الجذور السحرية لـ«الست الشلق»

تتمتع الست الشلق بمكانة خرافية في محيطها الاجتماعي، كما تتمتع  بقدرة عجيبة على مغادرة نموذجها التقليدي، والتجسد في صيغٍ جديدة. لا تقتصر على النساء، ولا تستخدم نفس الألفاظ والحركات، صيغٍ نقابلها كثيرا في وسائل الاتصال الحديثة وقد نحسبها بعيدة كل البعد عن النموذج القديم، وهي في الجوهر مجرد صورة له.

لم تحظ مظاهر العنف الشعبي ومنها “التشليق” بدراسات ميدانية تقف على سماتها ودلالتها. وتقدم لنا سجلا يحتوي على معجمها اللفظي والحركي. ويمنحنا الفرصة المناسبة لتأملها وتتبع تفاعلها مع الأيام بمتغيراتها الكثيرة، ورغم شعورنا بأن الوقت فات على هذا العمل الميداني إلا أن الحاضر يكشف حاجتنا إليه، ويدعونا لمطالبة المؤسسات المختصة بتدارك هذا القصور.

** 

ترتبط صورة التشليق في أذهاننا بخبرات شخصية فردية لم تتبلور في كتابات. ومن ثم فهي خبرات متناثرة وضائعة في النهاية، ونحن نعتمد في تكوين صورة التشليق بدرجة أكبر على صورة  المجتمع  المصري كما طرحتها الأعمال الفنية المختلفة  منذ ظهورها في النصف الأول من القرن العشرين.

الست الشلق تحضر بقوة في السينما، وعندما نبحث عن صورتها نجدها تتجسد في فنانات ارتبطن بهذا الدور. كما هو الحال مع زينات صدقي ووداد حمدي وسهير الباروني وغيرهن من اللواتي يجمعن بين سلاطة اللسان وخفة الدم.  على النحو الذي يميل بالتشليق من عالم القبح إلى عالم الجمال. وفي هذا الميل شيء سحري، قد يعود إلى سحر الفن، وقد يعود إلى سحر كامن في الردح والتشليق.

الصورة التي تطرحها الأعمال الفنية لم تظهر من فراغ. لأنها تعكس الواقع بدرجات مختلفة. لكنها لا تتوقف عند حدود الواقع بل ترتبط أيضا بالخيال، وتوظيف المادة الواقعية لخدمة رؤية المبدعين، وهي وإن كانت لا تتطابق مع الواقع. لكنها بحكم تفاعلها وانتشارها قد تتحول إلى رافد يغذي الظاهرة. ويلعب دورا في تجلياتها الجديدة التي نطالعها ونحن نغادر عالم الحارة إلى عالم الإنترنت.

** 

الأعمال الفنية تقدم صورة “للتشليق” باعتباره واحدا من أبرز علامات الحياة الشعبية. وفي مقال يرجع لسنة 1956،  يستعرض يحي حقي الصورة التي رسمها الريحاني للمجتمع المصري، فيذهب إلى أن المصريين في مسرح الريحاني: “قوم طيبتهم بلاهة، وغزلهم تلعيب حواجب، يحبون الحكم والمواعظ الفارغة، سريع غضبهم لا يتمالكون أعصابهم، يثورون للتافه من الأمور، فلو ألقيت على أحدهم تحية الصباح لانحدر عليك سيل من الردح والتشليق”.

يرفض يحي حقي صورة المجتمع كما تطرحها أعمال الريحاني. قائلا: “حرام أن يُدْمغ الشعب المصري النبيل الأنوف الكريم الودود بمثل هذه الصورة البشعة. ولن تكون هذه النظرة إلى شعب مصر إلا نظرة أجنبي تخدعه بعض المظاهر فينساق في الترويج لها، والإلحاح بتبيانها كأنها كل شيء ولا شيء هناك غيرها. وشأنه في ذلك شأن الزائر المتعجل أو المقيم الذي لم يندمج.

ولماذا نلوم الريحاني وحده ولا نقول أنه كان من مظاهر عهد بائد اختلطت فيه القيم وأحيط الشعب المصري بحملة ضخمة من التدليس والخداع”؟

يؤكد يحى حقي هنا وجود الردح والتشليق في تلك الفترة. ليرسخ الصورة الفنية بوصفها مرآة تعكس الواقع. لكنه يحذرنا من الفارق أو التشوهات التي تنتج من التركيز على صفات معينة وتجاهل صفات أخرى. ويظهر بسبب النظرة المتعجلة، أو نظرة الزائر الذي لا يفهم الواقع فهما عميقا. وقد يحدث التشويه بسوء نية، وكجزء من حملة خداع وتدليس يقوم بها النظام الملكي لتشويه الطبقة الشعبية، ورفع مقام الأسرة الحاكمة.

** 

لاشك أن ظاهرة “التشليق” ترتبط بأبعاد كثيرة. ولا يتوقف حضورها على صورة الحارة المصرية في بداية القرن العشرين، بل تعود إلى أزمنة بعيدة.

“الست الشلق” نعثر عليها في مصر القديمة. وكما يقول سامح مقار في كتابه “أصل الألفاظ العامية من اللغة المصرية القديمة”، ترجع كلمة “شلق” إلى أصل قبطي وهو (شلاك). وتعني (امتداد، مط، وتوتر، وانفعال). وفعل الكلمة هو (شولك) وتعني (يمتد، يتصلب، يقوى). فعندما نقول هذه المرأة “شلق” نقصد أن ألفاظها بذيئة وممطوطة. ومنها “تشلق” بمعنى تقول ألفاظا نابية.

لا يقتصر الأصل المصري القديم على تلك المفردة وحدها. بل توجد ألفاظ نابية كثيرة يرجع أصلها حرفيا إلى مصر القديمة. وقد أفرد لها سامح مقار فصلا مستقلا في كتابه بعنوان “الشتائم والسباب”.

مناخ الردح والتشليق كان قائما في مصر القديمة. وبشكل يتطابق مع مناخ الحارة المصرية في بداية القرن العشرين. وهذا يعني ضرورة الرجوع للزمن البعيد من أجل فهم الظاهرة بشكل عميق.

** 

الرجوع بأصل التشليق إلى مصر القديمة يعني الرجوع إلى أشياء كثيرة في مقدمتها  السحر، منبع الردح والتشليق في تقديرنا. حيث الاعتقاد في القوة السحرية للكلمات، والإيمان بقدرتها على إحداث الأذى في الخصوم. وهذا موجود بقوة في ثقافة مصر القديمة، وشواهده كثيرة جدا، ومن أبرزها تلك التعاويذ التي تُكتب على القبور لحمايتها من اللصوص.

حتى الهجاء في الثقافة العربية يعود إلى تلك الأصول السحرية القديمة. وقد كان الشاعر الجاهلي إذا أراد الهجاء يمارس طقوسا لها دلالتها السحرية. كأن يلبس حلة ويقلبها. أو يحلق رأسه إلا ذؤابتين. أو يدهن بالزيت شقا منه ويترك شقا. أو ينتعل فردتي حذائه متخالفتين أو يمشي بنعل واحد. وتلك الأفعال ليست مجانية. بل هي رموز تعبر عن معتقدات قوية وراسخة.

تكتسب الست الشلق مكانتها الخرافية، بفضل عوامل مختلفة، من أهمها المعتقدات السحرية القديمة، والكامنة بشكل ما في ثقافتنا حتى الآن. وبفضل العقلية الخرافية العنيدة والمقنَّعة  تظهر “الست الشلق”  في صيغٍ جديدة لا تقتصر على النساء. وتنشط الشتائم دون الشعور بقبحها. ويصبح التلذذ بالألفاظ النابية سمة عامة لا ترتبط بعالم الحارة الشفاهي. بل تمتد ـ  في أحوال كثيرة ـ  إلى صفوة المتعلمين. ونراها تزدهر من خلال أصابعهم وهي تضغط على لوحة المفاتيح في أجهزة الكتابة الإليكترونية.

اقرأ أيضا:

فن «الردح» من قاع المدينة إلى الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر