30 عاما على رحيله: «عاطف الطيب».. والعمر، لو تدري، قصير

وعندما تقدم بخطى ثابتة مع زوجته وأخيه إلى غرفة العمليات، توقف وقال لهم:
هل تسمعون؟
قالوا: نسمع ماذا؟
قال: أسمع الموسيقى.. ألا تسمعون الموسيقى؟
كان دائما في عجلة من أمره، يعمل ما يقارب عشرين ساعة في اليوم. في فيلمه الأخير، أحس بمعاناة آلام القلب الكامنة منذ سنين، والمتزايدة نتيجة نهم العمل. نصحه الأصدقاء بإجراء عملية القلب المفتوح في الخارج، وأن يطلب العلاج على نفقة الدولة، لكن عاطف قال: سأجري الجراحة هنا، وعلى نفقتي الخاصة. كان عنيدا، ورفض كل توسلات المحبين بالتأجيل أو إجراء العملية في الخارج. فحدد الموعد، وأصر عليه.
من حي باب الشعرية إلى شريط السينما
حسبما ورد في كتاب «الطيب» لمحمد هاني، الكتاب التذكاري لمهرجان القاهرة السينمائي في دورته التاسعة عشرة، والصادر بعد وفاة «عاطف الطيب» المفجعة بشهور، ففي بيت متواضع بحي باب الشعرية، بأواخر عام 1947، كان عبد الله الطيب وزينب هاشم ينتظران قدوم مولودهما. وكان الأب يتمنى هذه المرة أن يرزق بولد، بعد أربع بنات، ليحمل اسم العائلة التي تعود أصولها إلى “نجع الدلمه” بقرية الشورانية مركز المراغة بسوهاج.
وجاء عاطف.. قالت الأم لجيرانها إنها أنجبت فتاة، خوفا من الحسد. ولأن شقاوته أصبحت “زيادة عن اللزوم”، فيما بعد، فقد ظلت الأم تشعر، وأحيانا تصرخ، بأنه “ابن موت”.
كبر عاطف، ولم يحتفظ في ذاكرته من أيام الطفولة المبكرة سوى بشعور أمه ذاك، وبعده بسنوات قليلة، مشهد شديد القسوة لإفلاس أبيه.
ظل مشهد بيع محل الألبان الذي كان يملكه الأب في حي الدقي، صورة مؤلمة لا تنسى. كان عاطف صبيا لم يتجاوز الثالثة عشر، عندما رأى أول مزاد علني في حياته، حيث كان يُباع محلهم على مرأى من الناس. تلك الأزمة القاسية لم تمنع والده من التصميم على أن يواصل ابنه التعليم، كما لم تمنعه من قبول اقتراح عاطف بالعمل لمساعدته إلى جانب الدراسة. عمل عاطف بائع لبن متجولا، ولم يخجل من ذكر ذلك أبدا.

بداية الحلم من معهد السينما
دخل عاطف فريق التمثيل في المدرسة، وبدأ يكتشف الفن، الذي حل محل لعب الكرة في الشارع، وانتقل إلى الجلوس في قصور الثقافة، مشاهدا للمسرحيات والأفلام. أصبح مشاهداً مثاليا لأفلام السينما، وعشق القراءة، وكانت لأعمال نجيب محفوظ قوة مؤثرة في تكوينه. زاد عشقه للفن، وبدأ يرى الحياة وكأنها شريط سينمائي، وبعد حصوله على الثانوية العامة، اختار الالتحاق بمعهد السينما، قسم الإخراج.
قال مرة: “أحسست أن وراء هذه الشاشة شخصا واحداً هو المبتكر الوحيد لما نراه. وعندما وضعت نفسي في مكانه، أحسست بمتعة لم أختبرها من قبل”.
لم يكن عاطف يحلم بالثراء، بل كان فقط بالنجاح. قال: “ظل الفقر يحاصرني ويطاردني، بلا تعب، حتى أنقذني منه النجاح. كنت طالبا مفلسا، ومصروفي في أيام العز لم يكن يزيد عن عشرة قروش، وكثيراً ما كنت أمشي من بيتنا في بولاق الدكرور وحتى معهد السينما بمنطقة الهرم، لأوفر ثمن المواصلات. وأحيانا أركب الأتوبيس وأهرب من الكمساري. ورغم ذلك، كنت راضيا عن حياتي”.
من الصمت في المعهد إلى صوت السينما العالي
أثناء الدراسة في المعهد، كان عاطف الطيب طالبا هادئا وصامتا، ولم يكن يبدو عليه أنه سيصبح أحد أهم مخرجي جيله. يقول المخرج صلاح أبو سيف: “مازلت أذكره، ذلك الشاب الذي ظل طوال سنوات تدريسي لدفعته بمعهد السينما، يجلس في مكان واحد لا يتغير، جوار الشباك بقاعة المحاضرات.
أحيانا يسمعني، وأحيانا يسرح ببصره إلى الخارج. ولا أذكر أنه وجه لي سؤالا مثل زملائه، أو شارك في مناقشة. لذلك، لم أعطه اهتماما خاصا، ولم أضعه ضمن الطلبة الذين توقعت لهم مستقبلا سينمائيا، بل لم أتصور أصلا أن هناك أملا في أن يصبح مخرجا”.
بعد التخرج، التحق عاطف مجندا بالقوات المسلحة، في قسم التصوير السينمائي بإدارة الشؤون المعنوية. وهناك بدأت صداقته مع خيري بشارة، الذي كان يخرج وقتها أول أعماله التسجيلية صائد الدبابات، وكان عاطف هو مندوب الشؤون المعنوية المرافق له. كما عمل مساعدا لشادي عبد السلام في فيلم جيوش الشمس.
بداية الرحلة السينمائية
بعد انتهاء مدة التجنيد، التي قاربت خمس سنوات، أخرج فيلمين تسجيليين: جريدة الصباح، ومقايضة، من خلال مركز الفيلم التجريبي برئاسة شادي عبد السلام آنذاك. كما عمل مساعداً للإخراج، ومدير إنتاج بعض الأعمال ذات الإنتاج المشترك التي كانت تصور في مصر. وقد أكسبته تلك السنوات خبرة واسعة، مكنته من إنتاج أول أعماله الروائية الغيرة القاتلة بتمويل ذاتي.
قدم “عاطف” فيلمه الأول في عرض خاص لمجموعة من الزملاء والنقاد، لكن الفيلم قوبل بهجوم نقدي قاس، لدرجة أنه بكى بسبب مقال كتبه الناقد سمير فريد في جريدة الجمهورية، طالبه فيه بالتوقف عن الإخراج!
لكن رأى زملائه كان مغايرا، بل دفع محمد خان إلى دعمه، فقال: “شعرت أن عاطف مشروع مخرج مختلف، وشجعني هذا الانطباع أن أعرض عليه أنا وبشير الديك فيلم سواق الأتوبيس، الذي كنا قد كتبناه، شعرت أنه المخرج المناسب لهذا الفيلم، أكثر مني”.
صرخة الانتصار في وجه القهر
هكذا أخرج عاطف سواق الأتوبيس، الفيلم الأجمل والأهم في مسيرته. بدأ الفيلم بمشهد سرقة في أتوبيس يقوده حسن، الذي لم يهتم بالحادث واستكمل خط سيره. وانتهى بنفس المشهد، لكن حسن قرر هذه المرة القفز خلف السارق، وركض وراءه حتى تمكن منه، ثم أفرغ في وجهه طاقة القهر والوجع، بلكمات متتالية صاحبها صرخته: “يا ولاد الكلب!”
وكأنها صرخة انتصاره لنفسه، من كم الإحباط المخزون داخله، نتيجة الظروف وقسوتها، والعالم وفساده، وفقدان محل ألبان والده في المزاد، وغلق ورشة “المعلم سلطان” وموته تحسرا، بعد أن عاش بين المشهدين أحداث الفيلم كاملة، أو أحداث حياته وتجربة قاسيّة على المستوى الشخصي، دفعته للخروج من نفسه.

الانفتاح الاقتصادي وهزيمة الحالمين
في فيلم سواق الأتوبيس نحن أمام مجتمع ما بعد حرب 1973، في محاولة لمواجهة ما أفرزته مرحلة الانفتاح من قيم استهلاكية. نلمس من خلال الفيلم مدى التغير الطارئ على المجتمع، وتحوله السريع بعد تفكيك الناصرية، وكأن سطوة التجربة الناصرية لم تدم إلا بورشة “المعلم سلطان”، حيث لا تزال صورة عبد الناصر معلقة على الجدران بعد أحد عشر عاما من وفاته.
إننا أمام فيلم ينتقد بقوة ذلك التغيير الذي حل بالناس العاديين في عصر الانفتاح. سواق الأتوبيس، نتاج الفترة التي صنع فيها، في محاولة رصد وتأمل التغيرات الدقيقة في الأخلاقيات والمعاملات والمشاعر، وكذلك الروابط والآثار النفسية المترتبة على تلك التغيرات.
حسن أو عاطف: من خنادق الحرب إلى متاهة الحياة
حسن، أو “عاطف”، الذي خاض الحروب، وأمضى سنوات شبابه على خط النار، كان عليه بعد انتهاء المعارك أن يخوض حربا أخرى حياتية. كانت صدمته بعد كل هذا العناء والتحدي في الواقع المُر سببًا كافيًا لتمرده، انهارت أحلام جيله تحت أقدام الانفتاح التي فرضتها الرأسمالية، بعد النصر الوحيد في حياته، نصر أكتوبر، الذي دفع ثمنه، لكنه لم يجنٍ ثماره. فكان هو ورفاقه من الحالمين بوطن أفلاطوني هم الخاسرون، هناك من حاربوا ودفعوا الثمن، وهناك من انتصروا!
لم يتوقف عاطف الطيب عن الإخراج. صنع فيلمه الثاني، وكتب عنه هذه المرة سمير فريد قائلا إنه من أجمل ما شاهد. وبعد عشر سنوات من تخرجه، راجع صلاح أبو سيف توقعاته عنه، بعدما شاهد سواق الأتوبيس وقال: “إنه تلميذي القديم نفسه.. الصامت دوما.. هو نفسه الذي أخرج هذا الفيلم المدهش، رأيته على الشاشة مالكاً ومسيطراً على أدواته.
مخرج صاحب فکر سیاسی واجتماعي واضح، يؤمن به ويدافع عنه، وأجاد التعبير بصورة حقيقية عن ذلك الفكر”. وفي رثائه له، قال صلاح أو سيف: ” عندما كنت أشاهد أفلام عاطف الطيب، كثيرا ما كنت أتوقف عند بعض المشاهد كما لو كنت أنا من أخرجها”.
الحب فوق هضبة الهرم: سينما وسيرة
جعل عاطف من بعض أفلامه صورا حية من سيرته الذاتية. تتذكر السيدة أشرف زوجته، التي قابلها أول مرة في نادي سينما القاهرة بشارع قصر النيل، أثناء “أسبوع الفيلم الألماني”، وكان الأصدقاء المشتركون هم من قدموها لبعض. تقول إن عاطف لفت نظرها ببساطته وهدوئه، وأخبرها لاحقا أنه شعر بوجود شيء خاص بينهما.
وقد تم الزواج بعد الانتهاء من فيلم “الحب فوق هضبة الهرم”، الفيلم الذي قال عنه إنه كان يتمنى أن يكون هو بدايته، لأنه شعر، حين قرأ الراوية التي نشرت في مجلة أكتوبر، أن نجيب محفوظ يتحدث عنه شخصيا. وقد قال عنها: ” لا يبهرني في هذا العالم إلا السينما.. وزوجتي”. وقد فارقت الحياة بعد أربعين يوما فقط من رحيله، كأنها كانت تلحق به في صمت.
حكاية رجل في وجوه أبطاله
تقول زوجته: “عاطف كان يقدم لنا نفسه بالصوت والصورة في شخوص أفلامه. أفتكر أن “حسن” في سواق الأتوبيس هو صورة طبق الأصل منه، بشخصيته وشهامته ووقوفه مع أسرته لإنقاذ تجارة والده. ونفس الحكاية مع “منتصر” في فيلم الهروب يشبهه في كل شيء، وكذلك “علي” في الحب فوق هضبة الهرم، وكان عاطف يقول إنه يحلم أن يبدأ مشواره بذلك الفيلم”.
إذا كان عاطف الطيب قد سجل بعضا من سيرته الذاتية في أفلامه، فهو سجل كذلك دفتر أحوال للمجتمع من حوله. قال: “أنا دائما ما يشغلني أن أعبر وأتحدث عن من لم تمنحهم الحياة القاسية القدرة على التعبير عن أنفسهم”.
وكان كثير الترديد لعبارة: “الموت يقترب.. ولابد أن أنجز مشروعاتي بأسرع وقت، لأسدد ديوني”. ويقول: “أحاول أن أصنع أفلاما قابلة للحياة من بعدي”. لذلك، كان طبيعيا أن يترك لنا على شريط السينما 21 فيلما، صنعها خلال 14 عاما، وكأنها تركة ورثها محبي السينما ومحبي عاطف.
قال عن أمانيه: “أريد تحقيق نصف أحلامي في الباقي من عمري..”.
ولكن يا عاطف.. العمر، كما علمت، قصير”.
الصدق وحدة لا يُنسى
يطلقون عليك الآن رائد الواقعية الجديدة.. لكن، بعيدا عن تلك المسميات وتفصيلاتها النظرية والتقنية، كنت يا عاطف واقعيا فيما صنعت، صادقا في أفكارك، نبيلا في تصوراتك وفي طرحك لتلك التصورات. لمست حياتنا وواقعنا، والأهم.. أنك صدقت مع نفسك.
رأينا أنفسنا على شاشة السينما من خلالك، ورأيناك أنت، وأحببناك، وسنبقى على حبك، أرثيناك وسنظل نرثيك، كلما أردنا رثاء أنفسنا.