«العدالة».. قسمة غائبة

في بدايات الألفية، كنت قد كتبت في زاوية أخرى، أتنبأ مشروع تأسيس متحفا للعدالة بسراي الحقانية التي تأسست في عام 1886م بالإسكندرية رمزا للعدالة تجسد الحق الطبيعي للبشرية تتصدرها لافتة “العدل أساس المُلْك”. غير أني عرفت أن تلك الفكرة لم تتبلور، إلا بعد أعوام طويلة مضت، في بقعة نائية “أبيس”. حيث لم أشهدها وربما لا يعرف أحد، ملامح هذا المتحف.

لقد مثلت العدالة، قوة حرة ومطلقة منذ بزوغ التاريخ، شملت وقائع وأحداث في كافة أوعية الحياة، وملأت الدنيا وشغلت الناس. حيث حملت الذاكرة بعضا من مشاهد المحاكمات والمرافعات التي جرت والتي نحن أحوج إلى ذكرها والإعلان عن تفاصيلها ونصوصها وخبايا تلك القضايا. نضمنها الكتب المدرسية، نفرد لها دراسات تتناول التاريخ والأسطورة والأدب الشعبي. كليلة ودمنة، شعر شوقي في الحيوان الذي يبرز طبيعة العلاقة بين الحيوانات. كتاب “تداعي الحيوان على الإنسان” لإخوان الصفا. حيث يهبط جزيرة مجهولة عددٌ من الناس الذين يحاولون تسخير الأنعام التي تلجأ في النهاية لملك الجان للنظر في تلك المسألة.

فالعدالة ذات تاريخ عريق، بداية من الحساب الأخروي الذي يختتم بالخلاص بالفردوس أو الجحيم، أدب الجدران في مصر القديمة الذي يدون وقائع العدالة، والقصص الرمزية.

كتاب "تداعي الحيوان على الإنسان" لإخوان الصفا
كتاب “تداعي الحيوان على الإنسان” لإخوان الصفا
**

في تاريخنا المعاصر لدينا مظاهر عديدة للعدالة في حقب الشموخ أو التردي، برنامج أرشيف المحاكم الإذاعي الذي يصور المحاكمات في قالب درامي تمثيلي. وكان لدينا مدرسة القضاء الشرعي، ومجلة القضاء الشرعي أيضا. وعرفت العدالة الطريق إلى الدراما حيث تعرضت لحكاية “ياسين وبهية” الحكاية الشعبية التي تروي قصة كفاح “بهية” من أجل أن تأخذ بثأر حبيبها “ياسين”. بعد أن قتله رجال الإقطاع في ليلة عُرسه، ورسائل البسطاء للإمام “الشافعي” لتثأر لأذى طالهم من آخرين. حيث تناولها د. سيد عويس في بحوثه الفذة وفي تحليل المضمون والمحتوى.

وتوثق العدالة سوابق ذات دلالة في تاريخنا السياسي والاجتماعي. ففي عام 1910 اتهمت النيابة العمومية “محمد بك فريد” رئيس الحزب الوطني، بأنه حسَّن كتاب “وطنيتي” للشيخ الغاياتي بامتداحه للكتاب بمقدمة تحمل توقيعه معنونة “بتأثير الشعر في تربية الأمم”. ما يمثل تحريضا للناس على كراهية الحكومة والازدراء بها والعيب في حق ذات ولي الأمر.

**

ويمْثُل العربجي “علي مكرم” بفم الخليج أمام المحكمة بتهمة استحسان عمل الورداني قاتل بطرس باشا غالي بالغناء “ياميت صباح الخير على الورداني”. ومشهد آخر، لمسجد وبمجرد أن تدخل من بابه تكتشف “قهوة جُعلَت لراقصات مصريات وعُبد ترقص ودراويش تدور”. ولم يغب عنا حتى الآن معارك القضاء حيث حمل راية “استقلال القضاء” ممتاز نصار وعادل عيد وآخرون.

لذا لابد وأن نحفل دوما بهذا الكيان وصونه من المحو والزوال. حيث ظلت ساحات العدالة حافلة برموز وعلامات تكافح من أجل انتزاع الحق الطبيعي للبشرية.

اقرأ أيضا:

الأنشودة النائمة: استيقظوا.. وترنموا

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر