هل تخالف الأعمال الجارية بحديقة «المسلة» دليل حماية الحدائق التراثية؟

رغم تأكيدات الحكومة بأن ما يجري داخل «حديقة المسلة التراثية» بالزمالك هو مجرد «أعمال تطوير ورفع كفاءة»، إلا أن ما رصده المواطنون على أرض الواقع يثير أسئلة مُلحة حول طبيعة ما يحدث فعليًا، ومدى توافقه مع المعايير الفنية لحماية الحدائق التاريخية، ومواد الدليل الإرشادي عن الجهاز القومي للتنسيق الحضاري بشأن تطوير الحدائق التراثية.

الحكومة تنفي وتؤكد الالتزام بالدليل الإرشادي

كان المركز الإعلامي لمجلس الوزراء قد نفى هدم وتجريف وقطع أشجار ونباتات نادرة داخل حديقة المسلة التراثية، موضحا في بيان له أن ما يتم تنفيذه يندرج ضمن خطة لتطوير الحديقة والمنطقة المحيطة بها، وذلك بموافقة الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، ووفقًا للدليل الإرشادي الخاص بتطوير الحدائق التراثية، وبمشاركة خبراء مختصين في الزراعة والترميم والآثار.

وأكد البيان حرص الدولة على الحفاظ على الحدائق التراثية في جميع المحافظات، مشيرًا إلى مشروعات سابقة شملت ترميم وتطوير عدد من الحدائق العامة وإعادة افتتاحها، مع الحفاظ الكامل على النباتات النادرة والأشجار التاريخية بها.

مواطنون يشكون من غياب الشفافية

لكن على أرض الواقع، يبدو المشهد مغايرًا، وفقًا لشهادات زوار الحديقة. فقد رصدت جمعية تنمية الزمالك، أعمال حفر وتجريف باستخدام معدات ثقيلة، إلى جانب صب خرسانات وبناء هياكل معدنية ضخمة تغطي أجزاء واسعة من الحديقة. ومع تصاعد الجدل، تم لاحقًا نصب أغطية بلاستيكية “مشمعات” لحجب الرؤية عمّا يجري داخل الموقع، ما أثار مزيدًا من الريبة.

وتساءلت نادرة زكي، رئيس جمعية تنمية الزمالك، وعدد من المهتمين بالتراث والبيئة: “إذا كانت هذه بالفعل أعمال تطوير، فلماذا غابت الشفافية؟ أين الدراسات البيئية؟ ومن هم خبراء الزراعة الذين تم الرجوع إليهم؟”.

وقالت لـ«باب مصر»: “تجريف التربة وأعمال البناء ما زالت مستمرة في الحديقة، ونطالب بالحفاظ على مكوناتها الأصلية، بما فيها الأشجار والنباتات والخامات والطرق التاريخية للري والتنسيق”. وتابعت: “إزالة الأشجار وتجريف التربة والبناء ووضع هياكل داخل الحديقة يُفقدها هويتها البيئية والتاريخية. وندعو إلى فتح نقاش عام يتضمن معاينة ميدانية، ونشر تفاصيل المشروع، بما في ذلك التصاريح، وخطة التنفيذ، ودور كل جهة مسؤولة”.

صور حديثة لتجريف التربة وأعمال البناء في حديقة المسلة التراثية بمنطقة الزمالك
صور حديثة لتجريف التربة وأعمال البناء في حديقة المسلة التراثية بمنطقة الزمالك
مبادئ الترميم العلمي للحدائق التراثية

أكدت الدكتورة سهير زكي حواس، أستاذة العمارة والتصميم العمراني بكلية الهندسة جامعة القاهرة، وعضو مجلس إدارة الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، أن الحدائق التراثية تخضع لاشتراطات حماية صارمة يجب الالتزام بها، وفقًا لقانون التنسيق الحضاري. بالإضافة إلى القانون الأثري إذا كانت الحديقة مسجلة كأثر أو تضم عناصر أثرية.

وتحدثت عن حالة “حديقة المسلة”، مشيرة إلى أنها حديقة تاريخية مثبتة في الخرائط القديمة بشكلها المعروف. إلا أن اسمها تغيّر لاحقًا بعد نقل المسلة المصرية القديمة إليها، فأصبحت تُعرف باسم “حديقة المسلة”، رغم أن المسلة لم تكن جزءًا من مكونها الأصلي.

وأوضحت أن التعامل مع هذا النوع من الحدائق لا يجب أن يكون عشوائيًا. بل يستند إلى قواعد دقيقة تبدأ بحفظ وتوثيق كافة الصور والخرائط والرسومات الأصلية للحديقة، بما يشمل عناصرها الطبيعية والمعمارية. وأضافت أن استعادة الشكل الأصيل للحديقة يشمل أيضًا النباتات التي كانت تميزها، وخامات البناء، وأنظمة الري. وغيرها من التفاصيل التي شكلت هويتها في فترة تاريخية معينة.

وأشارت إلى أن عمليات الترميم لا تعني فقط إعادة تأهيل ما تضرر، بل تتضمن أيضًا محاكاة دقيقة لما لم يعد موجودًا، بشرط ألا تفرض العناصر الجديدة نفسها على الطابع البصري أو الوظيفي للحديقة. وقالت: “حتى في حال استخدام خامات بديلة، يجب أن تكون مدروسة لتقريب التجربة للزائر دون أن تغير من الهوية الأصلية للمكان”.

وأكدت حواس أهمية الحفاظ على النباتات الأصلية أثناء الترميم بطريقة علمية تتناسب مع طبيعة كل نوع، بحيث يمكن استعادتها مرة أخرى بعد انتهاء المشروع. واختتمت بقولها: “ترميم الحدائق التراثية ليس قرارًا شخصيًا أو اجتهادًا مزاجيًا، بل عملية دقيقة لها ضوابط فنية واضحة يجب احترامها وتطبيقها بدقة”.

شروط إدارة المشروعات في الحدائق التاريخية

شددت أستاذة العمارة والتصميم العمراني بكلية الهندسة على ضرورة إسناد أعمال ترميم الحدائق التاريخية إلى جهات ذات خبرة موثوقة وسابقة أعمال واضحة في هذا النوع من المشروعات. وأكدت أن الكفاءة ليست خيارًا، بل شرط أساسي، خاصة في المواقع ذات الطابع التراثي، التي تتطلب تعاملًا دقيقًا ومسؤولًا.

وأوضحت أن الخطوة الأولى في أي مشروع لترميم حديقة تاريخية يجب أن تكون بعرض كل المقترحات الفنية على اللجنة المختصة بالمباني والمناطق ذات القيمة التراثية، لضمان أن ما سيتم تنفيذه لا يلحق ضررًا بالأصل. بل يهدف إلى إصلاح ما فُقد منه. وأضافت: “يتم عرض المشروع واعتماده فنيًا من قبل اللجنة المُختصة لمراجعة الأسس الفنية”.

وتابعت: “الأمر لا يتوقف عند الترميم والافتتاح، بل يجب أن يشمل المشروع خطة متكاملة لصيانة الحديقة على المدى الطويل. وتكون هذه الخطة جزءًا من الميزانية المقترحة منذ البداية. بحيث تغطي التكاليف الدورية للصيانة، وتضمن استدامة الجهد الذي بذل”.

وانتقدت حواس بعض النماذج القائمة التي يتم فيها تنفيذ أعمال ترميم ثم تترك دون متابعة أو إشراف متخصص. مشيرة إلى أن الإدارات التي تتسلم هذه المواقع في كثير من الأحيان لا تمتلك خبرة في مجال الحفاظ أو إدارة التراث. وهو ما يؤدي إلى تدهور المواقع مجددًا.

وأردفت: “بالنسبة لحديقة المسلة، لم أر أي رسومات، ولا أعلم من يدير المشروع. وهل سيتم إضافة أو حذف عناصر”، مؤكدة أهمية الشفافية فيما يخص الأعمال الفنية الخاصة بالبنية التحتية، موضحة أنها تفاصيل لا يمكن شرحها للعامة. لكنها يجب أن تكون معلنة وواضحة للجهات المختصة، حتى تتم مراجعتها فنيًا قبل التنفيذ. واستكملت: “الحفاظ على الحدائق التاريخية علم له أدواته وأسسه، ولا يحتمل العشوائية أو القرارات الفردية”.

أزمة سابقة لمخالفة المعايير

أبدت الدكتورة سهير زكي حواس استغرابها من طرح مشروع “عين القاهرة” في وقت سابق داخل الحديقة نفسها بمنطقة الزمالك. مشيرة إلى أن هذه المنطقة مسجلة كموقع تراثي. وأن الحديقة تاريخية تحتوي على نباتات نادرة يجب حمايتها. مما يثير علامات استفهام كبرى حول صلاحية المشروع للموقع من الأساس.

وقالت حواس إن إنشاء عجلة دوارة ضخمة في هذه الحديقة كان سيتطلب تغييرات جذرية في البنية التحتية، تشمل أعمال حفر وتجريف للتربة، وإنشاء قواعد خرسانية، واستخدام مواد ثقيلة مثل الحديد. بالإضافة إلى التأثيرات المتوقعة الناتجة عن زيادة الكثافة البشرية وأماكن الانتظار داخل الحديقة. وتساءلت: “كيف طرح هذا المشروع ووصل إلى مرحلة التنفيذ دون مراجعة أولية للمعايير التراثية التي تمنع مثل هذه التدخلات؟”.

مسؤولية الجهات المنفذة والرقابة الفنية

لكن، هل يعد تجريف التربة ووضع أساسات خرسانية أمرا واردا بحسب الدليل الإرشادي للتعامل مع الحدائق التاريخية والتراثية؟، أجابت “حواس” موضحة أن أي مشروع داخل حديقة تاريخية يخضع لدليل إرشادي صارم يحدد ما هو مسموح به من تدخلات عمرانية، مثل استخدام الخرسانة أو إقامة أساسات. وقالت: “الأصل ألا يسمح بأي تغيير جذري في التربة أو البنية. إلا في أضيق الحدود، وبنسبة مدروسة، وبعد مراجعة المشروع بالكامل من الجهات المختصة. فكل مشروع له خصوصيته، وكل حالة تدرس على وضعها والحالة الاستثنائية الخاصة بها”.

وفي ردها على سؤال حول مدى قانونية بدء التنفيذ دون ترخيص، أو وجود أخطاء في الأعمال الخرسانية، أكدت أن هذا يعد مخالفة واضحة. وقالت: “إذا تجاوزت الشركة المنفذة المساحة المسموح بها أو نفذت الأعمال بطريقة خاطئة، تزال فورًا. لكن التربة تكون غالبًا قد تضررت بالفعل. وهو ما يعد ضررًا يصعب إصلاحه”.

وشددت على أن أي مشروع في حديقة تراثية لا يجوز تنفيذه دون صدور ترخيص رسمي من محافظة القاهرة. واعتماد واضح من الجهاز القومي للتنسيق الحضاري. مصحوبًا بالرسومات الهندسية المعتمدة. وأضافت: “السؤال أصلاً عن إمكانية التنفيذ دون ترخيص يعكس أن هناك خللًا إداريًا. لأن مجرد طرح الفكرة دون مراجعة الجهات المسؤولة أمر غير مقبول في أي مشروع تراثي”.

اقرأ أيضا:

محضر رسمي ضد أعمال البناء في «حديقة المسلة» التاريخية بالزمالك

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.