هروب تاجر آثار باع قطعا مصرية منهوبة بـ50 مليون يورو.. هل تُغلق القضية؟| مستندات

هرب «سيروب سيمونيان»، تاجر الآثار متعدد الجنسيات وأحد أبرز الأسماء في شبكة دولية لتهريب الآثار، والمتهم الرئيسي في قضايا تزوير وبيع آثار مصرية بوثائق ملكية مزورة تُقدّر قيمتها بأكثر من 50 مليون يورو لمتحف اللوفر في أبو ظبي، وكذلك بيع آثار مصرية لمتحف متروبوليتان في نيويورك.
ويُعد سيمونيان العقل المدبر لتلك العمليات، إذ استغل فترة الإفراج المؤقت عنه وفرّ من فرنسا، وسط صمت رسمي من السلطات الفرنسية والألمانية بشأن مكان وجوده أو الجهود المبذولة لتسليمه. هذا الغموض يثير تساؤلات حول مصير القضية، وما إذا كان هروبه سيؤثر على إمكانية استعادة الآثار المصرية المنهوبة، خاصة إذا لجأ إلى دولة لا تربطها اتفاقيات تسليم مجرمين مع أوروبا.
من هو سيروب سيمونيان؟
سيروب سيمونيان، تاجر آثار مصري من أصول أرمينية، ولد في القاهرة عام 1942 لعائلة متخصصة في تجارة الآثار، وحصل لاحقا على الجنسية الألمانية بعد انتقاله إلى هامبورج. لا يعد اسما عابرا في عالم الاتجار غير المشروع بالتراث الثقافي، إذ كشفت التحقيقات الجارية في باريس عن ارتباطه بشبكة دولية معقدة تتورط في تهريب القطع الأثرية من مناطق نزاع وحروب إلى متاحف مرموقة.
ومن أبرز هذه القطع تابوت الكاهن المصري “نجم عنخ”، الذي أعيد بيعه مقابل 3.5 مليون يورو إلى متحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك، قبل أن تتمكن مصر من استرداده بعد الكشف عن كونه مسروقا. كذلك، يرتبط اسم سيمونيان بسبع قطع آثار مصرية موجودة في متحف اللوفر أبو ظبي، ما تزال قيد التحقيق بسبب الاشتباه في بيعها بوثائق مزورة. وكانت صحيفة “لوموند” الفرنسية قد نشرت أن هذه المبيعات تمت بين عامي 2014 و2018 مقابل 50 مليون يورو.
كيف هرب من فرنسا؟
كان سيمونيان، البالغ من العمر 83 عاما، يحاكم في فرنسا بعد أن سلمته ألمانيا للسلطات الفرنسية، وقد صدر بحقه حكم بالسجن في منتصف سبتمبر 2023. لكنه فر هاربا في مطلع يناير 2025، بعد أن وجهت إليه اتهامات بالاحتيال المنظم، وغسل الأموال، والتآمر.
وذكرت صحيفة “لوفيجارو” الفرنسية، أنه أطلق سراحه مؤقتا بعد أن قضى خمسة عشر شهرًا في سجن “لا سانتيه”، وذلك بسبب ظروفه الصحية وسنه المتقدم. لكن النيابة العامة اعترضت على القرار واستأنفته فورا، مطالبة بإبقائه قيد الاحتجاز. وأيدت محكمة الاستئناف هذا الطعن. وقررت إعادته إلى السجن، مستندة إلى ما وصفته بـ”مخاطر كبيرة للهروب”، نظرًا لعلاقاته الدولية الواسعة، وقدرته المادية على تنظيم عملية فرار.
ورغم ذلك، قرر قاضي الحريات بتاريخ 31 ديسمبر 2024 الإفراج عنه، مستندا إلى حالته الصحية واستخدامه كرسيا متحركا، معتبرا أن مخاطر هروبه “ضئيلة”، لكن سيمونيان استغل قرار الإفراج المؤقت وهرب.
التأثير على مسار القضية
يثير هروب سيمونيان العديد من التساؤلات، أبرزها: كيف سيؤثر غيابه على مسار القضية، خاصة أنه المتهم الرئيسي؟ وهل إذا لجأ إلى دولة لا تربطها اتفاقيات تسليم مجرمين مع أوروبا، سيكون من الممكن استرداد الآثار المصرية المنهوبة؟ وهل يهدد اختفاؤه بكشف خيوط القضية التي تُعد من أخطر ملفات الاتجار الثقافي في العقد الأخير؟
ويجيب عن هذه التساؤلات د. محمد الشهير، الخبير القانوني والمُحكم الدولي، في تصريحات خاصة لـ”باب مصر” قائلا: “إذا توافرت أدلة ثابتة بشان عدم مشروعية حيازة المتهم للآثار، فإن هروب المتهم لا يؤثر على سير القضية”.
وذكرت صحيفة “ليبيراسيون” الفرنسية أن المحامي الألماني لسيمونيان قال إن موكله لم يبلغ بقرار الاستئناف بلغة يفهمها، وسط تحقيق قضائي واسع بدأ رسميا عام 2020 بعد عامين من التحقيقات الأولية، ويتضمن شبكة معقدة تضم ما لا يقل عن ثمانية أشخاص.
من بين هؤلاء، شخصيات بارزة في الوسط الفني والثقافي الفرنسي، منهم مالكا صالتين شهيرتين لعرض الأعمال الفنية في باريس: كريستوف كونيكي وريتشارد سمبر، إضافة إلى جان-لوك مارتينيز، الرئيس والمدير السابق لمتحف اللوفر، وجان-فرانسوا شارنييه، المدير التنفيذي السابق لوكالة متاحف فرنسا.
7 قطع إلى اللوفر أبو ظبي
تشير أوراق التحقيق إلى أن سيمونيان ألقي القبض عليه في باريس في سبتمبر 2023، ووجهت إليه سلسلة اتهامات، من بينها الاحتيال، وغسل الأموال ضمن عصابة منظمة، والتآمر الجنائي، بعد أن تبين اشتراكه في بيع قطع أثرية من مصادر غير مشروعة.
أما عن إشكالية تعدد جنسيات سيمونيان وتأثيرها على مجرى القضية، فقال مصدر مطلع على التحقيقات الفرنسية لـ”باب مصر” إن عائلة سيمونيان حصلت على الجنسية الألمانية منذ انتقالها إلى هامبورج.
وأوضح أن معظم الآثار التي احترف الأشقاء – سيروب، وهاكوب، وسيمون – بيعها، هي آثار منهوبة تم تهريبها من مصر بعد ثورة 2011، ويتم بيعها من خلال دار المزادات الفرنسية “بيير وبيرجي”. وأضاف أن الإخوة اتخذوا احتياطات صارمة خلال صفقات البيع، ولم يظهروا بشكل علني، بل استعانوا بأشخاص آخرين لتنفيذ العمليات، من بينهم”روبن ديب”، تاجر آثار ألماني من أصول لبنانية.
ولإضفاء شهرة وثقة بالدار، باع الأخوان آثار للمتاحف في جميع أنحاء العالم وللمجموعات الخاصة الكبرى. ولديهم مخزنا يضم أكثر من 25 ألف قطعة فنية، تشمل آثارا فينيقية ومصرية وغيرها من القطع من أوروبا والشرق الأوسط. ومن بين هذه القطع، مئات وصلت إلى متحف اللوفر في أبو ظبي، وسبع منها محل التحقيق حاليا في فرنسا بسبب بيعها بمستندات تصدير مزورة.
عمليات تفتيش واسعة
وتابع المصدر: “في يونيو 2020، تم توجيه التهم لهما، بعد عامين من التحقيق الأولي، وبعدما فتح القاضي الفرنسي تحقيقًا قضائيًا أدى إلى عمليات تفتيش في فرنسا ومنازلهما في هامبورج، في يونيو 2020”.
وتشمل أوامر الضبط والاعتقال الإخوة الثلاثة: سيمون (قبل رحيله)، وهاكوب، وسيروب. ويعلم القاضي أن تابوتين مصريين دخلا إلى أوروبا بشكل غير قانوني، ثم أحضرا إلى باريس عبر مستودع شركة كونيكي. (EURL) لعرضهما.
وأضاف المصدر المطلع: “من بين هذه القطع، تابوت مطلي بالذهب وآخر حجري. لكن المدعي العام الألماني رفض تسليم أفراد عائلة سيمونيان إلى فرنسا، لأنهم مواطنون ألمان”. وأوضح المصدر أن القانون الألماني لا يسمح بمحاكمة الشخص مرتين عن الجريمة ذاتها في ألمانيا وفرنسا، وأن سيروب شخصية معروفة في الأوساط الثقافية الألمانية، حيث باع أكثر من 50 قطعة أثرية بين عامي 2012 و 2015 لمؤسسات ألمانية بارزة مثل متحف جامعة بون، ومتحف “تريفيس”، ومتحف “إيجيزيو”.
تحقيق مستمر عبر سنوات
تعد قضية تهريب تابوت الكاهن “نجم عنخ” واحدة من أكثر الأمثلة وضوحا على مدى تعقيد شبكة تهريب الآثار التي يقودها الأخوان سيمونيان. فرغم سرقته من مصر، وصل التابوت الذهبي إلى قلب متحف المتروبوليتان في نيويورك قبل أن تكشف خلفيات تهريبه.
وفي خطاب رسمي مؤرخ بتاريخ 29 مايو 2019، وجّهه سايروس فانس جونيور، المدعي العام لولاية نيويورك آنذاك، إلى وزير الآثار المصري، كشف فيه تفاصيل تورط الأخوين سيمونيان في تزوير مستندات رسمية لبيع التابوت إلى المتحف الأمريكي.
وأكد فانس أن التحقيقات أثبتت أن التابوت نُهب من مصر في أعقاب أحداث عام 2011. ثم جرى تهريبه خارج البلاد باستخدام أوراق تصدير مزورة وهوية مصدر مختلقة. وبحسب التحقيق، فقد تم غسل القطعة الأثرية داخل شبكة دولية لتهريب الآثار. الأمر الذي يجعل التابوت، وفق القانون الجنائي لولاية نيويورك، ملكية مسروقة يجب إعادتها إلى مصر باعتبارها المالكة الشرعية لها.
<p>ويُعتقد أن التابوت كان يحوي رفات الكاهن “نجم عنخ”، أحد كبار كهنة الإله “هيريسيف”، الذي عُبد في منطقة هيراكليوبوليس جنوب القاهرة.
كيف تصل الآثار إلى سيمونيان؟
وفقا للتحقيقات، فقد تم نهب التابوت من محافظة المنيا في أكتوبر2011 أو في فترة قريبة من ذلك التاريخ. مستغلين حالة الفوضى التي أعقبت أحداث الثورة. وخلال التحقيق، تم ضبط وثائق رقمية ومراسلات تعود إلى تاجري الآثار روبن جليل ديب وسيروب سيمونيان. وكلاهما خضع لتحقيقات جنائية في عدد من الدول الأوروبية.
ومن بين المواد التي تم ضبطها آلاف الصور ومقاطع الفيديو لقطع أثرية وهي في حالة اتساخ أو تلف. ما يشير إلى أنها حديثة النهب. وكان من بينها ست صور تعود للتابوت الذهبي لنجم عنخ. إلى جانب مئات الرسائل الإلكترونية المتبادلة بين ديب وسيمونيان. وكذلك مع تاجر الآثار الفرنسي كريستوف كونيكي وعدد من المهربين في الشرق الأوسط.
نهب أثري حديث
من خلال تحليل تلك الأدلة، تمكن المحققون من رسم صورة واضحة للبنية التنظيمية لشبكة التهريب. تبدأ السلسلة من لصوص محليين، يعرفون جيدًا المواقع الأثرية ويملكون القدرة على الوصول إليها. يقومون بنهب القطع وتصويرها فور استخراجها أو خلال وقت قصير من ذلك.
في كثير من الأحيان، كانت التحف معروضة على الأرض أو ملفوفة بأوراق صحف داخل مخازن مؤقتة. في مشهد مألوف ضمن دوائر التحقيقات الدولية باعتباره علامة دامغة على نهب أثري حديث. وبحسب المحققين، فإن هذه الطريقة – أي التوثيق الفوري للقطع المنهوبة وهي لا تزال متسخة أو متضررة – تعد من أبرز المؤشرات التي يعتمد عليها خبراء مكافحة تهريب الآثار. إذ تُستخدم هذه الصور لاحقًا في تسويق القطع وشرعنتها من خلال مستندات مزوّرة تُمنح في مراحل لاحقة من السلسلة.
خطوات تهريب القطع
وفقًا لما كشفت عنه الوثائق المضبوطة، فقد كان اللصوص في مصر في قلب هذه الشبكة يرسلون صورًا أولية للقطع المنهوب. وهي في حالتها المتسخة أو التالفة مباشرة إلى روبن ديب وسيروب سيمونيان عبر البريد الإلكتروني.
وتعتبر هذه الخطوة، المعروفة جيدًا في أوساط أجهزة إنفاذ القانون وخبراء الآثار، بمثابة “عرض أولي” للمشترين المحتملين في الخارج. يستخدم لتقييم مدى اهتمامهم بالقطعة قبل المضي في المخاطرة بتهريبها عبر الحدود. ويُعرف أيضًا أن هذه الصور، التي تُظهر القطع كما هي بعد نهبها، تُستخدم كدليل غير مباشر على “أصالة” القطعة؛ ففي السوق السوداء للآثار، كلما كانت القطعة مغطاة بالغبار أو في حالة تلف واضحة، اعتُبرت حديثة النبش وبالتالي أصلية وغير مقلّدة.
من اللصوص المحليين إلى المزاد العالمي
بعد إرسال الصور، كان روبن ديب يتولى الاتصال بكريستوف كونيكي لتقييم القيمة الفنية والتجارية للقطعة. وأظهرت الرسائل الإلكترونية أن ديب كان يستشير خبراء لتحديد مدى أصالة القطعة وإمكانية بيعها.
وعند اتخاذ قرار الشراء، تبدأ المرحلة الثانية: نقل القطعة من بلد المنشأ. وغالبًا ما كانت ترسل من مصر إلى دبي، ومنها إلى ألمانيا. حيث يتولى ديب تنظيفها وترميمها، وهي خطوة وصفها في مراسلاته بأنها “فن قائم بذاته”، لأنها تعيد للقطعة بريقها وتجهزها للعرض أو البيع.
تزوير احترافي لسجلات الملكية
وبحسب الخطاب الرسمي الموجه من المدعي العام لولاية نيويورك. فإن روبن ديب لعب دورا محوريا في إضفاء طابع الشرعية على الآثار المنهوبة. عبر سلسلة من عمليات التزوير المعقدة لسجلات الملكية.
كان ديب يزور مستندات تثبت ملكية أثرية زائفة، يظهر فيها أن القطعة تم اقتناؤها قبل عقود. غالبا من قبل هاوٍ ألماني أو إحدى عائلات سيمونيان، وهي رواية كررها في حالات عدة. وقد استخدم في سبيل ذلك مستندات وفواتير مزوّرة. من بينها فاتورة فارغة تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، صادرة عن تاجر مصري يدعى فرج عبد الرحيم الشاعر – صاحب رخصة تحمل رقم 116 – والتي يبدو أنه أعاد استخدامها أكثر من مرة لتغطية النشأة غير القانونية للقطع الأثرية.
وبعد “تمرير” القطع عبر هذه الوثائق المزيفة، كان ديب يسلّمها إلى كريستوف كونيكي. الذي يعرضها بدوره للبيع من خلال دار المزادات الشهيرة “بيير بيرجي وشركاه” في باريس. ومن هناك، تعرض القطعة على مشترين دوليين، من أفراد ومتاحف.
تتبع مسارات القطع الأثرية
تواصل السلطات الفرنسية، ممثلة في المحكمة الوطنية لمكافحة الجريمة المنظمة، والمكتب المركزي لمكافحة الاتجار بالممتلكات الثقافية، تحقيقا واسع النطاق يعد من أخطر القضايا المتعلقة بشبكات تهريب الآثار في العصر الحديث.
يركز التحقيق على تتبع مسارات بيع مئات القطع الأثرية، يعتقد أنها نهبت من بلدان في الشرق الأدنى والشرق الأوسط، في ظل حالة الفوضى بعد أحداث “الربيع العربي”. لكن هل من الممكن إعادة تسليمه إلى فرنسا وكيف سيتم ذلك حال وجوده خارج مصر؟ ومن هم المطلوبون بالنشرات الحمراء ولماذا يصعب تسليم بعضهم؟
تصدر “النشرة الحمراء” من قبل الإنتربول بطلب من دولة ما. بهدف ملاحقة أشخاص متهمين أو مدانين بارتكاب جرائم جسيمة مثل القتل، أو الاحتيال. وتعد النشرة بمثابة طلب تعاون دولي للقبض على هؤلاء الأفراد، لكنها لا تعد أمر اعتقال. بل أداة تُستخدم لدعم السلطات المحلية في تتبع المطلوبين.
قد يصدر الطلب بحق شخص لم يحاكم بعد، مما يعني أن القانون لا يزال يفترض براءته حتى تثبت إدانته. أما في حال كان المطلوب قد أدين مسبقًا، فإن النشرة تهدف لتنفيذ حكم قضائي صادر بحقه في الدولة الطالبة. ورغم صدور النشرة، فإن تسليم المطلوبين لا يكون تلقائيًا، إذ تواجهه عوائق قانونية وسياسية، من بينها، حماية الجنسية، والاعتبارات السياسية والدبلوماسية، بعض الدول، مثل فرنسا، ترفض تسليم مواطنيها لمحاكمتهم في الخارج. حتى في حال وجود اتفاقية تسليم. وهذا المبدأ ينطبق أيضًا على من يحصل على جنسية دولة يحتمل أن توفر له حماية من التسليم.
اقرأ أيضا:
آثار ترانزيت: التلاعب بمستندات الملكية يُمكّن عصابة أوروبية من تهريب آثار مصرية
22 عاما في مخزن متحف.. ألمانيا تطارد 7 تجار آثار مصرية مسروقة