ملف| «متحف آثار طنطا».. هنا حكايات التاريخ تُروى في صمتٍ

«باب مصر»

هل جربت يومًا أن تغرد داخل السرب باختلاف؟ أن تتخلص من أفكارك القلقة عبر تأمل جميل لماضٍ عتيق؟ أن تعبِّر عن حبك لوطنك بتفردك في حب الأشياء التي يضمها: متاحفه، آثاره، قدماؤه، بيوته الأثرية ومبانيه؟ ربما حان الوقت لنأخذك معنا في رحلة لأهم متحف إقليمي في الدلتا؛ يضمك بين طرقاته وأضوائه الخافتة والزاهية في آنٍ معا، لتتعلم معه الركض عبر الزمن ببساطة، وتخشع لماضٍ يخرجك من قسوة الحاضر؛ إنه «متحف آثار طنطا» بمحافظة الغربية.

في اليوم العالمي للمتاحف، قررنا أن نبرز جمالا من نوعٍ خاص في متحف آثار طنطا، فهو يدعوك للتأمل بمجرد أن تطل عليك واجهته، حيث يقع بجوار كلية التربية – جامعة طنطا، تحديدًا عند تقاطع شارعي البحر ومحب. يضم المتحف ثلاثة طوابق للمعروضات الأثرية، وطابقين لهيئة الإدارة والأمن.

متحف آثار طنطا يبرز جمال الدلتا

يجذبك الطابق الأول بحديث معروضاته الأنيقة عن المعبود “حابي” إله النيل والفيضان في مصر القديمة. حيث يضم تماثيل ولوحة تعريفية تبرز دوره في حياة المصريين القدماء. كذلك تطالعك لوحة للسيدة العذراء وتراتيل مسيحية. وفي المنتصف خريطة المواقع الأثرية في مصر تعطيك نبذة عن جمال التراث المصري القديم والحديث. كما يدخلك جو الطابق في روح العصر الحجري رغم أنها تنتمي للعصر المتأخر، فقد نحتت التماثيل من الجرانيت كما شهدت البرديات المكتشفة معها.

يعكس الطابق الثاني خصوصية منطقة الدلتا. حيث يضم قطعا أثرية من مناطق متعددة، من تل الفراعين في دسوق (كفر الشيخ) إلى منطقة قويسنا (المنوفية). كما يعرض آثارا من صا الحجر (الغربية)، على بعد 7 كيلومترات من مدينة بسيون، وتضم ثلاثة تماثيل لـ”إيزيس أفروديت”، آلهة الحب والجمال، المصنوعة من البرونز وتعود للعصر اليوناني.

كما تأخذ التماثيل الأخرى المعروضة الطابع الجنائزي، وهو طابع خاص بمنطقة صا الحجر، التي احتفظت بأهميتها التاريخية بعد سقوط سياستها القوية على يد الرومان. في الطابق أيضًا عرض لتماثيل من منطقة صان الحجر بمركز الحسينية (الشرقية)، التي كانت مركزا مهما في الأسرتين 21 و22، واهتم بها الملك رمسيس الثاني حتى أنه شيد بها معبدا لآمون.

وتضم الفتارين المعروضة أدوات زينة للملكات، أواني تطهير برونزية،  وعقودا ومرايا وأواني من مختلف الأشكال والأحجام. أما قرية “بهبيت الحجارة” (سمنود – الغربية)، فعرضت منها أحجار من الجرانيت الوردي منقوشة بنقوش دقيقة تظهر عظمة الفن المصري.

تحنيط الحكايات داخل متحف آثار طنطا

في الطابق الثالث، أدركت أن من يتأمل تاريخ مصر لا يدرك عظمته إلا من خلال رؤية آثاره، رغم أن بعض التماثيل متكسرة، فإن جمالها يكمن في نقصانها، كتمثال فيلسوف يوناني، وأدوات طهي ومائدة من الدولة الحديثة، ومراكب خشبية دقيقة الصنع.

وفي زاوية مع ضوء خافت، كانت هناك مومياء حقيقية لطفل، وتابوت مرسوم عليه عيون مصرية ساحرة، وأدوات تحنيط تثير الفضول عن سر تخليد الأجساد كما خلدت الحضارات. أكد لي المشرف أن كثيرا من هذه الآثار اكتشفت خصيصا لهذا المتحف.

ويضم الطابق أيضا نماذج لمهن مارسها المصريون: من الكتابة والزخرفة الإسلامية، إلى فن الغزل وتجميع الفخار، وكذلك تماثيل المصارعة، ومقتنيات من العقود والخواتم، وأدوات الخياطة، وقميص منسوج لطفل، وعملات متنوعة استخدمها المصريون القدماء في تجارتهم.

دهشة ومرارة للغياب

رغم انتهاء جولتي، لم ينته إحساسي بعبقرية المكان. التقيت بزوار، منهم عزة محمد، 19 عامًا، التي قالت إنها لم تكن تعلم بوجود متحف آثار في طنطا حتى أخبرتها صديقتها بعد الامتحان. وأضافت: “رأيته كلوحة ضخمة رسمت بإتقان لتاريخ مصر، شعرت بقداسة في تفاصيله”.

أما رؤيا خالد، 25 عامًا، أكدت أن جولتها كانت رائعة، وأشادت بتعاون العاملين لكنها أعربت عن حزنها لقلة الزوار، مشيرة إلى أن المشكلة ليست في إدارة المتحف، بل في قلة وعي الناس بجماله وأهميته.

لم يكن غريبًا عليَّ الشعور بالقداسة، تماما كما شعرت عزة، فقد أحسست بها هناك، بين زوايا المتحف التي كشفت لي جوانب مجهولة من تاريخ هذه الأرض العظيمة. جولتي، التي بدأت بقطع تذكرة قيمتها عشرين جنيها للفرد العادي، وعشرة جنيهات للطلاب، لم تقف عند حدود التأمل داخل المتحف فقط، بل امتدت لاكتشاف محيطه الخارجي. حيث يمتزج القديم بالحديث في تناغم يليق بمدينة مثل طنطا.

المتحف الذي يطل على شارع محب لم يتوانَ عن هدفه النبيل يومًا وهو تثقيف الزوار وطمأنتهم أنه ثمة معالم لا تبتلعها العاصمة في جوفها كما تبتلع جماهير الأقاليم. هذه الجدران لا تزال قادرة على بث الثقة في الأرض وجذورها الأصيلة. إن طنطا عاصمة الدلتا قديمًا وحديثًا، ولا تيأس في جذب الكثير من الزوار لها، حتى ولو كان المتحف متغيبًا عن الظهور إعلاميًا.

برتوكول تعاون لزيارة المتحف

تقول “م.ح” إحدى المسؤولات بالمتحف: «في الدراسة تكثر الزيارات المدرسية والرحلات ضمن بروتوكول مبرم بين الوزارات لزيارة المتحف. الذي يضم أكثر من 500 قطعة أثرية موجودة كما هي منذ اكتشافها. ولأن طنطا تعد عاصمة الأقاليم في الدلتا. فقد عرض المتحف آثارًا من الأقاليم المجاورة مثل آثار تل الفراعين وقويسنا وصان الحجر».

أما أحد حرَّاس المتحف، فيقول إنه أصبح المتحف بيتًا ثانيًا له، يدخله من بوابة سحرية. ويتأكد له هذا المعنى في نفسه عندما يستقبل الكثير من الأجانب الذين يأتون خصيصًا لزيارة مسجد السيد البدوي. فهم عندما يدخلون المتحف يندهشون بمعالمه وجوه الرائع. رغم أنه يشبه في تقديري مقتنيات من متاحف مكتبة الإسكندرية إلا أنه يتفرد بعبقرية وخصوصية شديدة عنه.

نهاية الرحلة

في النهاية؛ كانت جولتي شغوفة داخل المتحف. قابلت حيًا تارخيًا عتيقًا يمشي على أطرافه، صامت، جليل. تأملت الوجوه القديمة المنحوتة داخل قوالب الجرانيت المختلفة. وسمعت أصواتًا تناديني تحكي لي عن الحب والحرب والقتال والكتابة والغزل في تاريخ مصر. ورغم أن قلة الزوار أعيتني، فإن روح المتحف تنبض بحنين لا يشيخ، يكفي أن تنظر إلى عيون التماثيل ولو كانت مكسورة لتتأكد من بريق لم ولن تفقده الحضارة المصرية.

هذا المتحف هو ذاكرة دلتاوية خالدة، تحتضنها طنطا في أعماقها، تناديك أروقته مع كل خطوة: هنا التاريخ.. هنا حضارة أعوام لا عدد لها.

في اليوم العالمي للمتاحف، بينما يحتفل العالم بالآثار، نحن نؤكد لك: لا تعرض عن تأمل حضارتك وتاريخك وماضيك في كل منطقة تعيشها.

اقرأ أيضا:

«متحف السويس القومي».. كنوز تُجسد عبقرية المصري القديم

من أعماق البحر إلى صفحات العلم.. قصة معهد علوم البحار ومتحفه العريق بالسويس

«متحف النصر للفن الحديث».. ذاكرة بورسعيد في لوحات ومنحوتات

«متحف قناة السويس».. تاريخ من سخرة الحفر إلى إرادة التأميم والتطوير

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.