تصفح أكبر دليل للفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

واقعية صنع الله رائد جيل الستينات

ما أكثر ما كتب النقاد والصحافيون الثقافيون احتفاءً بصنع الله إبراهيم، أو تحليلاً لأعماله واشتباكاً مع جمالياته، حتى لا يكاد يوجد جديد يطرقه الباحث. ربما لم تُفَصِل الدراسات عن أدب صنع الله موقعَه كأحد أسلاف أدباء الستينات من حيث جماليات الكتابة، وإن أشارت بعض المراجعات النقدية إلى ذلك الملمح. ولم يتعمق النقد الأدبي في الواقعية بوصفها ملمحاً تتسم به كتابات صنع الله، وإن تطرق بعض النقاد سريعاً إلى واقعية صاحب رواية “ذات”.

دائما ما يركز النقاد على أسلوب صنع الله الساخر، وعلى تعدد الأصوات عنده وتراوحها بين الوثيقة والسرد التخييلي، وعلى بعض ملامح العبثية أو مجازات العبث أحيانا، في بدايات صنع الله، وتحديداً في روايته القصيرة “تلك الرائحة” وفي روايته السياسية “اللجنة”. لكن واقعية صنع الله تستحق أن يلقى عليها ضوء كافٍ، وهو ما أخصص الفقرات التالية لإنجازه في عجالة.

أشرت مرة، على استحياء في حوار أو مقال -بشكل عارض- إلى أن معظم كتاب الرواية والقصة من جيل التسعينات يكتبون في مناطق تعتبر مساحات طرقها أو أشار إليها وبشر بها إما إبراهيم أصلان أو صنع الله إبراهيم. لكن واقعية صنع الله هي ما يميزه عن أبنائه الأدبيين من التسعينيين، لأن جيل التسعينات -وإن جاز أن نصف جماليات بعض المقاطع عند بعض كتابه، بالواقعية- لا تبدو قابلة للافتة “الواقعية” بشكل لا يقبل اللبس أو الجدل. لكن الأسلوب المباشر والجمل القصيرة، والاحتفاء بتفاصيل اليومي، وإنتاج عالم مادي يركز على سطح الأشياء والجمادات، هي الملامح التي تجعل من صنع الله إبراهيم (وإبراهيم أصلان) رائدين تَبَنَى كتاب التسعينات وصفاتهما الجمالية وفصَلوها وعمقوها.

صنع الله الواقعي الأمريكي

كان صنع الله في بداياته متميزا بين أبناء جيل الستينات من الأدباء المصريين. فهو من أصغرهم، وهو الذي ظهرت روايته الأولى “تلك الرائحة” عام 1966 عقب خروجه من السجن. في الستينات وما تلاها من عقود، كان المفهوم الحاكم لكتابة جيل الستينات مفهوماً مضمراً عن الواقعية. لم ير النقاد عند هؤلاء الكتاب واقعية كلاسيكية “أخلاقية” وربما دعائية، كما عند عبد الرحمن الشرقاوي في روايته “الأرض” في جيل الخمسينات. لكن كان النقاد كثيراً ما يحللون اشتباك الأدب مع الواقع في الستينات.

أما كتابة صنع الله إبراهيم، فكانت تربك ذلك التصنيف وهذا التقديس لقيمة الواقعية، لأن واقعيته لم تكن تلتزم بنماذج الواقعية الكبرى -لا جمالياً ولا مضمونياً- في الاتحاد السوفييتي وفرنسا وإنجلترا. لم يتعرض صنع الله لقضايا كبرى بشكل مباشر، ولم يلتزم واقعية المكان بمعنى رصد لغوي للفضاء الذي تدور فيه الأحداث وبناء متكامل للمكان بواسطة الكلمات. بالعكس، ركز صنع الله على التجربة الفردية والتفاصيل الصغيرة فبدى مشتبكا مع الواقع لأن روايتيه الأوليين كانتا عن تفاصيل يومية في تجربة ذات شابة تواجه التاريخ: مشروع السد العالي في “نجمة أغسطس” وتجربة المعتقل السياسي في “تلك الرائحة”.

لكن سرعان ما يبقى من صنع الله أثره على جيل التسعينات في كتابة التجربة الذاتية والعناية بالتفاصيل التي تتفاعل مع التاريخ الصغير واليومي والذاتي، وهي ملامح طورها وركز عليها أبناء التسعينات، دون أن يحاولوا ربط تلك الملامح بكتابة القضايا الكبرى.

صنع الله إبراهيم رواية 1970
صنع الله إبراهيم رواية 1970
***

الواقع أن صنع الله إبراهيم كان يتمثل الواقعية الأمريكية لا السوفييتية. فواقعية صاحب “ذات” أقرب للواقعية الأمريكية، وللجماليات التي تبناها اليسار الأمريكي عند روائيين لمعوا عشية وغداة الحرب العالمية الثانية، مثل إرنست هيمنجواي وجون شتاينبك.

وكان صنع الله بعيدا عن جماليات الواقعية عند الرائد الفرنسي بلزاك أو الكاتب الإنجليزي الكبير تشارلز ديكنز. بدأت علامات الواقعية الأمريكية عند صنع الله كنسخة عربية اشتراكية من تلك الواقعية في الستينات تحتفي بالسد العالي وترصد تغييره لبنية المجتمع ولتشكل الإنسان في رواية “نجمة أغسطس”. وبشكل مجازي شبه عبثي، في رواية”تلك الرائحة”، كانت واقعية صنع الله تمثل جماليات ترصد تحول المجتمع إلى موضوع لدولة شرطية أو ترصد “بَوْلَسة” المجتمع.

واقعية تستند إلى جمل تقريرية مباشرة، قصيرة، ونبرة حيادية راصدة، مثلاً حين يحكي الراوي تفاصيل عملية الإفراج عنه، أو تفاصيل الدوش الذي أخذه عند أخته التي استضافته بعد خروجه من المعتقل. استمرت تلك الملامح تشكل أسلوب صنع الله حتى عندما ابتعد قليلا عن المقاربات الواقعية واعتمد المفارقة والسخرية والقالب البوليسي وإن ظلت موضوعات صنع الله تاريخية أو سياسية.

***

تصطبغ بعض روايات صنع الله بصبغة بوليسية أو تشويقية، لأن خطها الدرامي يعتمد على البحث عن مفقود وعلى غموض مصيره، مثلما في روايته “وردة” التي يشغل الراوي فيها البحث عن امرأة غامضة، أو في الروايات التي فيها دائما بحث عن شخصية مفقودة أو متغيبة، أو بحث عن مخطوط، مثلما في “بيروت… بيروت”. على السطح، لا يبدو القالب البوليسي أو الملغز متصلاً بجماليات الواقعية، لكنه في السياق الأدبي الأمريكي جزء من ممارسات الهامش، فكلاسيكيات الرواية البوليسية الأمريكية كثيراً ما تدور في عوالم المهمشين، والنوع الأدبي نفسه يتخذ موقعاً على هامش التصنيفات الأدبية المعتمدة. فاحتفاء صنع الله بالقالب البوليسي مثل البحث عن وردة، أو عن مخطوط مفقود هو واقعية الهامش والتفاصيل، وهي سمات سوف تتجلى بوضوح عند جيل التسعينات فيما بعد.

الحكي تلصص

تتمايز رواية “التلصص” عن غيرها من روايات صنع الله إبراهيم، لأنها رواية عن ممارسة النظر من حيث هو نوع من ممارسة الحكي. عبر دفتي الرواية نتابع عين طفل ترصد تلصص أبيه المتقدم في السن على النساء من حوله، وتلقين الأب لابنه “جماليات” و”قيم” التلصص. ويزيد من قيمة تيمة “النظر” في الرواية اهتمام الراوي برصد ارتداء الأب لنظارة قراءة وأكوام النظارات عند الباعة الشعبيين. وكأن الرواية عن النظر عموماً، وليس فقط عن استراق النظر.

بهذا المعنى، تشرح لنا رواية “التلصص” أن السرد نفسه عند صنع الله هو عملية تلصص، وهو عملية معقدة من حيث إنه إيقاع العين، عين الطفل، في نظرها لعين ناظر آخر هو الأب، بصوت الطفل، لكن بقلم رجل كهل، وهو صنع الله في لحظة كتابته للرواية. وهي رواية عن “بصرية العالم” ووصف أشيائه.ربما كان أفضل مدخل لقراءة عالم صنع الله الإبداعي ككل، هو مقاربة كتابته بوصفها تلصصاً على عوالم مغايرة لعالم الراوي، ومتابعة لراوٍ أو لشخصية تتلصص على آخرين.

رواية “التلصص” من أبدع نصوص صنع الله لحميميتها، ولابتعاد الراوي والمؤلف فيها عن السياسة بألف لام التعريف، وإن لم تخل من رصد لأحاديث البسطاء في الحارة عن فساد الملك فاروق وعن حرب فلسطين عام 1948. تختلف تلك الرواية عن الاتجاهين الأساسيين في كتابة صنع الله: واحد مبني على ضرب من ضروب التوثيق، مثلما في “نجمة أغسطس” التي توثق بناء السد العالي أو “ذات” التي توثق لخطابات الصحافة في فترة ما بعد معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل؛ واتجاه ثانٍ مبني على نموذج حبكة متواترة: يوميات أو رصد سردي لبحث الراوي عن وثيقة أو مخطوط قديم أو حديث، أو عن شخصية تحمل معلومات مهمة أو معرفة مفتاحية.

برلين 69
برلين 69
***

بشكل عام، وبعيداً عن إبداع الكاتب اليساري الكبير تحديداً، السرد زاوية ومنظور وموقف ناظر، وهو أيضاً كسر للمحرم لأنه تطفل وتدخل وتلصص. فالسرد هكذا إيروسي وجنسي بالضرورة. يتلمس ما هو حسي في العالم، ويذكرنا بأن فعل الكتابة في الأصل إيروسي لأن الكتابة عاطفة، ولأنها وليدة احتكاك الشاه باللسان إن كان الحكي شفاهياً، أو وليدة لمس الأصابع بقلم أو للوحة أزرار، إن كان السرد مكتوباً. ويمكن تأسيس هذه المقاربة في نظرية الأدب العربي على رواية صنع الله، لتشمل مقاربات للعوالم الإبداعية لأكثر من كاتب، ابتداء بنجيب محفوظ على الأقل. نظرة ياسين ابن السيد أحمد عبد الجواد المسترقة لعوالم العوالم نموذج على السرد الإيروسي التلصصي الذي يبدو للباحث جلياً، متى لفت صنع الله النظر إلى فكرة التلصص كمحرك ومنظم وإطار للحكي.

الرواية نفسها

قلت مرة إن صنع الله إبراهيم يكتب الرواية نفسها في كل عملً جديد له، ومع ذلك لا أمل من قراءة أعماله لأن روايته تبدو لي طازجة دوماً. أستعير هنا مجازاً منتشراً في النقد الأدبي الفرنسي حين أقول: يكتب صنع الله الرواية نفسها كل مرة. المقصود هو أن له عالماً وبصمة وجماليات وبنية سرد وحبكة تتواتر من عمل إلى عمل:كثيراً ما يتضمن العمل مقتطفات من وثائق أو مذكرات أو استشهادات من يوميات أو قصاصات صحف، أو إشارات لها، مثلما في “1967” أو “1970” أو “ذات”. وقد يكون العمل رحلة بحث عن مخطوط أو عن شخصية، مثلاً في “القانون الفرنسي” و”بيروت… بيروت” أو قد يكون مسار بحث عن إجابة عن سؤال فكري، مثلاً في “العمامة والقبعة”. وكثيراً ما تتضمن الرواية “الصنعية” تعدد أصوات متزاوج مع مستويات النطق: صوت الراوي وصوت الوثائق والتقرير الصحفي في “نجمة أغسطس”، صوت الراوي وصوت قصاصات الصحف في “ذات”، على سبيل المثال.

لماذا يبدو لي مع ذلك أنني أقرأ روايات صنع الله للمرة الأولى كل مرة؟ ربما لأنها تشتبك كل مرة مع حدث تاريخي فارق في التاريخ المصري لمرحلة التحرر الوطني، دون أن تركز على الحدث، بل على التفاصيل اليومية. وربما لأن قدر الصنعة في صياغة الجملة وتصفيتها عند صنع الله يجعلها رشيقة وهفهافة بما يمتع الحاسة اللغوية كل مرة مع ذلك. وربما لأن عينه تكشف كل مرة تفصيله تبدو جديدة لعين القارئ.وربما لأن بساطته وتواضعه يأسراني على اليوم، منذ قابلته لأول مرة من أربعين عاماً بالضبط عند أمينة رشيد وسيد البحراوي، أيام كانت أمينة تدعو طلبتها في سيمنار مواد التفوق إلى لقاء في بيتها، مع بعض الكتاب الذين تدرس أعمالهم.

اقرأ أيضا:

ملف| صنع الله إبراهيم: تجربتي الروائية

صنع الله إبراهيم يجيب على السؤال: كيف أكتب؟

واقعية صنع الله رائد جيل التسعينات

 عبد المنعم رمضان يكتب: «العدو»

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.