“النيل” عندما غنى.. كيف ربط المصريون أفراحهم وأحزانهم بالنهر؟

“سأرتقي صفحة النيل، ومعي حزمة من الغاب أحملها على كاهلي، سأذهب الليلة، فالنهر خمر، وتباح غابه، وسخمت لوتسه، وأيارت براعمه، ونفرتم زهوره…” هكذا تغنى المصري القديم بالنيل وله…

الأغاني التي ارتبطت بالعمل هي أقدم أنواع الفن الشعبي، والأعمال التي ارتبطت بـ“النيل” هي أقدم أنواع الأعمال أيضًا.

سليم حسن، أحد أبرز علماء الآثار، الذي يرى أن الغناء تأصلت جذوره الأولى في أرض الفراعنة، يقول في كتابه الموسوعي “مصر القديمة”: الفلاح والصانع كانا يستعينان على عملهما الشاق بالغناء المتواضع، حتى لقد كان الغناء جزءًا من العمل الذي يؤديه العامل، يدلنا على ذلك أن المثَّال كان يضيف إلى تمثاله الذي صوره الأغنية التي تناسبه.

والفلاح أو الزارع عندما يعمل لساعات طويلة متأخرة من الليل، في ري الأرض، ماذا يجد أمامه إلا النيل ليحكي له ويبثه شكواه وحزنه بل وحبه وعشقه، أليس النيل “حمَّال الهموم” الملك الذي “يطيب” لحم كل من خاضه، لكن كيف يطيب لحم من خاضه؟

أرقُّ ما يكون الشوق

بلد الحبايب بعيد.. نوحي يا عين

يامن يجيب لي حبيبي وياخد من عيوني عين

النيل هدف جرف وأنا دمعي هدف جرفين

دموع الشاعر لكثرتها غلبت مياه النيل، أليس الشاعر وُفِقَ في مبالغته المحمودة تلك؟ إنَّ أصدق الشعر أكذبه.

كان النيل وراء المصري حين يولد وحين يموت وحين يغني وحين يحتفل وحين يقص وحين يطلق المثل الحكمة بل حتى حين يتسلى بالفوازير، وأرق ما يكون الشوق إذا مر عبر النيل…

والقصر دا ما اطلعه

 كان حبيبي فيه

والفل دا ما اقطفه

بياض جبينه فيه

والبحر دا ما اشربه

 سافر حبيبي فيه

والبحر إذا أطلق دون صفة أو إضافة فهو نهر النيل، هكذا يقول درويش الأسيوطي في كتابه أفراح الصعيد.

شلباية البحر في ليلة العمر عجبتيني

مدي دلالك على البحر عديني

عديت دلالي على البحر عديتك

لو كان خشيمه قليلة كنت سقيتك

وفي رواية:

شلباية البحر يا بيضا عجبتيني

 مدي شعورك على البحر عديني

“العريس” يغني لعروسه “شلباية البحر”، في ليلة العمر، وقد أُولِع بحسنها، فطلب منها أن تستخدم دلالها على البحر ليمرا عليه ويلتقيا، والبحر شهم، لن يرد الجميلة، أو ربما غلب دلالها هيبة البحر، فإن للبحر هيبة.

و”الشلباية” هي إحدى أنواع السمك النيلي فضية اللون رشيقة الحركة، وربما هذا هو سبب تشبيه المرأة الجميلة بها، فكما أولع شعراء العرب القدامى بغزلان الصحاري القفر، أولع المصريون بـ”الشلباية” إحدى أسماك النيل.

فالشلباية إذن هي المرأة الجميلة، وفي بعض قرى الصعيد يطلقون على البقر  أنه “شلبي”، لأن المشهور عنه أنه لا يقرب أي طعام، ولأن منظره جميل أيضًا، كأنه “شلباية من البحر”.

وصورة النيل في الأغاني الشعبية غنية وثرية فـ”البحر مليان لجروفه”، والنيل في الأدب الشعبي حياة الأرض فإذا سقاها أخضرت “وبقت مليحة” حتى سمكه عجيب “بيصلي”، هكذا تروي نعمات أحمد فؤاد،  في كتابها “النيل في الأدب الشعبي”.

بعيني رأيت السمك بيصَّلي

  وفروجنا يخرِّط بصل ويتقلي

يعني كان السمك يصلي بينما الدجاج يقطع البصل ليصنع الصلصة، عجيب هو النيل!

بحر النيل

والأدب الشعبي لا يعترف بإطلاق اسم النهر على النيل، فهل يمكن أن يكون النيل إلا بحرًا، وفي الوقت نفسه لا أحد ينكر أن النيل نهر، لكنه من الجنة، إنها تناقضات العشاق لا أكثر.

زرعت بستان من أحسن زهور وريحان

وبدرت تقاويه على النيل العظيم وريحان

وكل عاشق أتى تحت الشجر والعود

والزهر جميل.. الموعود يا بخته

والعطر هبت روايحه واتمايل العود

أخف شيء القرنفل حلو يا بخته

في كتاب “الفلاحون”، للأب هنري عيروط، يذكر أن النيل هو من يهب مصر نضوجها، فهو يدخل أرضها غنيًا بجريان 5 آلاف كيلومتر، محملا برواسب يجلبها معه أثناء رحلة السفر العظيم، وهو يتجدد كل عام وينظم بحياته حياة مصر.

كاتم الأسرار

وفي مروية حسن ونعيمة، واحدة من أشهر المرويات الشعبية، التي أداها الفنان محمد طه في ستينيات القرن الماضي، لم تغفل المروية دور النيل بعد مقتل حسن، بطل الموال، بسبب حبه لنعيمه، فحين قتله أهل نعيمة قطعوا رأسه وألقوا جثته في النيل لتسافر الجثة إلى بلده:

الجتة شالوها على البحر الكبير ولا وش

العمدة عنده خبر وشيخ الغفر ولا وش

حتى يصل إلى:

يومين في البحر والتالت دفنته حنّت

طلعت بنات البلد تملا عليه حنّت

ظلت الجثة في البحر “هو النيل لا شيء غيره” يومان، إلى أن حنَّت إلى الدفن في اليوم الثالث، وعندما ذهب “بنات البلد” يملأن جرارهن من البحر وجدن الجثة فأشفقن عليها.

إن القتلة عندما أرادوا التخلص من جثة القتيل أودعوه النيل، والنيل يعرف كيف يصون الودائع، ليقذف الجثة أمام بلدته، فالنيل يعرف ويسمع ويرى ويرد الغريب، ويشفق على المظلومين.

هل ينتهي الأمر عند هذا، كلا إن “ضابط المباحث” وهو يبحث عن قاتل حسن وجد نعيمة تجلس قبالة البحر:

مشى عالبحر بيدوَّر

لقي صبية بتبكي والبكا جبلي

فأين يمكن أن تذهب نعيمة، ذات البكاء “الجبلي” إلا “قُبالة البحر”، ولمن تشكو سوى للنيل “مودع السرائر”.

إن النيل مصدر كل شيء حي في مصر، حياة العاشق والمعشوق والناس والحيوان، وكل احتفالات المصريين ترتبط بشكل أو بأخر به، إنه ملهم الأغاني والحواديت، إنه الملهم والشاعر والملحن والمؤدي، والحديث عنه يطول.


مصادر وأسانيد:

  1. نعمات أحمد فؤاد، النيل في الأدب الشعبي،ص45 وما بعدها، الهيئة العامة لقصور الثقافة1997
  2. سليم حسن، موسوعة مصر القديمة، ص35، ج18، الهيئة العامة للكتاب 2000
  3. الأب هنري عيروط، الفلاحون، ص40 وما بعدها نسخة pdf دون تاريخ نشر
  4. درويش الأسيوطي، أفراح الصعيد الشعبية، ص28، الهيئة العامة للكتاب ج1،دون تاريخ نشر
  5. أحمد رشدي صالح، الادب الشعبي، مكتبة النهضة، ص283 وما بعدها، الجزء الاول، 1971
  6. هشام عبدالعزيز، فولكلور النيل، الهيئة العامة للكتاب، 175 وما بعدها، 2016

مصدر الصورة: كتاب الفلاحون، الأب هنري عيروط

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر