وداعا مسيو طارق الجميل

عندما تكتب سيرة ذاتية عن طارق شرارة هذا الرجل الاستثنائي الثري في كل مكوناته ثراء يفيض حتى الامتلاء. ستجد العديد من المحطات المهمة التي تنقل لها بخفة وقدرة على العطاء في مجالات متعددة.

يربطه البعض خطأ بعائلة شرارة الفنية وهي العائلة التي كان عميدها الموسيقار الراحل الكبير عطية شرارة. واشتهرت بعزف الكمان. ولكن الحقيقة أن الراحل طارق شرارة لم يكن من نفس العائلة إن تشابهت الأسماء. وكان هذا الربط دائما يثير ضيقا مكتوما عنده ينجح في إخفاءه بنصف ابتسامة ونظرات طفولية متسعة تضيف بعدا كاريكاتوريا لوجهه الممتليء الذي يحمر من الغضب مثلما يحمر من الضحك.

**

طارق كان يهوي اللعب لأخر عمره حتى إن تجاوز الثمانين. بيته هو عبارة عن ميكرو مركز ثقافي. حيث يفتح لك سامح مساعده اللطيف وتسمع من الداخل صوت طارق الجهوري جالسا أمام شاشته. وفي خلال ساعة تجد نفسك انتقلت بين فيديوهات متعددة منتقاة برشاقة عقلية تتعارض مع جسده السمين فيسمعك مغني يوناني قديم. ثم جزء من أوبرا لفاجنر نفذت بشكل مودرن. ثم فيديو قام هو بمونتاجه بمعاونة سامح ووضع له موسيقى من موسيقاه على لوحات لفنان من أصدقاءه المقربين.

واحد من أهم مفاتيح شخصية طارق الجميلة جدا هو فن الإهداء. عندما يسعدك الحظ وتذهب في زيارة له فسيهديك علب تشبه علبة المجوهرات قام هو بتصميمها كل علبة عليها صورة لأحد أهم الموسيقيين مثل بيتهوفن وتشايكوفسكي وموتسارت وبرامز. وبداخل العلبة تقبع فلاشة عليها أهم سيمفونيات ومقطوعات هذا الفن.

**

لا يعرف الكثيرين أن طارق شرارة من أوائل من ألفوا موسيقى إلكترونية مصرية بحتة. وأنه أحد الرواد في هذا المجال والبعض لا يعرف أيضا أن طارق شرارة كان في فترة طويلة مسؤولا عن البرنامج الأوروبي. وأنه كان يخرج و ينفذ وأحيانا يكتب العديد من التمثيليات الإذاعية باللغة الإنجليزية المأخوذة عن روايات بوليسية ومسرحيات. وأحيانا يؤلف ويمثل فيها وكان يشعر بلذة ويضيء وجهه المستدير عندما يضبطك تضحك على صوته وأخذ يؤدي أحد الشخصيات سواء الرجالية أو النسائية في تلك التمثيليات الإذاعية الجميلة التي تشعرك إن البرنامج الأوروبي في مصر كان فرعا من الإذاعة البريطانية بي بي سي من حيث الإتقان والتفاني والصناعة الجيدة للمحتوى.

**

طارق عاش حياة شديدة الثراء وحكاياته مع الفنانين الكبار الذي كان يعتز بصداقتهم داخل مصر وخارجها. ومنهم فريد الأطرش وديميس روسوس ورومان بولانسكي وآخرين. تلك الذكريات المفعمة بالعطور الجميلة ونثار الفن الذهبي أودعها مذكراته المكتوبة بلغة بسيطة غير مشوشة. وهناك من الحكايات التي لم يحكها بالتفصيل مثل عمله فترة طويلة رقيبا ومختصا بشؤون الأفلام الأجنبية وتعامله مع مخرجين عالميين كبار وأحد الأفلام التي تم تصويرها بالكامل في مصر كستار لأحد أعمال الجاسوسية في الستينات. وكيف وجد نفسه في وسط هذه القصة المثيرة التي تصلح لكي تكون فيلما من أفلام ويليام فريدكين.

كانت صداقته ببولا أو نادية لطفي هي صداقة مدهشة من حيث العلاقة الوطيدة كإنهما طفلين يتخاصما ويصطلحا بينهما مناوشات ومزاح وغضب ولحظات صدق فقد كان ناصحها الأمين وكاتم أسرارها.

**

أحد وجوه شرارة غير كونه موسيقي كان الخيال الجامح كأنه ممتطي حصان البيجاسوس ممسكا بسيف اكسكاليبور طول الوقت. حكى لي في لقاءنا الأول عام 2003 افتتانه بشخصية كشك هانم العاهرة التي كانت تعيش في الصعيد وألهمت فلوبير وكتب عنها وكيف أنه – أي طارق – ألف أوبرا صغيرة عن كشك هانم لا أعلم أين مصيرها اليوم وإن كان قد حكى لي أنها عرضت مرة أو مرتين.

حكى لي بعدها السحر الخفي الذي يغلف شخصية الحاكم بأمر الله. والذي أنفق سنين في القراءة عنه وهو عاكف عن كتابة أوبرا ضخمة عن الحاكم بأمر الله وارتقاءه للسماء. ولكنه لا يعلم هل ستجد طريقها للنور أم ستنزوي في جب سحيق كما انزوت العديد من الأفكار والإبداعات ولم تجد لها طريقا وسط قرع طبول الصخب.

يحدثك من التليفون أحيانا متقمصا عشرات الشخصيات التي يبتدعها خياله الخصب والتي لم يجد للأسف غير البرنامج الأوروبي في فترة لتخرج بعض تلك الشخصيات للنور. ولكنه تارة يتحول لصحفي قبطي بجريدة وطني أو ثري خليجي أو المعلم توكال بائع الفاكهة أو بابا ظوظو الشخص الخليع السكير. وهي شخصيات تخرج بارتجال قدير كان يجب أن تجد طريقها لأحد الشاشات أو الأعمال الإبداعية. أو يحدثك كطفل فرح اكتشف أغنية لعبدالوهاب هي أعجبت به وتصلح لكي يتمرن وهو يستمع لها تعطيه حماسا وتدفع بالدماء في عروقه.

**

أخر رسالة تبادلناها كانت عن سيد درويش. وحكى لي كيف تأثر بمارش الخديوي وقام بتعديل سرعته ليصبح بلادي بلادي وتواعدنا أن نلتقي وأن يثبت لي ذلك بالدليل القاطع.

أسدل الستار على حياة هذا الرجل البديع الفنان المتنوع الذي ألف موسيقى وكتب سيناريو فيلم أنياب. وأعد موسيقى فيلم الصعود للهاوية ورأس المركز الدولي للموسيقى. فجلب أهم العازفين العالميين لمصر وأخرج أجيالا من المذيعين عندما كان مسؤولا عن البرنامج الأوروبي مثل أسامة كمال وهالة حشيش كان مشهد النهاية تراجيديا. الفنان المتنوع الذي جاوز الثمانين يستعد لمعرضه التشكيلي الأول في قاعة صلاح طاهر بالأوبرا.. الرجل الذي لزم منزله طويلا خوفا من الفيروس اللعين. ولكن رغم الحذر وقع القدر وتسلل من أحد الثقوب وتسلق رئته الضعيفة ولم يحتمل جسده الرقيق ثلة الأمراض المزمنة الرابضة بداخله فسقط ونقل إلى المستشفى بينما يتجول الرواد في معرضه ويحضر الأصدقاء الافتتاح و صاحب الفرح غائب.

وداعا يا طارق وستظل سيرتك العطرة فواحة في المشهد الفني وذهبك المنثور في الهواء متلألأ فأنت كنت كالملك ميداس عندما تلمس أي شيء يستحيل لذهب.

اقرأ أيضا

3 بديهيات غير بديهية: العلاقة «المشبوهة» بين الفن والواقع!

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر