هاني فوزي يكتب: «دفاتر تدوين الغيطاني».. إبداع على غير مثال سابق

أسرتني لسنوات طويلة «دفاتر التدوين» لجمال الغيطاني. بدأت قراءتها، وقراءته، بعد أيام قليلة من يوم بلوغي الثلاثين، فأثارت في نفسي الكثير من الأسئلة والتداعيات. بدأت وقتها بقراءة “دفتر التدوين الخامس”، وراوغتني الأسئلة، هزمت كل ما أتصوره يقينا، العنوان بليغ: ” نثار المحو”. حين تنظر ورائك في سنواتك التي هربت: “المحو”، وما تبقى في ذاكرتك هو مجرد “نثارا”: نثار ذكريات، أشخاص، أماكن، مواقف، مشاعر، وجوه ألوان… أهذا هو كل ما يبقى؟
ما يكتبه الغيطاني في دفاتر تدوينه- وهو إمتاع خالص- لا يدفعك فقط إلى التفكير أو التساؤل، بل أيضاً إلى أن تنظر لحياتك بطريقة مغايرة: أن تفكر أن كل يوم من أيامها هو تدوينة عنك، جزء منك؛ أن تجعله يعبر بلا أثر أو ذكرى، بلا لحظات حقيقية من مرح أو ألم أو صدق أو سعادة، فكأنك تقتطع جزءا منك لترميه في طي النسيان، في أغوار لن تعود إليها حين يأتي وقت النظر ورائك، ليس فيما أنجزت ولكن فيما عشت.
مع دفاتر تدوين الغيطاني، تنازعتني تلك الفكرة: المقابلة بين “الإنجاز” من ناحية، و”العيش” من ناحية أخرى، نحن ننجرف للتفكير في “الإنجاز” في كل شيء حتى في العلاقات الإنسانية، وربما لا نفكر في الحياة نفسها: في خوضها بعمق، في ممارسة فعل الحياة من خلال الآخرين. تحاوطنا نفايات التنمية البشرية التي تتحدث عن حياة تصنعها وحدك، هدفها “نجاح” تقيسه بمقاييس منمطة صنعها غيرك، حياة “تتحكم” فيها وحدك وتسعد بها وحدك. أما الغيطاني، فيأخذك إلى حياة لك مع الآخرين، تمارس معهم مكاشفة وإفضاء، السعادة والشقاء، معهم وبهم.
***
دفاتر التدوين، بعيداً عن لغتها شديدة الخصوصية والإبداع – في هذا تفصيل ليس هنا مجال لذكره يستحق الخوض فيه منفصلاً – تجذبك إلى عوالم جمال الغيطاني شديدة الخصوبة والسحر، وتدفعك دفعاً إلى النظر داخلك، ناظراً من خلال حياة ثرية عاشها هو وقدرة فريدة على البوح واستعادة تفاصيل إنسانية صغيرة: وجوه من عرفهم، رائحة بعضهن، نظرات آخرين.
كنت أعيد قراءة دفتر تدوينه الثالث “رشحات الحمراء”. “الحمراء” هو اسم سيدة عرفها في طفولته الأولى، واكتشف، حين بدأ التدوين، أن كثيرات ممن فتن بهن، وأثرن فيه، وبقين في ذاكرته ونفسه، كن فقط “رشحات” منها، هي الأصل وجميعهن فروع، جميعهن ترديد واستعادة لبعض تفاصيلها. هذه “الرشحات” تجذبك بنعومة ومكر لمراجعة الكثير من علاقاتك الإنسانية: محاولة الخوض في التفاصيل ومراجعتها، محاولة فهم لحظات الانبهار أو النفور، ما يدفعك لحظات لأن يتهدج صوتك أو يحتد، أن تحن نظراتك أو تقسو.
أسئلة الغيطاني، المطمورة في ثنايا تدوينه- سواء أسئلته في لحظات وقوع الأحداث أو أسئلته في وقت تدوينه لها- تبدو محيرة، مبهمة الإجابات. وربما لم تعد كذلك له هو الآن، إنها مبهمة الإجابات لمن يقرؤها باحثاً ليصوغ إجاباته هو، منقباً في حياته ومساراتها، دروبها وتعقيداتها.
أسئلة الغيطاني تجبرك على البحث عن أجوبة لأسئلة عصية: ماذا سيتبقى من اللحظات التي نعيشها الآن؟ لماذا تحتفظ ذاكرتنا بأشياء بدت لنا في لحظات حدوثها تافهة بلا قيمة، ويضيع منها ما ظنناه ذو أهمية قصوى؟ أين تذوي لحظات ظننا، لفرط ألمها أو مرارتها، أننا سنبقى فيها للأبد؟ ماذا يفعل بنا الزمن – هذا الحاضر الغائب المبهم؟ وحين يأتي وقت النظر للخلف، هل سنفخر بـ”الإنجازات” (إن وجدت) أم سنفتش عن لحظات السعادة لنستعيدها؟ أيهما سيكون أكثر أهمية حينئذ؟ تعجز عن بسط كل هذه الأسئلة الدائرة بداخلك.
***
داهمني شعور آخر خلال قراءتي لـ”رشحات الحمراء”: الحسرة.
حسرة على فرص لممارسة الحياة فقدناها بسبب سلطة مجتمع ساهم في تكوين جيلي من خلال عقله القديم السائد، مجتمع عاش لعقود متكلس قارب الموت، تملأه محاذير وتابوهات. مقارنة بمجتمع أكثر حرية وانفتاحا، ورغبة في الاستكشاف والمغامرة، عاش فيه الغيطانى في شبابه، لحظات تفجر الأحلام بالوطن والناس.
وبعد أن عادت الأحلام في يناير – لست متأكداً إن كان جمال الغيطانى قد رأى معنا تلك الأحلام – تظل صعوبات ميلاد المستقبل من رحم كل هذا القبح الذي نحياه ربما تضيع حياتنا ذاتها. دفاتر تدوين جمال الغيطانى عن امتلاك الجرأة لنحيا، عن أن يصير “ممارسة فعل الحياة” مشروعنا الأساسي.
شكرا جمال الغيطاني.. ومحبة لك ولأدبك في ذكراك، ولتبق دائما.