3 بديهيات غير بديهية: العلاقة «المشبوهة» بين الفن والواقع!

طوال الأسبوع الماضي شاركت أو سمعت أو قرأت مناقشات عدة حول الفن، تدور في مجملها بين فريق لديه مفاهيم ثابتة، تبدو متجانسة، من الأفكار عن كون الفن مرآة للواقع وأنه يجب أن يسمو بالقيم والأخلاق. وأن الفن الردئ يؤثر سلبا على سلوكيات وأخلاق الناس، خاصة الشباب والمراهقين. وأنه قد يؤدي بهم حتى إلى الانحراف أو الإجرام أو الانتحار ومن ثم فلابد من رقابة وتوجيه الفن.

وفي مقابل هذا الفريق هناك فريق يحاول تفنيد الآراء السابقة ويدافع عن حرية الفن والتفكير بعبارات فضفاضة، تبدو غير متماسكة. وهي مناقشات تصل عادة إلى “حارة سد” لا تستطيع أن تتجاوزه. لتنحل إلى فكرة أخرى ومناقشة أخرى وفقا لمبدأ “الديالكتيك” أو “الجدل” الايجابي الذي تحدث عنه هيجل وبعض الفلاسفة.

وهي مناقشة تشبه بشكل عام معظم محاور الجدل التي تسود حياتنا منذ عقود. مثل: عبدالناصر أفضل أم السادات؟ الفن حلال أم حرام؟ التمسك بالتقاليد أفضل أم التحديث؟ الأهلي أفضل أم الزمالك؟ هذا الجدل الذي لا يفضي لشئ أبعد من الجدل. طالما أن كل طرف يجتر الأفكار نفسها، ويكرر الكلمات ذاتها، دون أن يجرب الاستماع إلى الطرف الآخر، أو تغيير العدسة التي ينظر بها إلى العالم، أو العودة إلى التفكير في البديهيات مرة أخرى والتساؤل عن مدى “بديهيتها”.

هل الفن مرآة للواقع، حقا؟

سؤال يحتاج إلى تفكير جاد. هل الفن الفرعوني هو مجرد تسجيل “واقعي” للواقع؟ هل كان الناس بهذه الأحجام؟ وهل كانت الحياة جميلة ووردية كما تصورها اللوحات الملونة؟ ثم هل الفن الفرعوني نوع وأسلوب ومذهب فني واحد؟ وهل كانت قواعده ثوابت لا يمكن المساس بها؟

إذا دققت في التاريخ قليلا سوف تكتشف مراحل التطور التدريجي والانهيار التدريجي لتاريخ الفن الفرعوني وسوف ترى كم وحجم الصراعات التي دارت حوله بين الفنانين وأرباب عملهم. أو بين الفنانين وبعضهم البعض. أو بين مفاهيم الفن لدى فناني الأسر والطبقات والفئات الشعبية المختلفة. وبالرغم من استحالة تصور وجود فنانين مستقلين في عصر الفراعنة كما هو الأمر الآن. لكن الأمر لم يخل من وجود (عمال) فنانين يحاولون “تخريب” المفاهيم السائدة عن الفن والمجتمع وقتها، برسم الملوك في أوضاع شائنة مضحكة. أو بكتابة نصوص تعارض النصوص المقدسة. أو تعترض على المظالم وأوجه القبح السياسية والاجتماعية آنذاك.

حضارات مختلفة

وإذا كان الحال كذلك في حضارة عظيمة موحدة ومنسجمة بشكل لم يكن له مثيل في العالم. فإن الأمر كان أكثر تعقيدا وفوضوية في حضارات أخرى مثل الإغريقية والهندية والعربية والأوروبية، بشكل يحتاج إلى مجلدات وشهور من القراءة لتكوين صورة عامة حول ماهية الفن ووظائفه واستخداماته المختلفة وعلاقته المركبة، المتناقضة، بالواقع.

تأمل تاريخ الفن من شأنه إن يدفعنا إلى إعادة التفكير في كلمات نستخدمها بإفراط مخل مثل “الواقع” و”الواقعية”. ولو فعلنا لاكتشفنا لدهشتنا أنها كلمات حديثة (ليس فقط في اللغة العربية ولكن في سائر اللغات) لا يزيد عمر استخدامها لوصف الفن عن قرن ونصف القرن تقريبا. ولذلك أسباب وظروف سياسية واجتماعية ظهرت في أوروبا الصناعية، قبل أن تنتقل للمجتمعات التي انتقلت إليها مظاهر التحديث السياسي والاجتماعي والصناعي. ولكنها قبل ذلك لم تكن مرتبطة بالفن، ولم يكن هناك مطالبات بأن يكون الفن مرآة “تسجيلية” للواقع أو صورة “صادقة” عنه. بل كان على العكس بديلا ومكملا نفسيا وعقليا للواقع يجب أن يختلف عنه.

فريق المحافظون

بديهة أخرى ينطلق منها فريق “المحافظون” هي أن أعراض “الانحلال” و”الابتذال” التي يعاني منها الفن حاليا هي مظاهر لمرض طارئ حديث (يتمثل غالبا في تقليد الغرب أو في محاولة الغرب لغزو ثقافتنا وعقولنا)، ولا يبذل هؤلاء أي جهد يذكر للتثبت من هذه البديهية، بالرغم من أن امتطاء آلة (أو دابة) الزمن والرجوع بها إلى أي فترة تاريخية “ذهبية” سابقة، سوف يبين لنا بجلاء ووضوح تام مدى هشاشة هذه البديهية.

وإذا حاولت البحث، مثلا، عن واحد من الموضوعات الأكثر إثارة للرعب والجدل في الفن هذه الأيام، وهو الجنس، فجرب أن تعود إلى الفن الفرعوني أو الإغريقي أو العربي في زمن الجاهلية أو بعد الإسلام أو في عصر الدولة العباسية أو المملوكية أو الملكية. وستذهل من كم النصوص “الجنسية” التي تحفل بها كل الفترات التاريخية وكل الحضارات (خاصة العربية!).

وليس الهدف من الإشارة لهذه الحقائق الدفاع عن الحرية أو المثلية الجنسية في أفلام ومسلسلات اليوم بقدر ما هو إقرار لتاريخ يجهله (ويصر على تجاهله) الكثيرون من الذي يحجبون عيونهم بنظارة مذهبة، مهذبة، للماضي، فإذا حدثتهم عنه لهم قالوا لك هذا جزء مرفوض من ماض لا قدر الله له أن يعود. وإذا حدثتهم عن حتمية التطور ومواكبة المستقبل وطبيعة العصر الذي نعيش فيه، قالوا لك هذا حاضر نرفضه لأننا أصحاب ماض مثالي وعظيم نسعى إلى استنساخه أو العودة إليه.

بديهة ثالثة يرفعها فريق “المحافظون” في وجه خصومهم، هي أن الفن يجب أن يعلي من قيم الجمال والحق والأخلاق. وهي بديهة لا يمكن التشكيك بها. لكن بعد أن نسأل أولا عن معنى الكلمات المستخدمة: ما هو الجمال؟ والحق؟ والأخلاق؟ وما هي الطريقة الفنية المثلى لـ”إعلاء” هذه القيم؟

أسئلة أطرحها للنقاش حتى المقال القادم.

اقرأ أيضا

هوجة «أصحاب ولا أعز» : الواقع في مجتمع واقع!

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر