في السينما والدراما.. تعددت الأسباب والخيبة واحدة!

يلاحظ الكثيرون ممن يشاهدون الإنتاج الدرامي والسينمائي العالمي والعربي. بعيدا عن المجاملات، أو الانحيازات المدفوعة بحس وطني أو نرجسي، أن الهوة تزداد بين مستوى ما يقدم من أعمال عالمية وما يقدم من أعمال محلية. أو بمعنى أدق، بين “أفضل” ما يقدمه العالم، و”أفضل” ما نقدمه نحن.

على الطريق هناك عشرات ومئات الأعمال التافهة التي تأتي من كل مكان. ولسنا بصدد الحديث عن هذا الغثاء العام، الذي يتسم به عصر الرأسمالية ما بعد المتأخرة على مستوى العالم. ولكننا ننظر فقط إلى ما يعتبر “أعمالا جيدة” لدى الرأي المتخصص والعام.

ومن ثم فنحن لا نقارن مثلا فيلما حاصلا أو مرشحا للأوسكار بفيلم مصري تجاري لا هم له سوى كسب قرشين من عيدية المراهقين في الأعياد. وإنما نقارنه بعمل رشحه الكثيرون ليشارك في الأوسكار، أو اعتبره النقاد أفضل عمل ظهر خلال العام.

وإذا حاولنا، للتقريب، أن نستشهد بنماذج، فلنذكر أعمالا مثل “كيرة والجن”، “سعاد”، “لما بنتولد”، “ورد مسموم”، “يوم الدين”، “شيخ جاكسون”، “اشتباك”، “فتاة المصنع”، “الشتا اللي فات”، “الشوق”.. إلخ وكلها. مع عشرات غيرها على مر العقود، تم ترشيحها لتمثيل مصر في جوائز الأوسكار. ولم يكتب لأحدها أن يصل إلى قائمة الترشيحات النهائية أو أن يحظى بتوزيع عالمي عليه القيمة.

ضيوف شرف المهرجانات

وإذا تحدثنا عن المهرجانات، فنحن لا نقارن فيلما حاصلا على “سعفة كان” أو “دب برلين” أو “أسد فينيسيا” بفيلم مصري لا شأن ولا اعتبار له.– وإنما بالأفلام التي وصلت إلى المهرجانات العالمية بالفعل، لتقف عند حدود الأقسام غير الرسمية، أو لتكتفي بالتمثيل المشرف، أو تحصل، في أفضل الأحوال، على تنويه أو جائزة فرعية.

فباستثناء فيلم “ريش” الذي شارك في مسابقة “نظرة ما” في “كان” وحصل على الجائزة الكبرى. وباستثناء الفيلم القصير “ستاشر”، الذي شارك في مسابقة الفيلم القصير بـ”كان” أيضا، وحصل على جائزة أفضل فيلم. لا يوجد خلال العقدين الماضيين، وبالتحديد منذ فوز يوسف شاهين بالسعفة الذهبية في “كان”. أي جائزة كبرى أو اقتحام للسينما العالمية يذكر. وهو أمر غريب، مقارنة حتى بالسينما العربية، خاصة اللبنانية والتونسية، بل وحتى الأردنية والسعودية والسودانية.

وإن كان يجب أن نستطرد هنا بأن الأعمال العربية بشكل عام، سينما ومسلسلات، لها حدود أيضا لا تستطيع أن تتخطاها مقارنة بإنتاجات معظم بلاد العالم غربا وشرقا. وأن أزمة الإبداع في مصر تسري في أوصال الإبداع العربي عموما.

عندما نتكلم عن المنصات أيضا، فالمقصود ليس بعض الأعمال التي تحقق نجاحا محليا فقط، مثل الكوميدي والأكشن. وإنما الأعمال التي تنجح في تحقيق نسب مشاهدات عالمية. ورغم أنني لم أطلع على إحصائيات تخص المواد العربية التي تعرض على منصة “نتفليكس”. لكن يمكن أن نتوقع أنها ضمن الأقل مشاهدة عالميا، أما باقي المنصات العالمية، فلا يكاد يوجد عليها محتوى عربي أصلا!

الحرية.. وثقافة الحرية

أول ما يخطر بالبال حين نفكر في أسباب هذا الفقر الإبداعي هو غياب حرية التعبير، الشرط اللازم الأول وراء أي إنتاج فكري. وبالفعل يعاني الفنانون، والمواطنون بشكل عام، في كل البلاد العربية، من انكماش مساحة حرية التعبير، والحرية الشخصية بشكل عام، أو حتى غيابها بالمرة في بعض الأماكن.

وانكماش هذه الحرية نتاج للأنظمة السياسية المستبدة بالطبع، ولكنه ليس مرتبطا بالقهر السياسي بقدر ما يرتبط بانحدار قيم الحرية والتفكير المستقل والتذوق الفني. مع انتشار السطحية والرجعية بين الغالبية العظمى من المواطنين. والأخطر حتى من ذلك هو سطحية الثقافة وضحالة الخيال وقلة الحيلة الإبداعية لدى معظم العاملين في السينما والدراما التليفزيونية.

والدليل على ذلك أن إيران التي تعاني من استبداد سياسي ورجعية تزيد عن مثيلتها في البلاد العربية. لديها مثقفون وفنانون قادرون على صنع إبداعات عظيمة. ولديها في مجال السينما أسماء تعد في طليعة الصف الأول من فناني العالم. من الراحل عباس كياروستامي إلى أصغر فارهادي، ولو عددنا الجوائز الكبرى والتأثير “العالمي” لهذه السينما سيحتاج الأمر إلى كتابة آلاف الصفحات.

فرق عملة!

لقد ناقشت واستمعت وقرأت للكثيرين من صناع الأفلام من بلاد كثيرة، ولاحظت أن هناك فارق ثقافي هائل بين معظم هؤلاء ومعظم الفنانين المصريين. خاصة كتاب السيناريو والمخرجين وبالطبع الممثلين.

ومرة ثانية أؤكد على كلمة “معظم”، فهناك استثناءات قطعا، ولدينا بعض العقول الكبيرة حقا. لكنهم يعانون وسط طوفان السطحية السائد. وهناك بعض المواهب الأصيلة، لكنهم تائهون أو مغيبون وسط الزحام وفوضى السوشيال ميديا.. وفي كل الأحوال محاصرون بالذوق السائد وخطر التصنيف والاستبعاد السياسي وهجمات الرجعية الشرسة.. أو باختصار المناخ العام.

شرط المبدع وشرط المتلقي

الحرية، الخيال، المستوى الثقافي، الشجاعة، شروط أساسية تسبق الإبداع يجب أن تتوفر في المبدعين.

الوعي، الذوق السليم، احتضان الفن الجيد وتشجيع التجريب والابتكار حتى لو لم يكن يعجبنا على المستوى الفردي، شروط مجتمعية تلحق الإبداع، يجب أن تتوفر لدى النقاد والنخب الثقافية والمسؤولين والمشرفين على الإبداع.

تذكر مثلا ما حدث مع الفيلم المصري “الميدان” الذي رشح لأوسكار أفضل فيلم وثائقي، أو فيلم “ريش” الذي نصبت له مذبحة علنية ومنع فعليا من العرض أو الترشح للأوسكار، أو فيلم “أصحاب ولا أعز” الذي لاحقته الحملات واللعنات، وتجارب أخرى كثيرة تبين أن مجتمع المتعلمين المستهلكين للثقافة في مصر لا يقل رجعية عن المواطنين العاديين، إن لم يزد.

ابحث عن المنتج!

وتظهر مشكلة الثقافة هذه كأوضح ما يكون في عالم الإنتاج، إذ يغلب على العاملين بالمهنة صفات التجار ورجال الأعمال الذين لا يشغلهم سوى الربح، ويقيسون كل نجاح بمقاييس السوق والجمهور العام، أغلبهم لم يقرأ كتابا في حياته (باستثناء كتب الدراسة) أو يقرأ كتبا تزيده تفاهة، لم يكتو ليلة بفكرة إبداعية تؤرقه، أو بمشروع غير مسبوق يحلم بتقديمه. وهؤلاء هم المسئولون، في الأول والآخر، عن اختيار الأعمال التي يتم إنتاجها في مصر.

مرة ثالثة: هناك استثناءات، إذ يوجد بعض المنتجين “الفنانين”، لديهم بعض الطموحات والأحلام، حتى لو كانت بسيطة ، إلا أنهم يعانون في السنوات الأخيرة من حصار وتهميش وحرب مباشرة أحيانا، فليس مسموحا في سوق التسطيح الثقافي بمنتج لديه عقل، خاصة إذا فكر في تشغيله!

وقد تحولت معادلات الإنتاج في مصر إلى لوغاريتمات معقدة تستحق مقالا قادما مفصلا.

اقرأ أيضا:

بين «كيرة والجن».. و«النمس والجن»

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر