هل اعتنق المصريون البوذية؟ هذا ما يخبرنا به تمثال «برنيكي» المكسور| خاص

حمل فريق من الباحثين البولنديين والأمريكيين مفاجأة مذهلة لعشاق الآثار والتاريخ عند إعلانهم اكتشاف أول تمثال لبوذا في مصر، قبل أيام. التمثال الحجري يبلغ ارتفاعه قدمين (71 سم) في أنقاض معبد في “برنيكي” المدينة الساحلية قديمة على ساحل البحر الأحمر في جنوب شرق مصر، لكن العثور عليه أكبر من قيمته كأثر. حيث يطرح العديد من التساؤلات العلمية عن إعادة رسم المدينة والعلاقة بين ثلاثة أماكن وهي الهند والإمبراطورية الرومانية ومصر. وكيف وصلت البوذية إلى مصر قديما.

برنيكي.. أطلال ميناء مصري مهجور

في البداية، تم العثور على تمثال بوذا على ساحل المدينة الساحلية القديمة، في مدينة برنيكي القديمة التي كانت مركزا لتجارة غرب وجنوب آسيا خلال الإمبراطورية الرومانية. المعروف أيضا باسم “Berenice Troglodytica”.

كان ميناء برنيكي المصري على البحر الأحمر نشطا خلال الفترة من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن السادس الميلادي. باعتباره حلقة وصل محورية في الشبكة التي تربط أوروبا وإفريقيا وآسيا وعالم البحر الأبيض المتوسط ​​عبر البحر الأحمر وحوض المحيط الهندي.

أسس المدينة بطليموس الثاني فيلادلفوس (285-246 قبل الميلاد) ، وأطلق عليها اسم والدته، برنيس الأولى ملكة مصر خلال الفترة الرومانية. وبين القرنين الأول والثاني بعد الميلاد، كانت المدينة واحدة من المحطات الرئيسية لتجارة أفيال الحرب والسلع الغريبة مثل الفلفل والأحجار شبه الكريمة والقماش والعاج المنقولة بين الهند وسريلانكا. والجزيرة العربية وصعيد مصر.

خريطة قديمة لبرينكي
خريطة قديمة لبرينكي

وكان بها ميناء تجاري، توقف العمل فيه خلال القرن الثاني بسبب ثوران بركاني. ثم عاد العمل بها مرة أخرى خلال القرن السادس الميلادي، لكن حال الميناء اختلف، حيث أصبحت الأرض مليئة بالرواسب.

وتشير المكتشفات التي تم التنقيب عنها إلى أنه استقبل زوار من أماكن بحرية. تمتد إلى أقصى الغرب حتى غرب البحر الأبيض المتوسط ​​من جهة وساحل المحيط الهندي لإفريقيا وجنوب شبه الجزيرة العربية وجنوب آسيا (الهند وسريلانكا). ولعب الميناء دورا رئيسا في العالم القديم والاقتصاد العالمي كحلقة وصل مهمة للتبادلات التجارية والثقافية.

خريطة توضح ميناء برنيكي
خريطة توضح ميناء برنيكي 
تمثال بوذا في مصر

عن تمثال بوذا، فإنه يصور “بوذا سيدهارتا جوتاما” الذي عاش في جنوب آسيا منذ حوالي 2550 عامًا. وُلد أميرًا. ثم تخلى فيما بعد عن ثروته الدنيوية وبحث عن التنوير طوال حياته وأصبح في النهاية بوذا. وهي كلمة مشتقة من اللغة السنسكريتية وتعني “الشخص المستنير” وفقًا للتقاليد البوذية.

انتشر الدين الذي أسسه تدريجيا في جميع أنحاء العالم، أما مملكة غاندهارا، التي تحتل ما هو الآن شمال غرب باكستان بين 1500 قبل الميلاد و 1000 ميلاديا. تشتهر بتأثيراتها اليونانية الرومانية والبوذية الجنوبية الآسيوية التي تظهر من خلال الإيمان والفن والهندسة المعمارية. ويُعرف فن غاندهاران بإعادة تخصيص الجماليات الرومانية القديمة المطوية في الأيقونات البوذية.

تمثال بوذا المكتشف في منطقة برنيكي الساحلية المصرية
تمثال بوذا المكتشف في منطقة برنيكي الساحلية المصرية
مُكتشف تمثال بوذا يكشف الكواليس

وفي أول حوار عربي له، يكشف ستيفن سايدبوثام، الباحث المشارك والأستاذ بجامعة ديلاوير، ما توصلت إليه البعثة في مصر. وكواليس العثور على التمثال مع تحليل كامل له ومُكتشفات أخرى بالمنطقة نفسها.

ويقول في تصريحات خاصة لـ”باب مصر” عبر البريد الإلكتروني، إن العمل بمدينة برنيكي يرجع إلى عام 1994 وشمل في البداية أعمال ترميم على نطاق واسع في معبد إيزيس. لكن العمل في الحفريات بدأ في عام 2015.

وعن الاكتشاف الأخير، يقول: “وجدنا تمثال جسد بوذا الرخامي بدون رأس في عام 2018. وشظايا الرأس (التي تتصل بالجسد) في عام 2022. ووجدنا كل من الرأس والجسد في فناء معبد إيزيس”.

أستاذ التاريخ ستيفن إي سايبوثام
أستاذ التاريخ ستيفن إي سايبوثام

“هل المدينة الساحلية تتطلب ضوابط معينة خلال البحث. وهل تأثر التمثال بعوامل القرب من البحر مثل الملوحة والرطوبة”. أجاب المشرف على الاكتشاف الأخير: “لا تختلف ضوابط التنقيب بالمنطقة عن أي مكان آخر. وأن التمثال كُسر عندما سقط من قاعدة التمثال، ولكن يبدو أن الطقس والملح وما إلى ذلك لم يؤثر عليه”.

يقدم مكتشف أول تمثال لبوذا في مصر تحليلا له. ويوضح: “الهالة هي إشارة واحدة لبوذا، وأيضًا الأذنين الطويلتين وكعكة الشعر في أعلى الرأس. إن أسلوب الشعر هو ما ساعدنا على تأريخ تمثال بوذا في الفترة ما بين 90-140 ميلاديا”.

وعند سؤاله إذا كان محلي الصنع في مصر أو أنه من بلد آخر. أجاب: “الرخام من مكان ما في منطقة البحر الأبيض المتوسط ، بحر إيجة. وتم صنع التمثال في مكان ما في منطقة البحر الأبيض المتوسط. ​​وعلى الأرجح في الإسكندرية أو من قبل واحد أو أكثر من النحاتين من الإسكندرية الذين زاروا برنيكي”.

هل عبد المصريون بوذا؟

يطرح العثور على هذا التمثال سؤال آخر، وهو إذا كان يشير هذا الاكتشاف إلى عبادة المصريين للبوذية أم أنها اقتصرت على الوافدين الأجانب فقط. ويقول لـ”باب مصر”: “على الأرجح، اقتصرت عبادته على الهنود أو الوافدين من جنوب آسيا في برنيكي ويعبدون بوذا”.

على حد وصفه تأثر التمثال بفن غاندهاران. وعن تشبيه التمثال بالمسيح أوضح أنه يشترك كل من يسوع المسيح وبوذا في الفن بأنهما يكون خلفهما هالة. لكن كانت إجاباته مُختصرة وعند سؤاله: “هل يعد العثور على هذا التمثال خطوة في العثور على المعابد البوذية في البحر الأبيض المتوسط”. أجاب: “من يعلم”.

بالإضافة إلى التمثال، تم العثور على قطع أخرى. ويقول: “وجدنا في معبد إيزيس العديد من النقوش من العصر الروماني مكتوبة باليونانية والهيروغليفية. والعديد من شظايا التماثيل من الخشب والحجر والبرونز وبعضها الآخر إهداء، وأصداف بحرية وبقايا الطعام”.

وعن النقش باللغة الهندية، يفسره البروفيسور الأمريكي أنه نقش تمت كتابته باللغة السنسكريتية. نافيا علاقته بالتمثال لأنه يرجع تاريخه إلى ما قبل النقش بحوالي 100 عام. موضحا أن هذا النقش لا علاقة له بأي عملات معدنية تم العثور عليها.

مضيفا أن البعثة كشفت أيضًا عن نقش باللغة الهندية يعود إلى زمن الإمبراطور الروماني فيليب العربي (244 إلى 249م). بالإضافة إلى عملتين من القرن الثاني الميلادي ونقوش يونانية تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد.

وعن تاريخ العملات التي تم العثور عليها. يقول: “وجدنا عملتين من العملات الهندية تعود إلى أوائل منتصف القرن الثاني الميلادي في فناء معبد إيزيس. ولكن ليس بالقرب من تمثال بوذا الرخامي أو النقش. منذ سنوات مضت، قمنا بالتنقيب وعثرنا على عملة هندية أخرى في الكنيسة في برنيكي، لكن تلك العملة تعود إلى القرن الرابع الميلادي”.

رأس تمثال بوذا المكتشفة في ميناء برنيكي
رأس تمثال بوذا المكتشفة في ميناء برنيكي
غاندهاران.. تاريخ الفن والعمارة

تأثر التمثال بفن غاندهاران فما هو؟.. يعد غاندهاران هو الاسم القديم الذي يطلق على المنطقة التي تحيط اليوم بمدينة بيشاور في شمال باكستان. بين أوائل القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الثامن الميلادي. جعلت التجارة النشطة مع البحر الأبيض المتوسط ​​وجنوب آسيا والصين هذه المنطقة متعددة الأعراق والغنية. ووفرت أساسًا اقتصاديًا لإنشاء العديد من المراكز البوذية.

بحسب كتاب «العمارة البوذية في غاندهارا» لـ إي جي بريل عام 2004. تُستخدم كلمة “غاندهاران” أيضًا لوصف الاكتشافات النحتية من سلسلة من المناطق ذات الصلة بالثقافة خارج سهول بيشاور.

وعن العلاقة مع الإمبراطورية الرومانية، غزا الإسكندر الأكبر غاندهارا في منتصف القرن الرابع قبل الميلاد. بعد وفاته، قسم جنرالاته الإمبراطورية، وبدأوا فترة من الممالك الهندية اليونانية المعروفة من خلال العملات.

وتشير البقايا الأثرية لمدينة “آي خانوم” إلى وجود مستعمرة هلنستية في أفغانستان لبعض الوقت.  تم نحت هذه على الصخور في شمال باكستان وأفغانستان. يُفهم منها أنه بداية البوذية في المنطقة، على الرغم من أن النقوش لا تشير صراحة إلى هذا الدين.

وبحسب الكتاب، ربما تم إنشاء أول مواقع بوذية غاندهاران الكبرى في أوائل القرن الثاني قبل الميلاد. وتشترك هذه المراكز المبكرة في العديد من الخصائص مع المواقع البوذية المعاصرة في الهند.

غاندراهان.. بوذا بصور أيقونية

على الرغم من أن أصول التقاليد البوذية في غاندهاران غامضة، فمن الواضح أن هذا الدين الجديد أصبح شائعًا في أواخر القرن الأول وأوائل القرن الثاني الميلادي، وفي عهد الكوشان، تم إنشاء العديد من المواقع البوذية، مثل “تاخت إي باهي” و”جمال جارهي” و”ثاريلي” في بيشاور.

في دراسة «الوجود المادي لبوذا في البوذية الهندية المبكرة» الصادرة في عام 1987 للباحث “اي دي سانكتوس سكوبين”، فإنه بحلول هذا الوقت، كان كل من تخطيط المواقع والنحت الزخرفي مختلفًا تمامًا عن نظرائهم في شمال الهند، ويمكن التعرف على لغة غاندهاران الحقيقية، وتم العثور على أعداد كبيرة من المنحوتات الشستية التي تروي حياة بوذا مع زيادة واضحة في عدد التماثيل في القرن الثاني الميلادي .

وفي منطقة غاندهاران الكبرى بحلول هذا الوقت، كانت السمات المعمارية الكلاسيكية للبحر الأبيض المتوسط​​، مثل الأعمدة الكورنثية، شائعة منذ ما يقرب من 400 عاما، وينسبها العلماء الأوائل إلى الاتصال اليوناني الهلنستي ظهور صور مجسمة لبوذا في غاندهارا في السرد والصور الأيقونية.

رسم بوذا المستوحى من الأيقونات المصرية
رسم بوذا المستوحى من الأيقونات المصرية

وقاد هذا الافتراض هؤلاء العلماء إلى تأريخ الكثير من الإنتاج النحتي لغاندهارا إلى القرون الأولى قبل الميلاد، واقترحوا أن هذا الاتصال مع الإغريق كان مصدرًا لبوذا المجسم الموجود في جميع أنحاء جنوب آسيا.

ومن الواضح اليوم أن تبادل الأساليب حدث لاحقًا مع الإمبراطورية الرومانية، وترك أصل صورة بوذا سؤالًا مفتوحًا. يبدو أن النحاتين في غاندهاران قد صمموا التماثيل بالأشكال الكلاسيكية وأعادوا نحت الملابس الهندية الشمالية والمجوهرات المناسبة.

ويقول في الدراسة: “كان ظهور الصور الأيقونية بمثابة تحول في الممارسة البوذية. لقد حلت محل اللوحات السردية التي كانت شائعة جدًا في غاندهارا خلال القرن الثاني، وقد رأى بعض العلماء في هذا على أنه مؤشر على التحول العقائدي من البوذية النيكايا (المبكرة) إلى البوذية الماهايانا (الحالية)، ولكن هذا الأمر ما زال موضع تساؤل مؤخرًا”.

بوذا والأيقونات المصرية

في مقال نشر بمجلة نيويورك تايمز، الأسبوع الماضي، ذكر المؤرخ الاسكتلندي ويليام دالريمبل أن التمثال تم نحته من أجود أنواع رخام البحر الأبيض المتوسط ​​في جزء من الهند “غاندهاران” وبها جزء من الطراز الروماني المصري”، مشيرًا إلى أن علماء الآثار المشاركين افترضوا أن التمثال قد تم نحته في الإسكندرية. بسبب تقديم بوذا لتجعيد الشعر الشبيه بمكرونة التورتيليني وشكل أشعة الشمس الساطعة خلف رأسه.

حاول «باب مصر» التواصل معه ولم يرد حتى الآن، لكن نشر مجموعة من التغريدات يوضح فيها العلاقة بين رسم ونحت بوذا والحضارة المصرية، مشيرا إلى أنه سجلت مسوحات أخرى في الصحراء الشرقية مستوطنة رومانية كبيرة في أواخر القرن الرابع والسادس الميلادي.

جدارية عن حصان طروادة
جدارية عن حصان طروادة

ووصف اكتشاف تمثال بوذا أنه أول دليل مادي للتفاعل متعدد الاتجاهات بين روما والهند، ويقول: “حان الوقت للبحث عن المعابد البوذية في البحر الأبيض المتوسط”، مضيفا: “هذا التمثال قد يفسر حركة البضائع وسفر الفنانين بين الهند وروما أيضًا والتي تم توثيقها في صورًا مثل حصان طروادة الذي يظهر منحوتًا على ستوبا بوذية في غاندهارا”.

ويرى أن أهمية اكتشاف هذا التمثال تكمن في أنه يساعد في شرح كيف تم رسم الجداريات البوذية الوحيدة الباقية من غاندهاران من ميران (بالقرب من كاشغر) من قبل فنان يُدعى تيتوس، وهي تشبه إلى حد كبير صور القديسين الذين تم رسمهم في مصر القبطية، فضلا عن ذكر التشابه بين بوذا وتماثيل أوغسطس الروماني في العديد من المراجع التاريخية.

اقرأ أيضا:

«زفة اللنبي» و«الغطس في بحر مويس».. ذكريات المصريين للاحتفال بشم النسيم

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر