياب يشكل مجسمات تنبض بالحياة

لم يكتفِ محمد دياب بتصميم مجسمات ساكنة، بل طور عمله عامًا بعد عام، حتى أصبحت مجسماته مضيئة ومحاكية للواقع. لم يكن الهدف مجرد صناعة مركب مصغر، بل إعادة إحياء التجربة البحرية داخل غرفة المعيشة.

تراه يهتم بأدق التفاصيل: اختلاف تصميم المركب السياحي عن ناقلة البضائع، طريقة توزيع الألوان، نوع الإضاءة، ودلالة كل جزء في المجسم. يعيدك إلى البحر دون أن تغادر اليابسة، ويمنحك شعورًا بأنك أمام سفينة حقيقية، لا مجرد قطعة خشب منحوتة.

كل مجسم له حكاية بين الذكرى والخيال

لدى الفنان السويسي، حكاية لكل مجسم، ولكل تفصيلة قصة. فبعض المراكب التي صممها كانت جزءًا من عمله في البحر. وأخرى شاهدها فقط من بعيد. وثالثة استوحاها من قصص الحجاج والسفن العابرة في قناة السويس. وغيرها شاهدها في صور وترجمها إلى مجسمات رائعة.

هذه التوليفة بين الذكرى والخيال صنعت له هوية فنية خاصة. لم يدرس الفن أكاديميًا، لكنه مارسه بقلب البحّار ودقة المهندس، فأنتج أعمالًا لا تقل إبداعًا عن المحترفين.

فنان لا يبحث عن الربح قدر نقل ثقافة البحر للبر

رغم أن مجسماته تلقى إعجاب الكثيرين، إلا أن محمد دياب لا يسعى للربح. هو يبيعها بسعر التكلفة، بل أحيانًا بأقل من ذلك، مكتفيًا بلذة الإنجاز. يقول: “أهم حاجة عندي إن الناس تحب شغلي وتعيشه، مش مهم أكسب كتير، أنا كده كده مستمتع. بعض المجسمات يطلبها زبائن خصيصًا من عشاق البحر أو أصحاب الذوق الرفيع في الديكور”.

وطموح محمد دياب لا يتوقف. فكما تجاوز الخشب إلى الإضاءة. يطمح الآن إلى تصميم مجسمات صغيرة تستطيع أن تتحرك في الماء، بمحركات بسيطة، تحاكي السفن الحقيقية في حركتها. وهذا المشروع، وإن كان مكلفًا، فإنه يعده تحديا جديدا، وقدرة أكبر على إدهاش محبيه، وفتح نافذة أخرى على البحر الذي لا يهدأ في أعماقه.

اقرأ أيضا:

«السويس».. عتبة الحجاز التي حملت أمنيات ملايين الحجيج إلى مكة

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.