القاهرتان (11): عالمان في حالة تضاد

كان من تداعيات تشييد المدينة الحديثة – قاهرة إسماعيل- على حدود المدينة القديمة – قاهرة المعز- أن ظهر للوجود كيانان متناقضان عمرانيًا ومجتمعيًا واقتصاديًا. وربما كانت المسافة بين القاهرة الحديثة والقديمة لا تعدو إلا أن تكون شرخًا وقت إنشاء هذه الأخيرة في عهد إسماعيل، لكن – وفي ظل ظروف سياسية ومجتمعية سيأتي بيانها – اتسع الهوة واستحال الشرخ إلى فجوة كبرى ساهمت بدورها في حدوث تداعيات من نوع جديد تبعًا لتطور الأوضاع في مصر وفي العالم.

وكما هو معلوم فقد شهدت نهاية عهد إسماعيل نشأة حركة وطنية ضد سياساته لم تنته بعزله وإنما تحولت إلى تمرد عسكري قاده عناصر من الضباط والجنود بالجيش المصري. تذمر هؤلاء من سياسات الخديو محمد توفيق – خليفة إسماعيل وابنه – الداخلية لاسيما تفضيله العناصر التركية والشركسية مع موالاة الأوروبيين على حساب المصريين.

اشتعلت الثورة في الجيش بقيادة أحد تلاميذ جمال الدين الأفغاني هو الأميرالاي أحمد عرابي – عرابي باشا فيما بعد – وتوالت الحوادث من مظاهرة عابدين الشهيرة إلى مذبحة وقصف الإسكندرية من الأسطول البريطاني و وصولًا لهزيمة الثورة على يد الإنجليز في معركة التل الكبير التي تبعها احتلال بريطانيا لمصر عسكريًا  ابتداءً من سنة 1882 ولمدة 72 عامًا.

**

وعلى الرغم من الميلودراما السياسية التي سيطرت على الواقع المصري بعد ثلاث سنوات فقط من عهد إسماعيل. فإن القاهرة كانت تواصل نموها بسرعة: فخلال 19 سنة فقط من بداية عصر إسماعيل حتى دخول الإنجليز مصر ازداد عدد السكان في القاهرة من 305 ألف نسمة إلى 374 ألفًا منهم 19 ألف نسمة من الأجانب. كما أن محيط المدينة قد تضاعف ووصلت مساحتها إلى 1260 هكتارًا.

ساعد النمو المتسارع للمدينة في ظل سلطة الاحتلال البريطاني ومقاومة الحركات الوطنية لها التكريس لفكرة المواجهة بين القاهرتين: أحداهما ينظر إليها على أنها مدينة حديثة أوروبية بينما الأخرى تُعتبر تقليدية محلية بحسب أندريه ريموند، الذي يرى أن الاحتلال البريطاني قد أضاف للفروق بين القاهرتين طابعًا وطنيًا استحال معه رأب الصدع بينهما. هذا التباين الفراغي والمجتمعي بين القاهرتين عبرت عنه مقولة بيرك الشاعرية والمشهورة عن القاهرة بأنها قد أصبحت “كالإناء المشروخ إلى نصفين لن يلتئما أبدًا”.

على المستوى العمراني والفراغي نجد أن المدينة الحديثة قد شيدت على أسس تعتمد التخطيط المسبق بحيث تتجلى فيه قدرة المصمم العمراني في تنسيق الشوارع العريضة وفي بناء علاقات فراغية بين الأشكال الهندسية الصريحة. ومن ثم تم عمل حساب زوايا الرؤية المنظورية والتناص بين المباني وفي الشوارع والميادين عند تصميمها.

**

وعلى العكس من النمط الإسكاني المعروف بالاختلاف والتجانس في المدينة القديمة شيدت المباني على النسق الغربي فأصبحت العمارة السكنية مكونة من عدة وحدات منمذجة ظهرت على أطرافها البلكونات وحل فيها الزجاج في النوافذ المستطيلة محل المشربيات الخشبية المشغولة التي كانت تحقق الخصوصية والمنفعة البيئية في مساكن المدينة القديمة.

أما على مستوى الطرز المعمارية، فقد تم هجر الطراز التقليدي العربي في المدينة الحديثة لصالح الطرز الأوروبية المسماة إجمالا بالطراز الرومي الجديد أو العمارة “الألافرانكا” à la franca. ووجدت هذه الطرز من يمتدحها كعلي باشا مبارك بأنها “مبهجة للناظرين، جيدة النتظيم وأقل تكلفة”.

هذا الصراع بين الطرز الحديثة والقديمة كانت نتيجته تحد معماري جريء للقديم لصالح الحديث، وصف جاك بيرك هذا التحدي ببراعة: “وتنمو بالفعل مناطق جديدة حيث يهين الانتشار الحاسم لطراز الباروك الإيطالي طراز العصر المملوكي ذي المقياس التذكاري”.

**

بدا أن القاهرتين في حالة من التضاد الواضح حتى أن المدينة الأم “أصبحت تدهش زائرها للوهلة الأولى بسبب عنف التناقضات التي فككتها”.. كذلك يفترض بيرك. من بين هؤلاء الزوار الرحالة C. des Perrières، مؤلف كتاب باريسي في القاهرة Parisien au Caire، الذي نُشر في عام 1873، وفيه يتناول دي بيريار إقامته في القاهرة في سبعينيات القرن التاسع عشر بعد تشييد المرحلة الأولى من قاهرة إسماعيل.

تساءل دي بيريار بأسف بالغ عن جدوى استعارة الطراز الإيطالي في بنايات القاهرة. ينضم دي بيريار بذلك إلى قائمة من المستشرقين الرحالة الذين انتقدوا الأنماط البنائية في القاهرة الحديثة. معبرين عن دهشتهم من التحولات الجذرية التي طرأت على المدينة الأم بشكل عام.

مع ذلك، فإنه ينبغي لنا أن نؤكد على أن معظم هؤلاء غالبًا ما كانوا ينشدون شرقًا تملؤه “الأزقة المتعرجة والمشربيات”. ويصف أحد هؤلاء المستشرقين الفجوة بين صورة الشرق المطبوعة في ذهنه وصورة مدينة القاهرة بعد إسماعيل: “إن من يرغب في معرفة حياة الشرق، ثم يزور القاهرة لأجل ذلك، لن يسعه في الحقيقة إلا أن يسرع بالمغادرة”.

**

وفي عام 1873، أرسل قنصل الولايات المتحدة، السيد بيردولي، تقريرًا إلى وزير الأشغال العامة في بلاده قدم فيه رأيًا وجيهًا التحول الجذري للقاهرة في إطار عرضه للأحياء الحديثة التي تم إنشاؤها، ختم بيردولي تقريره بجملة استنتاجية شديدة الدلالة “نرى من جميع النواحي علامات للتحديث تذكرنا بطاقات الغرب بأكثر مما تذكرنا بعادات الشرق”.

من المؤكد أن هذا التضاد المعماري والعمراني كان مفتتحًا لانفصال مجتمعي وثقافي بين القاهرتين كما تؤكد عالمة الاجتماع جانيت أبو لغد: “وهكذا بحلول نهاية القرن التاسع عشر كانت القاهرة تتألف من مجتمعين ماديين متمايزين، تفصل أحدهما عن الآخر حواجز أعمق بكثير من من الحد الجغرافي البسيط الذي رسم حدودهما”.

أصبح الاتصال بين المدينتين – أو بالأحرى العالمين – مشروطًا وقائمًا على التمييز المجتمعي بحسب الكاتبة الإنجليزية أرتميس كوبرالتي تؤكد على أن “التواصل بين العالمين كان في أضيق الحدود باستثناء المعاملات التجارية”.

ومثلًا – بحسب كوبر أيضًا- لم يكن للأجانب المقيمين في القاهرة الحديثة ولا للنخب المصرية الناطقة باللغة الإنجليزية أي صلة مجتمعية مع المصريين المقيمين بالمدينة القديمة والذين لغتهم هي العربية.

اقرأ أيضا

القاهرتان (10): هل كانت قاهرة إسماعيل باريسًا على ضفاف النيل؟

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر