“ونس مصر الحاضر الغائب”.. شعراء قنا يتحدثون عن الأبنودي

تحدث شعراء من مدينة قنا عن سيرة الشاعر الراحل عبدالرحمن الأبنودي، فهو ليس الشاعر الوحيد صاحب الموهبة الجلية والرائعة، ولكنه سيظل صاحب الانفراد بلون شعري ذو طابع خاص ومفردات صاحبة بيئتها.

أبطال دواوينه وقصائده أيضًا مختلفين الطباع والبيئة، في تصنيف حقبات زمنية عديدة مهمشين، فضلا عن تنوعه، فهو جامع السيرة الهلالية، شاعر العامية، كاتب الأعمال الدرامية.. “باب مصر” يفتح على الشعراء.

الأسطورة

يروي الشاعر والمفكر أشرف البولاقي، أن الأبنودي كان الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس أيضًا بتجربته في شِعر العامية دون غيره، فبيرم التونسي شاعرًا كبيرًا، وفؤاد حداد كذلك، وجاهين، وعبدالرحيم منصور، كانا كبيريْن أيضًا، لكن لم يُكتَب لأحد من هؤلاء الذيوع والسطوة والانتشار كما كُتِب للأبنودي.

وتابع: انطلق الأبنودي في قصيدة العامية، وكأنه يريد أن ينتقم من قصيدة الفصحى العربية، تلك التي قُدِّر لها أن تَسلَّط عليها الأضواء، وأن يحتضنها الخلفاء والقادة والملوك والرؤساء في كل عصر وزمان، بينما ظل الإبداع الشعبي يتنفس على الهامش بين الطبقات الفقيرة والدنيا، على عكس الشعر المكتوب باللغة الرسمية، وكان التحدي أمامه كبيرًا.

الشاعر أشرف البولاقي- أشرف البولاقي
الشاعر أشرف البولاقي- أشرف البولاقي

ويقول البولاقي، بدأ الأبنودي رحلة الكتابة مع ممثل الشعر العربي بلغته الرسمية، زميلِ الرحلة والتجربة والموطن، الشاعر “أمل دنقل”، بديوانه الأول عن “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة”، بينما كان الأبنودي سبقه بديوانه الأول بالبكاء على “الأرض والعيال”، وكأنه يؤكد على تحديه الحقيقي  من وجهة نظره في الكتابة المختلفة، ليمضي يكتشف العالم الجديد الذي انتقل إليه في القاهرة ليسلط الضوءَ على الزحام والصخب والضجيج الذي يعتمل داخله، أو هذا الذي يجده في القاهرة ليخرج ديوانه الثاني دالا ومعبِّرا باسم “الزحمة”.

ونال الأبنودي بتجربته في شِعر العامية وفي قدرته على استخراج كنوزها وتوظيف مفرداتها، ما لم ينله كثيرون من شعراء العربية الفصحى في جيلِه باستثناء نزار قباني، كما أنه كان شاعر العامية الوحيد الذي تُطلَب قصيدته بلهجتها المصرية المغرِقة في انتمائها للقرية الصعيدية المنفية في أقصى جنوب مصر في كل الدول العربية، دون صعوبة في التلقي، ولا عسر في التواصل معه.

وذكر البولاقي، أنه قَبْل رحيل عبدالرحمن الأبنودي، كُنا نستعد كمؤسسة ثقافية أن نحتفل في قريته أبنود بإقامة أسبوع ثقافي؛ احتفاءً واحتفالا بافتتاح متحف السيرة الهلالية الذي أقامه بقريته، وهو المتحف الذي يضم جهدَه الفني في جمْع وتدوين السيرة الهلالية التي أنفق فيها جزءًا من سِني حياته لكن القدر لم يسعفه أن يسعد هو بوجوده معنا ليرى ثمرة جهده.

يستكمل البولاقي حديثه، برحيل الأبنودي، اكتمل عقد الحزون بمحافظة قنا، بعد رحيل أقرانه، أمل دنقل، ويحيي الطاهر عبدالله، وعبد الرحيم منصور، لا أحد استطاع أن يقاوِم رحيله، بينما يبدو أن فِعل “المقاومة” نفسه كان واحدًا مِن أهم ملامح الأبنودي، شاعرًا وإنسانًا وتجربةً، بدءًا من مقاومته العنيفة لإغراء سطوة وتراث أبيه الشعري، رافضًا أن يكمل مسيرته في أن يكتب مثله الشعرَ الفصيح الذي استسلم له أخواه “جلال” و “كرم”.

قاوم الأبنودي كل إغراءات البقاء في قريته، أوفي مدينته الجنوبية، وهي الأمن والهدوء والإحساس بالعزوة بين الأهل والأصدقاء راحلًا إلى القاهرة، مستمرًا في مقاومة ظروف الإقامة ومشاعر الغربة، وحنينه لـ”الأرض والعيال”، ورغم ما يستشعره من “الزحمة”، كما قاوم الأبنودي في القاهرة أن يصبح جزءًا من تراث أُم كلثوم أو عبدالوهاب.

الشاعر خالد طايع - خالد طايع
الشاعر خالد طايع – خالد طايع

ونس مصر 

يصف الدكتور خالد طايع، الأبنودي بـ”ونس مصر الغائب الحاضر”، وتساءل هل كانت ثلاثتهم “الأبنودي ويحيى الطاهر وأمل دنقل” يدركون وهم يقطعون رحلتهم من قنا إلى القاهرة أنهم يسطرون سفرا عظيما في كتاب الأدب العربي المعاصر؟، فالأبنودي من أهم شعراء العربية، ولل هذا ما دفع الشاعر الكبير محمود درويش حين نعته البعض بأنه أهم الشعراء المعاصرين إلى القول أن من يستحق ذلك هو الأبنودي.

عظم التجربة الإبداعية للأبنودي حقيقة لا ينكرها خصومه، حافرًا اسمه وسط جيل من عمالقة الشعر العامي: فؤاد حداد وصلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم وسيد حجاب وغيرهم، في رحلة من عشرات الدواوين والكتابات النثرية وكذلك جهده في جمع السيرة الهلالية، كما أنه أسهم بشكل كبير في تشكيل الذائقة الجمالية للمتلقي العربي عامة.

وتابع طايع: ما شكل التجربة الإبداعية للأبنودي؟، البيئة الجنوبية التي نشأ بها بكل موروثاتها وخصوصيتها، دراسته للشعر العربي بآداب القاهرة، ولفهم التجربة الإبداعية للأبنودي دون رصد علاقته بالتحولات السياسية والاجتماعية التي مرت بها مصر، بداية من الحقبة الناصرية التي شهدت ظهوره ، وديوانه (جوابات حراجي القط) الذي تناول فيه مشروع السد العالي شاهد على إيمانه بالتجربة الناصرية.

إلا أنه اعتقل بتهمة الانضمام إلى أحد التنظيمات الشيوعية، ورغم ذلك ظل محبا لعبدالناصر، إلا أنه رفض أن يكتب عن مشروع توشكي، المشروع الذي أراد له نظام مبارك أن يكون نموذجا يضاهي السد العالي.

المغامر                             

أما الشاعر مصطفى جوهر، فيرى أن الأبنودي المغامر الذي ربطته به علاقة عن بُعد محاولاً التعلم منه، هو مرحلة مهمة من مراحل شعر العامية، يعيدك لاستنطاق قصيدة العامية عبْر تحولاتها، فلم يكن العلامة المميزة لجيل الستينات، بل تماهي معهم جميعًا على حد قوله، في سمات للمبدع تقاسموها أغلبهم هم أبناء الريف والقرى، وأبناء الأسر المتوسطة.

الذين نشأوا في بيت يزوره كتب تراثية، أو جريدة يومية، ونزوحهم للعاصمة وقد اكتملت أدواتهم، لا يحتاجون من غول العاصمة إلا أن يستثمرون أدواتهم التي حملوها معهم من هناك، فلم تتشابه التجارب، وهو ما أثرى الحركة، وزاد من زخمها.

ويسترسل جوهر، لم تحتف المكتبة النقدية بمشروع الأبنودي، ذلك المغامر الذي انصهرت تجاربه مع وبالهم الوطني والقومي، موهبة تملك من الأسرار ما يؤهلها لامتلاك هذه المفاتيح، هذه التجربة المهمة، أو هذا الانحراف الضارب في جذور المصرية، حتى بلغ رفضه التخلي عن لهجته المصرية مبلغه.

الشاعر مصطفى جوهر- مصطفى جوهر
الشاعر مصطفى جوهر- مصطفى جوهر

استطاع عبدالرحمن الأبنودي بذكاء حاد أن يوزع قصائد الديوان (المكتوب بين عامي 1968 – 1970) بادئًا إيّاه بـ(الفصول) ومغلقًا بابه بـ(قصايد)، وبين هاتين الضفتين وضع أجزاءه الباقية، لحاجة بنفس الأبنودي قضاها، أو أفلح الرجل في خلق حالة من الطزاجة الخاصة، لن تتذوقها إلا بالتعاطي مع تجربته.

هو مغامر بالفعل، ابتكر تقنيات خاصة، كالجوابات، وملحمة أو سيرة أو رواية الإنسان الشعرية كما في أحمد سماعين، والاستعمار العربي العربي، ولم يترك العادي والهامشي واليومي، فلمسهم بعُمق مغاير، وسطحية مختلفة أيضًا، هذا غير الصوت الغنائي الذي أحدث نقلة – مع وجود عبدالرحيم منصور تحديدًا – في تجربة أصوات راسخة كنجاة وشادية وعبدالحليم.

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر