الكتابة على الجدران.. عادة تاريخية في القاهرة

بعض الظواهر في مدينة القاهرة أقدم مما نتصور، تظهر امتداداتها عبر الزمن إلى قرون عديدة ولت. فالمرء عندما يتجول في شوارع القاهرة بامتدادها العمراني، سيجد الكثير من الكتابات على جدران المدينة، تحكي قصة حب لمراهقيْن. أو دعاية لأديب لا يقرأ له أحد، أو دعوة للتسجيل مع إمبراطور الكيمياء أو هيرودوت التاريخ من أشكال الدعاية لمدرسي الدروس الخصوصية. أو حتى شعارات سياسية غاضبة من حكومات غاربة وحالية. لكن من يتخيل أن الصراع على جدران القاهرة بدأ مبكرا جدا، في قرون بعيدة لدرجة أن قصصها سقطت من الذاكرة.

يعود استخدام حوائط المدينة لأول مرة في ما هو معلوم لنا في الصراع بين السلطة الفاطمية الشيعية وسكان الفسطاط من السنة أي في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي. الفاطميون حرصوا على نشر عقائدهم وأفكارهم المذهبية بشكل يكتسح مدينة الفسطاط التي كان المركز السكاني والتجاري والثقافي. في حين كانت القاهرة هي المركز السياسي في العاصمة. لذا نجد الخليفة الحاكم بأمر الله يأمر في سنة 395 هـ/ 1004م، بكتابة شعارات فيه إساءة لبعض الصحابة على جدران المساجد وفي الأسواق والشوارع.

ولم تكن مثل هذه القرارات العنيفة لتمر مرور الكرام. فكان رد الفعل السني من الأهالي يتمثل في إزالة هذه العبارات وكتابة أخرى مضادة للفاطميين بل وتحمل إهانة مباشرة للخلفاء الفاطميين ذاتهم. ونتيجة لحركة الرفض كانت السلطة الفاطمية تتراجع عن مثل هذه الكتابات الاستفزازية وتجبر على إزالتها. لكن ظاهرة الكتابة على جدران المدينة استمرت بعد ذلك. كظاهرة يتحدث بها الصامتون ويتركون أثرهم على جدران تتنكر لهم. وهي ظاهرة يمكن أن نطلق عليها الاستخدام الرسمي والشعبي للجدران لتوصيل رسائل مختلفة كما نلاحظها في شوارع القاهرة حتى يوم الناس هذا.

**

وفي العصر المملوكي نجد أكثر من واقعة تتعلق باستخدام الجدران لتوصيل عدة رسائل. إذ يذكر المقريزي قصة شمس الدين محمد المغيربي، الذي دخل التاريخ من باب ضيق. إذ وضع اسمه على جدران المدينة مشيعا باللعنات والسب على يد أحد خصومه الذي لم يجد أفضل من التشنيع عليه عبر جدران العاصمة المصرية.

ويشيد المقريزي في كتابه (درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة) بصديقه المغيربي، الذي كان له “معرفة بسياسة أموره، وخبرة بأمر دنياه”. لكنه يذكر واقعة تتعلق بشخص آخر من أهل المدينة المنورة، يعرف بأبي الطيب محمد الفوي. تعرض للمغيربي باتهامات خطيرة تتعلق باختلاس أموال وقف الحرمين الشريفين. ويبدو أن الفوي كان حانقا بشدة على المغيربي. فأراد أن يسبب له إهانة مباشرة “فملأ حيطان القاهرة ومصر (الفسطاط) والقرافتين بالكتابة عليها: لعن الله محمد بن فهيد المغيربي آكل وقف الحرمين”.

واقعة أخرى يذكرها المقريزي في (السلوك لمعرفة دول الملوك)، تلخص الاستخدام “الوطني” إذ جاز لنا استخدام هذه الكلمة. فخلال التوتر الكبير في العلاقات بين دولة المماليك وتيمور لنك. اعتبر وجود الأعاجم أي الفرس والقادمين من بلاد المشرق الخاضعة لحكم غازي الشرق الرهيب. إذ نظر إليهم باعتبارهم جواسيس لتيمور لنك. وفي الحقيقة كان هناك بينهم بعض الجواسيس. لذا تصاعدت مشاعر كراهية الأجانب من المشرقيين أو الأعاجم من قبل السلطة المملوكية والرعية في مدينة القاهرة على حد سواء.

**

يسرد المقريزي لنا في وقائع سنة 803هـ/ 1400م، أنه “نودي أن لا يقيم بديار مصر عجمي، وأجلوا ثلاثة أيام، وهدد من تأخر بعدها. فلم يتم من ذلك شيء. ولهج الناس بالكتابة على الحيطان: من نصرة الإسلام قتل الأعجام”. هنا نجد مرة أخرى استخدام الكتابة على الحوائط لتوصيل رسائل ذات بعد سياسي، وموقف شعبي يتماهى مع قرار السلطة. وربما تكون السلطة هي من دفعت لكتابة هذا الشعار على حوائط مدينة القاهرة رغبة في الحشد الشعبي خلفها في مواجهة أزماتها الداخلية قبل الخارجية.

وقبل انعطافة العصر الحديث نجد المحتل الفرنسي (1798- 1801م)، يستخدم حوائط المدينة لتوجيه خطابه السياسي إلى المصريين بما في ذلك محاولة استجلاب المصريين إليهم. فمن ذلك ما ذكره الجبرتي في كتابه (تاريخ مدة الفرنسيس بمصر). من كتابة الفرنسيين عدة أوراق مطبوعة ولصقوها بالأسواق. وكان مضمونها: “إن يوم الجمعة حادي عشرينه (جمادى الأولى 1203هـ/ 1798م) قصدنا نطير مركبًا ببركة الأزبكية في الهواء بحيلة للطايفة الفرنساوية. فكثر لغط الناس في كعادتهم”. لكن الدعاية الفرنسية أتت أكلها إذا تجمع أهالي القاهرة لمشاهدة الأمر في بركة الأزبكية. وكان الجبرتي نفسه ضمن الحضور لمشاهدة تلك “العجيبة”، الذي عبر عن إحباطه من كذب الدعاية الفرنسية. يقول: “ولم يتبين صحة ما قالوه من أنها على هيئة مركب يجلس بها أنفار من الناس. ويسافروا فيها إلى البلاد لكشف الأخبار. وغير ذلك من التمويهات، بل ظهر أنها مثل الطيارات التي يصنعونها الفراشون بالمواسم والأفراح”.

ظلت الكتابة على الحوائط تشغل السلطة وجميع طبقات المجتمع قبل العصر الحديث. إذ كانت بمثابة الأداة الإذاعية الأولى قبل اختراع الصحافة ومن ثمة بقية وسائل الدعاية الحديثة. لذا لا يمكن لنا أن نتجاهل هنا عملية كتابة أسماء الخلفاء والسلاطين على المنشآت الدينية كجزء من محاولات السلطة للترويج لها ولأصحابها عبر استغلال المنشآت ذات الطابع الديني والاجتماعي. لا تكاد تخلو منشأة من تلك العصور من أسماء وألقاب من أنشأها. بل أن الحرص تواصل إلى تسجيل أسماء من يعمل على ترميم المنشآت السابقة على عهده. لذا نجد أسماء خلفاء فاطميين ووزيرهم القوى بدر الجمالي على جدران منشأة طولونية مثل جامع أحمد بن طولون.

**

ورغم أن العصر الحديث شهد انفجار وسائل الدعاية إلا أن حوائط المدينة ظلت حاضرة بقوة على المستوى الرسمي والشعبي. فعند أي انتخابات تتحول الجدران إلى ساحة يتنافس فيها المتنافسون على المقاعد البرلمانية والرئاسية. وعلى المستوى الشعبي ظلت الجدران تحمل هتاف الصامتين بتعبير العظيم الراحل سيد عويس. فلا يمكن أن ننسى أن الكتابة على الجدران كانت ولعا مصريا قديما منذ أقدم العصور المسجلة.

إذ يمكن من خلالها تتبع بعض قصص الحب الطريفة مثل تلك التي كتبها مراهق: “بحبك يا كوكو”، “سامحيني يا كوكو”، “وحشتيني يا كوكو”. من هذه الجمل الثلاث القصيرة نستطيع أن نتخيل علاقة حب انتهت بخيانة يعود المراهق بعدها لمحاولة إصلاح علاقته بحبيبته التي هجرته. أو لحظات التعبير عن الرفض للمظالم الاجتماعية والاقتصادية. وصولا إلى الاعتراض السياسي على السلطة. يمكن في النهاية القول إن كتابات الحوائط على مدار تاريخ العاصمة المصرية منذ الفسطاط حتى العصر الحديث كانت سجلا أمينا على تحولات المصريين وتفاصيل حياتهم بصورة أكبر مما نتخيل وأعمق كثيرًا.

اقرأ أيضا:

«القاهرة» عاصمة الطعام الجاهز قبل العصر الحديث

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر