كيف تقتطع تصريحا من سياقه وتثير زوبعة: «محمود حميدة» وعروس البحر وهجمة الترند!

كالعادة، انقلبت مواقع التواصل عقب على عقب من مقطع من تصريحات قالها الفنان محمود حميدة خلال ندوة حول الحفاظ على التراث، انعقدت ضمن فعاليات الدورة الحادية عشرة من مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير، والتي عقدت الأسبوع الماضي.

التقط صحفي «شاطر» من ندوة استمرت لأكثر من ساعتين تصريحا يصلح لأن يكون «تريندا» مثيرا لزومبي مواقع التواصل، الذين يتلهفون لرؤية أي شيء يتحرك للانقضاض عليه، يقول فيه حميدة إن “الإسكندرية لم تعد عروس البحر المتوسط، بل صارت واحدة كركوبة وأسنانها واقعة ومش قادرة تتكلم”.

على الفور، تم «تشيير» التصريح، وانتشر عبر المواقع الصحفية ومواقع التواصل، وسرعان ما انهالت الانتقادات والإساءات لصاحبه. ومن التصريح إلى ردود الفعل عليه، اتخذ الأمر شكلا مخيفا يشبه خيالات العفاريت على السقف في غرفة شبه مظلمة!

وبما أنني حضرت هذه الندوة، وجمعتني بالأستاذ محمود حميدة أحاديث قبل الندوة، شغلت فيها الإسكندرية وما أصابها، أسوة بمصر كلها، من عمليات “تحديث” استثمارية قضت على المعالم التاريخية لمناطق بأسرها، يمكنني أن أروي الواقعة وسياقها لنفهم الفارق بين الواقع و”الترند”، وكيف تتحول الأشياء، بقدرة قادر، إلى النقيض بفعل التسرع في الفهم، وتعجل رد الفعل، وركن المنطق بجوار الحائط، والسير حفاة!

التصريح جاء وسط سياق عام هو موضوع الندوة، وسياق خاص هو آراء “محمود حميدة” بشأن التراث والحفاظ عليه، وبشأن ما حدث ويحدث في الإسكندرية منذ عقود. ويمكن الاطلاع على ملخص أفضل لتصريحاته في تغطية الندوة على موقع «باب مصر» من هنا

***

كل من تكلموا في الندوة تقريبا لديهم انتقادات لإهمال تراثنا الفني والمعماري والقومي، ولكل منهم تقريبا حكايات عن مظاهر هذا الإهمال، وإحساس بضرورة اتخاذ قرارات وأفعال للحفاظ على التاريخ، ليس فقط المكتوب، بل الآثار والعمارة والفنون والشوارع، وأيضا ضرورة التخطيط الحضاري الجمالي الذي يحفظ للبلد روحه ومعالمه الأصيلة، حتى لا تضيع بين جنون البناء المسلح والعمارات العملاقة والكباري والمطاعم التي احتلت كورنيش الإسكندرية، فاختفت ملامحه وسط أشكال أقل ما يقال عنها إنها قبيحة، وتتعارض مع موقع مدينة ساحلية سياحية مفتوحة على البحر والأفق البعيد والهواء الطلق، مثل الإسكندرية.

أثناء ندوة رقمنة التراث وأرشفة التاريخ السينمائي
أثناء ندوة رقمنة التراث وأرشفة التاريخ السينمائي

وقد تبادلت مع الأستاذ “حميدة” بعض ذكرياتنا القديمة عن الإسكندرية: من أشهر الشواطئ والشوارع والمحلات، وشكل الحياة، وسكان المدينة والوافدين إليها للتصييف، وهي ذكريات مصحوبة بالحسرة على ما آلت إليه “عروس البحر المتوسط”، أجمل مدن مصر بلا منازع، ومركز حضارتها، والنور الذي كان يشع منها للعالم على مدار قرون، قبل الهجمة التترية الهمجية التي بدأت منذ السبعينيات على أيدي جحافل التطرف من ناحية، والجشع الرأسمالي من ناحية ثانية.

وروى لي الأستاذ “حميدة”، من بين ما روى، أنه على عكس الكثيرين الذين يعجبون بسياسات المحافظ السابق عبدالسلام المحجوب (الذي تولى المنصب من 1997 إلى 2006)، فإنه اعترض على بعض هذه السياسات في وقتها، ذلك أنه في مقابل الإصلاحات، تم تسليم المدينة إلى رجال أعمال أشاعوا فيها الحديد والأسمنت والأبنية القبيحة التي خنقت معالمها المفتوحة، إلى جانب الصرف الصحي في البحر، والسماح للسفن بإلقاء مخلفاتها بالقرب من الشواطئ وغيرها.

***

وبغض النظر عن قياس الإنجازات والسلبيات التي حققها أو فشل فيها عبدالسلام المحجوب أو غيره ممن سبقوه ولحقوه من محافظين، ووفقا لرأي الأستاذ “حميدة” الذي قاله في الندوة أيضا، هو أن الموقف الأمثل للتعامل مع التاريخ لا يكون بالتمجيد ولا بالتحسر على الحاضر، ولكن بتأمل هذا التاريخ ودراسته واستخلاص العبر منه من أجل المستقبل. وحين نتحدث عما فعله فلان أو علان في الماضي، يجب أن يكون شاغلنا هو المعرفة والفهم، وليس إصدار الأحكام، وأن يكون هدفنا هو المستقبل، لا اجترار الماضي فخرا أو ندما.

محمود حميدة من عشاق الإسكندرية الحقيقيين، ولديه ذكريات لا تحصى عن المدينة، ودراية بالكثير من دروبها وتفاصيل الحياة فيها ومشاكلها، وهو حين يصفها بأنها لم تعد عروسا، بل عجوزا، إنما يقول ذلك بدافع الحب، والرغبة في رؤية المدينة وهي تستعيد شبابها وجمالها ورونقها من جديد.

واهتمام “حميدة” بالأرشيف، الذي ظهر خلال السنوات الماضية، هو شغف شخصي ينفق عليه من وقته وجهده وماله، لا لهدف سوى عمل ما يراه صوابا ومفيدا للأجيال القادمة. وقد اقترحت عليه، خلال إدارتي للدورة السابقة من مهرجان القاهرة، أن نصدر كتابا يضم مقالات مختارة من مجلة “الفن السابع” (التي كان يصدرها وينفق عليها على مدار سنوات، ويرى الكثيرون أنها واحدة من أفضل الإصدارات السينمائية التي ظهرت باللغة العربية)، ورغم أن المجلة ومحتواها لهما حقوق ملكية يمكن أن تدر الكثير من المال، سواء باستغلالها ورقيا أو رقميا، إلا أن الأستاذ “حميدة” رحب بالفكرة ومنحنا الحقوق لإعادة نشر ما نشاء من محتوى المجلة، دون أي مقابل أو شروط.

والأستاذ حميدة هو أيضا الرئيس الشرفي لمهرجان الأقصر للسينما الإفريقية، وهو يبذل جهدا تطوعيا كبيرا، سواء بنفسه أو بحضور اسمه وحضوره شخصيا كنجم محبوب لدعم المهرجان. وهو، في حالة الأقصر أيضا، دائما ما ينتقد ما لا يعجبه في الواقع الحالي، ويتطلع إلى مستقبل أفضل للمدينة والبلد بأسره.

***

إن المطبلين والزمارين والمداحين (من أجل إرضاء مواليهم وأرباب نعمتهم) لا يضيفون شيئا للحاضر أو المستقبل، لكن الإصلاح والتقدم لا يأتيان سوى بالصدق، والنقد الذاتي، والرغبة الدائمة في تحقيق ما هو أفضل.

ومسيرة محمود حميدة الشخصية (ومواقفه عموما) تشهد بسعيه الدائم للتعلم والتطور، ولعل التصريح الذي لم تنقله أي وسيلة إعلام من بين تصريحاته في الندوة، هو نقده للذات، ووصفه لنفسه بأنه عجوز غير قادر على مواكبة التطورات الحديثة الهائلة، التي يجب أن يحتضنها الجيل الحالي. وهو ما يدل أيضا على طريقة تفكيره التي أتمنى أن تنتقل، بقدرة قادر إلى عقول الكثير من المسؤولين والمواطنين منا.

اقرأ أيضا:

لماذا وكيف يولد الفاشيون: زمن «ترامب» كما تنبأ به فيلم ألماني!

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.