«الجزايرلي» متسكعا في حارات الإسكندرية.. نص نادر (3-3)

بعد انتهاء مدة تجنيد يوسف فهمي الجزايرلي في الجيش الفرنسي أثناء الحرب العالمية الأولى، عاد الجزايرلي لمدينة الإسكندرية بنظرة مختلفة وأقرب للاستشراق تجاه شوارع المدينة. في هذا الجزء من نص الجزايرلي “الإسكندرية في فجر القرن العشرين” نجده مغرق في الوصف الإثنوغرافي على غرار الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر. فيرسم لنا مسارات تحرك الباعة الجائلين المصريين والأجانب في حارات منطقة بحري والمنشية التي تغيرت أسمائها أو لم تعد موجودة الآن.

يصف الجزايرلي بدقة أحوال الباعة الجائلين من ملابس ومعدات وحتى نداءاتهم بلغاتها المختلفة بين العربية المصرية والشامية، والإيطالية والسودانية والتركي. أيضا يصور مشاهد من اشتباك الأطفال مع الشارع ومع الباعة الجائلين. وبهذا يعطينا لمحة عن الكوزموبوليتانية في القرن العشرين بمدينة الإسكندرية من زاوية مختلفة.

**

ننشر هنا جزءً ثالث من نص الإسكندرية في فجر القرن العشرين ليوسف فهمي الجزايرلي بعد تحقيقه وإضافة الهوامش التوضيحية عليه:

«رنت صناجات بائعي العرقسوس النحاسية الرحبة تدوي في جميع الشوارع والحارات والأزقة. مؤذنة بمرورها ومنبهة العطشانين إلى شرابهم العذب المثلج في دقات متتالية منتظمة السياق قوية الرنين. فتهافت المارة والمتسابقين بالدراجات وبالأطواق وراكبو الأرجل الخشبية ومطلقو الطائرات الورق. واللاعبون بالكعب والنوى وبالنحلات الجعاعير وبالكرة الشراب في شتى أنواعها. تهافت كل هؤلاء على بائعي الشراب التقليدي المنعش يتناولون من كيزانه الكبير ما يروي ظمأهم. وشاركهم في هذه المتعة الصيفية الجالسون على القهاوي و أمام محال بيع التبغ والتمباك والمخانجية.

ولم يقصر الحج فتح الله سردينة، بائع أجدع عرقسوس في تقديم شرابه على أجمل طريقة وأبهى منظر. فلف على وسطه ملاءة زردخان من الحرير المضلع بخطوط عريضة أفقية حمراء وصفراء وتمنطق بحزام من الجلد البني العظيم العريض بهيج الرونق حلته قطع نحاسية لامعة. فزينت أديمه ولبس صدرة من الشاهي الأصلي المقلم مطرزه بالقيطان الأسود وأرسل لحيته. وقد خطاها الشيب الجليل وكلل رأسه بعمامة غبانية. ثم خيوط نسيجها البرتقالية على أنه من أولاد الطريقة الشاذلية.

أما محلبة العرقسوس الفخارية الحمراء الهائلة فقد ثبتها الحاج على الجانب الأيسر من بطنه بسير من الجلد المزركش بالقطع النحاسية المختلفة الأشكال. يمر بكتفه الأيمن ويتدلى ليحتضن المحلبة في رفق وحنان. فبدت مزهوة يتوج هامتها قطعة ضخمة من الثلج دست بفوهتها في قطعة ليف النخيل الأحمر وزينت بالورود والأزهار النضرة.

لوحة فنية لبائع العرقسوس محمود سعيد تشبه ما وصفه الجزايرلي
لوحة فنية لبائع العرقسوس محمود سعيد تشبه ما وصفه الجزايرلي
**

وفي الحزام البني العريض علق عمي سردينه إناءً نحاسيًا مستطيلًا تعلوه النقوش، صف بداخله الكيزان الثلاثة التي يقدمها للشاربين وأمسك الصناجتين الرحتين بيده اليمنى. وترك الإبريق النحاسي الظريف يتدلى من يسراه مملوءا بالماء الُمعد لغسل الكيزان عقب شرب الزبائن. وكلما تناول زبون قديم من زبائن عمي سردينة كفايته من كيزانه الحلوة الشراب تكرع بأقصى ما في قصبته الهوائية من قوة. ونظر إلى السماء في ضراعة وقال داعيًا: الله يخليك لنا يا حاج فتح الله يا مصيت.

والحاج سردينة فارع القامة مستقيم الهامة على الرغم من تقدمه في السن، وترجع استقامة هامته إلى حمل قدرة العرقسوس الثقيلة مما يجبره على إبراز الصدر إلى الأمام. وقد ذاعت نكتة بطلها المعلم سردينة وسياقها الفكاهي يتلخص في أن أحد الساقيين عثر على كنز تحت منزله بعد أن عمل في السقاية أربعين عاما. وقوس حمل القربة ظهره فصار يمشي محنياً فتزوج شابة جميلة لم يرقها منظره فنصحته بالذهاب إلى الطبيب ليقيم ظهره. ووجد الطبيب أن علاجه مستحيل فتناول منه المائة جنيه التي عرضها عليه. وقال له أن علاجك بسيط ولكنه طويل المدة فما عليك. إلا أن تحمل قدرة العرقسوس مثل المعلم سردينة أربعين سنة أخرى وفي نهايتها ستجد هامتك وقد استقامت كعود الخيزران.

ونافس الحاج سردينة في هندامه وفي عرقسوسه اللذيذ منافسان قويان. هما حاجي بابا قدري، والحاج بحصلي أبو الشام. فتألق كل منهما في لف الملاءة الزردخان على وسطه. وفي لف الشريط الغباني على طربوشه العزيزي المرتفع القامة وفي جلاء الإناء النحاسي المعد لوضع الأكواب البلورية والإبريق النحاسي الظريف.

**

ولم يخالفا الحاج سردينة إلا في المحلبة الفخارية وفي كيفية حملها فحاجي بابا قدري استعاض عنها بخزان من النحاس الأصفر المنقوش حمله على ظهره بسيرين من الجلد يمران فوق كتفه وتحت إبطيه. وقد علته جلية نحاسية مخروطية الشكل على هيئة طرطور تتدلى منها سلاسل عديدة مدندشة بقطع مستديرة من النحاس الأحمر. تنبعث منها شنشنة منظمة توائم في رنينها خطوات حاجي بابا الوئيدة. وخرجت من الجانب الأيسر للخزان أنبوبة نحاسية تمتد أفقيا إلى الأمام في نهايتها حنفية تدر العرقسوس التركي للزبائن. ولم تفارق حاجي بابا قدري عنجهيته التنرية الوراثية فأخذ يعلن عن شرابه في كبرياء وصلف صائحًا: آمان- آمان ياربي- عرقسوس عظمتلي- ها-ها -ها.

واستعاض الحاج بحصلي أبوالشام عن المحلبة التقليدية بقربة اتخذها من جلد عنزة. وثبت في عنقها بزبوزا نحاسيا طويلا. وتركها تتدلى في سير حول عنقه لتستريح فوق ظهره في استرخاء. وسد فوهة البزبوز وأمال القربة في حنان إلى الأسفل وصب الشراب في الكوبة وهو يصيح مزهواً: حود خيو- حود- هيك العرقسوس المنعنش.

ويتبع حاجي بابا والحاج بحصولي نداءهما التركي والشامي بدقات متتالية صماء تصل إلى آذان زبائنهم من سلطانية من صنع الصين زرقاوية النقوش تقرع أسفلها طاسة نحاسية أقل منها اتساعًا.

وعلا صوت عمي علي النن العذب بشارع الباشا -رأس التين- ينادي على مثلجات، التي لا يدانيه أحد في إتقان صنعها من اللبن الصافي الممزوج بفتات الفستق الحلبي والبندق والصنوبر ومن عصير الفراولة والليمون والبرتقال. وهو يقول في نغمة السيكا الحلوة كيما كيلي دندرما- شيكولي دندرما- هيطلي دندرما. ويعني هذا النداء التركي أن مثلجاته أساسها اللبن والسكر وإنها رخوة كالمهلبية في سهولة ازدرائها ولذيذ طعمها.

**

والواقع هو إن عمي علي النن يتقن كل إتقان تقليدهم في ملبسه وفي نداؤه وكيفية عرض بضاعته. فهو يضع الطربوش العزيزي المرتفع القامة فوق رأسه. ويرتدي القميص الأبيض تعلوه صدرة من الجوخ الملون المطرز بالقيطان والسراويل البيضاء غير الفضفاضة الضيقة الرجلين. المزينة الجانبين بالقيطان الأصفر في دوائر عريضة تضيق بعد الجزء الأعلى من فتحة الجيب. ويثبت بشريطة حول عنقه حشية صغيرة على عاتقه فوقها ذراعًا خشبية يمتد أفقيا إلى ما بعد كتفيه. ويتدلى من طرفيه حبلان غليظان لفهما عمي في قماش أبيض نظيف.

وعلق في نهاية الأيمن منهما ناجودًا نصفيًا كساه بالقماش الأحمر ووضع بداخله إناء المثلجات النحاسي محاطًا بقطع من الثلج المزودة بكمية كبيرة من الملح لصونها من الإذابة السريعة معلق في نهاية الحبل الأيسر وعاء ظريفًا من النحاس الأصفر المنقوش اللامع صفت فوقه صحون صغيرة على شكل المحار، وفي وسطه أنبوبة ترتفع عموديا في نهايتها حنفية لغسل الصحون بعد الاستعمال.

وتجمع الزبائن أطفالًا ورجالًا حول عم علي النن  قامته وحط الناجود والوعاء  النحاسي على الأرض وأراح الذراع الخشبي على حافتيهما وشرعا في البيع وغناء ومرح مستمر ونشاط جم لا يعرف الكلل. منحنيًا تارة ليختلف قطعة من المثلجات بجاروفه الفضي الصغيرة الأنيق. ومنتصبا تارة أخرى ليتحف صحن الزبون بما أختلف من دندورما اللبن أو من جيلاتي الفراولة والليمون والبرتقال. ثم يتناول القرش والتعريفة ليلبي طلب زبون آخر ينتظر دوره بفارغ الصبر.

وإذا انتهى عمي النن من البيعة أخذ في غسل الصحون في عناية وضع ذراعه الخشبي على عاتقه وراح ينادي على بضاعته في خطوات ينغمها ترجح الناجود والوعاء المتدليان على جانبيه.

**

وفي حي اللبان حيث يكثر أفراد الجاليات الأجنبية ولاسيما الجالية الإيطالية. جلجلت أصوات الباعة في رطانة يفهمها المشترون في ذلك الحي لما اشتملت عليه من الكلمات الإيطالية المشوهة والكلمات العربية المُطلينة. فصاح بائع الخضروات يطري بضاعته بنغمة ناعمة طريقة الانسجام معلنًا أن الطماطم شديدة الحمرة وأن بطاطسه جديدة وقال من نغمة السيكا المحببة الحناجر جميع الباعة الإسكندريين: يا روسي يابو مو دوري-  بطاطا نوفا للبطاطا.

وغنى بائع ورق الخطابات وغلافاتها ورقاع البريد المصورة من النغمة نفسها وبترنيم مديد الصوت: كارتا انفلوبي- كمارتولينا بوستال.

وفي شارع الشمرلي دفع كركر عربته الصغيرة أمامه، وقد شيدها على هيئة مهد للأطفال وغطى هيكلها بستار من الحرير الوردي اللون وراح ينادي على كرملته اللذيذة المتقنة الصنع بندائه التقليدي العذب: هو الكريم. ويوزع على زبائنه من أطفال الحي دون أن يقف لحظة، قراطيس حلواها وقد ضم كل منهما عشر كراميلات غليظة الحجم حمراء وصفراء وخضراء وبيضاء يعطرها روح الورد والليمون والنعناع.

ويتناول من أيديهم الصغيرة العشرات الفضة التي قيمة كل منهما مليمان ونصف المليم. ويسير إلى الأمام ليلبي طلبات طائفة أخرى من أطفال شوارع الميدان والطباخين والبحرية.

**

وفي شارع أبي وردة وقفت عربة اليد الجميلة المنظر التي لم يدخر صاحبها المعلم جعلص، فتوة حي المغاوري، جديدًا في جعلها محط الأنظار وبهجة الأبصار إذا أضفى عليها فنون حشيشه ثوبًا بديع الألوان بعد أن حلى حافتها بكرنيش من الأرابيسكا الدقيقة وأتقن صنع صندوقها الأسفل من القوائم الخشبية المخروطية على هيئة المشربيات. فبدت العربة في مجملها الأنيق تحفة من تحف فن المخانجية ذات خطوط عريضة خضراء وحمراء وصفراء وبنفسجية تقطعها طولًا وعرضًا في تشكيلة زاهية وباهرة.

وقد رصع مقبضيها بمسامير نحاسية وكسا طرفي المقبضين بصفيحتين من البرونز الأحمر. وفي أحد ركني العربة الخلفيين يد الصندوق الصغيرة الملون المُعد لوضع النقود وقد زينته القطع النحاسية العديدة على أشكال الخيول والنمور والسباع والطيور.

ووقف المعلم جعلص بجانبها واضعًا رجله اليسرى على الكرسي الذي لا يفارقه طوال جولاته في نسيم العصاري. وقد بدا حسر الهندام في قفطانه الأبيض وطاقيته المزهرة والقرنفلة الوردية النادرة خلف أذنه اليمنى. وفرش سطح عربته المحروسة ببساط سندسي من البرسيم وضع فوقه الخيار- القشة- الصغير الطازج صفوفًا تألف دوائر كبيرة في طبقات منتظمة بعضها فوق بعض يتخللها عيدان الورد والقرنفل المختلفة الألوان وبين الفينة والفينة يسند كفه الأيسر على خده وينادي على خياره بأحسن النداء.

**

ولاحظ المعلم جعلص أن الزبائن لم يتهافتوا على بضاعته وهو العريق في بيعها رخيصة لذيذة فطغت عزة البيع على نفسه وراح يغني على خياره في صوت رنان سخي الجرس والحنان:

يا لوبيا يا صغير على جرشين – دماغي وجعني والسوج ما نفعني يا بيض.

وفهم زبائنه من هذا النداء العذب أنه يعتب عليهم ويلومهم في رفق على إعراضهم عن خياره المشهور فتقدموا للشراء تقوي عزائمهم أنغام المعلم جعلص الشجية.

وفي زقاق بندقة نفخ صاحب صندوق الدنيا في بوقه النحاسي فانبعث منه صيحات عالية يهرع إلى مصدرها صبية الزقاق وطفلاته. بعد أن أرغموا أمهاتهم على مدهم بالخمسات الفضة وبأنصاف الأرغفة وأرباعها. وتجمعوا حول صندوق العجائب المحبب إلى نفوسهم بما يضم جوفه من صور وما يزين ظاهره من قطعة ومسامير نحاسية لامعة. وما يحلي هامته من صور زيتية وريش ملون هائل. تجمعوا حوله ينتظرون دورهم ليمتعوا الأعين بمشاهده مناظره المتحركة الخلابة. التي تدخل الغبطة على نفوسهم الساذجة.

ونفخ صاحب الصندوق في بوقه ثلاث مرات متتالية أخرى وأسرع في حط الصندوق فوق حامله وتأكد من ثباته. ثم وضع المقعد الخشبي الطويل على مقربة من نظاراته البلورية التي تطل على المناظر بداخله. وعندها بدء يتناول الخمسات الفضة وأنصاف الأرغفة وأرباعها من الأطفال والطفلات الذين التفوا حول الصندوق قبل الآخرين. وأمرهم في عنجهية أن يجلسوا على المقعد الخشبي في سكون وأدب وأن يلصق كلاً منهم مقلة عينه بإحدى نظارات الصندوق.

**

وبعد أن أنزل على رؤوسهم الستار الأرجواني المثبت فوق النظارات ليحجب عنهم نور النهار فتتضح الصور إلى أبصارهم. نفخ في البوق ثلاث نفخات طويلة عالية وأدخل يده اليمنى في علبة الصندوق الجانبية وأدار عصفورتها الخشبية وشرع يقول في ترنيم وئيد:

شوف عندك يا سلام- على عجائب الزمان- أدي أبوزيد الهلالي – بطل الأيام والليالي- ضرب الزناتي خليفة- بحربته المخيفة – فخلعوا عينوا الشمال ودمه على الأرض سال.

وشوف عندك كمان- عجايب أهالي الجان- الغول مطلع نابه- وجرونه طول أزنابه- وأدي السفيرة عزيزة- بنت الملوك العزيزة – لابسة المجصب حرير لجوزها ابن الأمير.

وكلما مرت صورة أمام أعين الصغار صدرت عنهم صيحات الفرح واهتز بهم المقعد الطويل هزات سريعة تعبر أحسن تعبير عن سرورهم الجماعي البريء.

وبجوار زاوية الشيخ كشك علت ضجة صاخبة جرى إلى مجلبتها فتيان الحارات المجاورة وفتيانها وأطفالها ونسوتها ليشاهدوا الرقصة السودانية. العنيفة على أنغام أوتار الطمبورة البدائية. فإذا بهم أمام ذلك المنظر الذي يثير في أعماقهم العجبة الممزوج بالدهشة كلما وقعت أعينهم عليه ويجعل عقولهم الباطنة تصدر أوامرها اللاشعورية إلى مجموعاتهم العصبية فتحرك أجسامهم.

وترغمها على مجاراة راقص الطمبورة في توقيع خفيف منتظم تلقائي مواطنه العصبية الجامحة التي تستكن في قرارة النفوس وتبدوا ظاهرتها بالانطلاق الآلي الشديد. فالراقص شاب سوداني فارع القامة فحمي البشرة براق العينين غليظ الشفتين مجعد الشعر. تشوه خديه ستة خطوط عمودية ثلاثة على كل خد. هي آثار جروح أجريت له عقب مولده. ليدل على انتمائه إلى عشيرة معينة من العشائر السودانية العتيدة المحتد. وفوق رأسه إكليل من الريش الأسود الطويل المحلى بالخرز المختلف الألوان وببعض القواقع البحرية.

**

وعقد الإكليل في أعلى جبينه العريض حلية مكونة من مرآة صغيرة حولها حبات من الخرز الأزرق والأحمر. وقد تعرج جسده إلا من قطعة جلدية مطرزة بالخرزات الكبيرة تغطي جزءا من صدره الرحب. وسوارين عريضين من جلد النمر يضمان معصمه المفتولين. وحزام يستر عورته من تحت السرة إلى منتصف الساقين تتدلى منه مئات من الشرائط الجلدية الرفيعة. ربط كل منها خف من أخفاف الأقدام الخرفان المفرغة. وقبل نهاية رجليه بقليل خلخالان من جلد السباع.

ووقف إلى جانبه عازف الطمبورة في صلف وكبرياء ظاهرين تعلو رأسه العمامة البيضاء. التي تغطي أذنيه وتبدو فوق جبينه في زاوية رأسها عند مبدأ شعره. وقد أعد آلته الموسيقية العريقة النسب فيما يعرف بني البشر من أدوات العزف، من قصعة معدنية شد عليها رقاً خشنًا به ثقبان واسعان في جبهته العليا. وزودها بساريتين مخروطتين من الخشب تخرجان من أسفل القصعة تحت الرق وتنفرجان قليلًا في ارتفاعهما شمالاً ويمينًا. وربط طرفي الساريتين بساق خشبي أفقي تدلت منه أوتار الطنبورة الأربعة الغليظة لتثبت في أسفل القصعة وتبعد عن سطح رقها قليلاً بقطعة من الخشب في غلاف من الجلد.

ودندش الطمبورة بقلائد عديدة من الخرز الملون تتخلله القواقع. وزين غطاءها الجلدي من الخلف بمرآة وبأنواع شتى من الأصداف. وعقد في ساريتها اليمنى إضبارة تضم أحجية وتعاويذ لتمنع عنها شر الأعين.

**

ولم يدخر العازف جهدا في مداعبة أوتار طمبورته بطرق القوقعة الكبيرة الصدفية لتخرج رنات قوية توائم الرقص بفضل لمس أصابعه اليسرى لها من الخلف. ولم يقصر الراقص العملاق في الاستجابة إلى رنات طمبورة زميله المتحمس. فاندفع يحرك وسطه في شدة مطردة واندفعت أخفاف الخرفان المتدلاه من حزامه تؤدي عملها. وتلقى في الأذان بقرقعة مستمرة تشبه صوت قطع الزجاج إذا ما وضعت في جراب وحركت بكيفية متتالية في اتجاهين متضادين.

وقويت رنات الطمبورة ورقصة العملاق وطفق الاثنان يرددان الأغنية الطمبورية السودانية في رطانة لا يدرك المتفرجون حرفًا منها. ولم يقعد الجهل بهذه الرطانة أفراد السامر عن تقليد الأغنية بألفاظ عربية دارجة. مع قلب حرف الخاء فيها إلى كاف على غرار ما يلفظه السوداني. إذا لم يكن قد تعود على النطق بالحروف العربية على صحتها. فكلما انتهى عازف الطمبورة من فاصلة في أغنيته صاحب المتفرجون الراقص في ترديد مرجعها صائحين: ولا جولين- كسر الماجور عشان واحد- بقرشين يا كسارة- أي يا خسارة.

**

وطاف موكب الطمبورة المائج بحارة الكيال وحارة مدورة وشارع الشمرلي وشارع زاوية الأعرج ليعود إلى زاوية الشيخ كشك بعد أن عرج على حارة بزأمة وحارة الدقاق ومر بالسرايا أم عواميد ومنازل شهاب والليثي والشيخ نعمة الله.

وتمادى الراقص في تحريك وسطه بعنف عندما بدأ الموكب في ولوج حارة الطمبورة السد خلف منزل عائلة بيصار. وهي موطن شيخ مشايخ الطبمورة ورفيق أقوى عفاريتها وصديق أعظم جني يتزعم عازفها وراقصيها. وأعتى طريقتها ومريديهم من الرجال والنساء. وفي بيت الشيخ الجليل المهابة دخل الراقص العملاق وعازف الطمبورة. صائحين بأعلى ما في صوتهما من ارتفاع فتلقاهما المجتمعون بالدار بالصراخ والرطانة. وفهم التابعون من المتفرجين أن القصد من الموكب والاجتماع هو إحياء الحفلات المتتالية العديدة. التي تسبق يوم زفاف أحد المنتمين إلى شيخ الطريقة الطمبورية وصديق زعيمها من الجن العتاه..».

هوامش
  • صناجات: الصاجات.
  • راكبوا الأرجل الخشبية: راكبوا العجل.
  • الكعب: لعبة للأطفال اسمها الكعب والنجا، والكعب يأخذونه من المفصل الذي يصل قدم الخروف بحافره بعد إزالة اللحم والجلد ودهنه بالحناء.
  • الجعاعير: لعبة للأطفال على شكل نحلة بها مسمار عند نهايتها، وتصدر صوت عند لفها.
  • الكيزان: إناء معدني يشبه الكوب.
  • الماخنجية: بائعي المواد المخدرة كالمنزول والحشيش.
  • الطمبورة: آلة وترية مصنوعة من الخشب يُغطى صندوقها الصوتي بقطعة من جلد الماعز، ولها ستة أوتار صنعت قديما من أمعاء الجمال ثم من الأسلاك والبلاستيك.
مصادر
  • مجلة كراسات الإسكندرية، عدد إبريل 1965، الإسكندرية في فجر القرن العشرين، يوسف فهمي الجزايرلي ص50-ص51-ص-52ص53-ص54-ص55-ص56-ص57-ص-58ص59-ص60.

اقرأ أيضا:

يوم في حياة المخانجية بداية القرن العشرين.. نص نادر لـ«الجزايرلي» (1-3)

فتوات رأس التين والسيالة في الإسكندرية.. نص نادر لـ«الجزايرلي» (2-3)

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر