«مولد عبد الله الغريب».. حكاية تمتد جذورها لأكثر من 100 عام في السويس

في مدينة السويس، وتحديدًا عند مسجد عبد الله الغريب، الموجود في حي يطلق عليه أبناء المدينة اسم صاحب المسجد، يتجدد كل عام واحد من أعرق وأقدم الموالد الشعبية في مصر، مولد «عبد الله الغريب»، الذي يُعد مناسبة روحية واجتماعية وتراثية استثنائية تمتد جذورها لأكثر من مئة عام. أقيم المولد هذا العام، وشهد مشاركة واسعة من أكثر من 8 طرق صوفية، جاءت إلى المدينة برفقة الأتباع من مختلف محافظات الجمهورية، في مشهد مليء بالألوان والابتهالات والروحانية.
الاحتفال بمولد عبد الله الغريب ليس مجرد طقس ديني، بل هو أيضًا تظاهرة شعبية وثقافية تبرز الكرم السويسي الأصيل. تمتلئ الساحات المحيطة بالمسجد بالزوار وأهالي المدينة الذين يحرصون على تقديم الطعام والمشروبات والحلويات مجانًا. في تقليد يعكس الروح المصرية الأصيلة في حسن الضيافة والتقدير لمن جاء يشاركهم هذا الحدث الجليل.
مولد عبد الله الغريب طابع احتفالي وروح جماعية
يبدأ المولد بتوافد أبناء الطرق الصوفية، يعقبه حلقات ذكر وابتهالات دينية تقودها الطرق الصوفية المشاركة. وتتحول الساحة إلى مسرح مفتوح للإنشاد الديني والمديح النبوي، وسط أجواء تملؤها الروحانيات ويعلو فيها صوت التسبيح والدعاء، وتتباري حلقات الإنشاد في تقديم أفضل المنشدين والمداحين ابتهاجا بهذا الحدث الفريد.
وفي مشهد روحاني مهيب يعكس عمق التراث الصوفي في مصر، شهدت الليلة الختامية لمولد سيدي الغريب مشاركة متميزة للعديد من الطرق الصوفية. يتقدمهم مريدو الطريقة الجازولية الذين شاركوا بقوة في الابتهالات والمدائح، جنبًا إلى جنب مع الطريقة الرفاعية، والطريقة البيومية الأحمدية، وطريقة السادة السعدية من أبناء العارف بالله الشيخ زرزور، والطريقة البرهامية، وطريقة السادة الأحمدية المرزوقية.
ليلة روحانية مهيبة في مولد الغريب بالسويس
امتزجت أصوات الذكر والإنشاد مع أجواء المولد المليئة بالنور والإيمان، حيث صدحت حناجر المنشدين بأعذب القصائد في مدح الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسط تفاعل جماهيري كبير من محبي التصوف الذين جاءوا من مختلف أنحاء الجمهورية.
وكانت الطريقة الجازولية من أبرز الحاضرين، حيث قدّم مريدُوها لوحات روحانية من الابتهالات والمدائح، تحمل في طياتها عبق المدرسة الجازولية العريقة، المعروفة بتعمقها في مدارج المحبة والتجلي الصوفي. وأبهر المنشدون الحضور بأداء مميز اتسم بالخشوع والقوة، مما أضفى روحانية خاصة على الليلة الختامية.
أما الطريقة الرفاعية، فقدمت عروضًا مميزة من حلقات الذكر الجماعي المصحوبة بالدفوف،فيما ظهر مريدو الطريقة البيومية الأحمدية بثوبهم المميز وأناشيدهم العذبة التي تمزج بين الذكر والمديح والحكمة، مما جذب أنظار الحضور وأشعل قلوبهم بحب الله ورسوله.
دمج التراث الشعبي الصوفي في الإنشاد
طريقة السادة السعدية، والتي يعود نسبها إلى العارف بالله الشيخ زرزور، شاركت بأداء قوي وعميق تميز بالتماسك بين المريدين، والالتزام بالورد السعدي المعروف في حلقاتهم. كما لفتت الطريقة البرهامية الأنظار بتنوع أساليبها في الإنشاد، وحرصها على دمج التراث الشعبي الصوفي في أداء مميز نال إعجاب الحضور.
فيما أضاف مريدو السادة الأحمدية المرزوقية لمسة من الأصالة والوقار. حيث مزجوا بين الابتهال الفردي والجماعي، في تناغم شديد الروعة مع بقية الطرق. وتؤكد هذه الليلة الصوفية أن مولد الغريب بالسويس لم يعد مجرد مناسبة دينية تقليدية. بل تحول إلى ملتقى سنوي للطرق الصوفية في مصر، ومجالاً لإحياء التراث الروحي والثقافي الذي تزخر به البلاد.
وسط هذه الأجواء، تتجلى معاني التسامح والمحبة والوحدة الروحية التي تجمع الطرق رغم تنوع مشاربها، ليظل التصوف المصري مدرسة فريدة في تربية النفوس وتهذيب الأرواح، عنوانها: “الحب طريقنا، والذكر زادنا، ومحبة النبي غايتنا”.
تراث مستمر عبر السنين
رغم مرور العقود والقرون، ما يزال مولد عبد الله الغريب محتفظًا بزخمه وأهميته. فهو ليس فقط ذكرى لاستشهاد بطل صوفي ومحارب شجاع، بل يمثل أيضًا لحظة سنوية لإحياء التراث الروحي والإنساني للسويس، وملتقى شعبيًا للصوفية في مصر.
ولعل ما يجعل هذا المولد مميزًا عن غيره من الموالد، هو المزج الفريد بين الطابع الديني والاجتماعي، بين البُعد التاريخي والاحتفال الحي، وبين الماضي والحاضر، في مشهد يؤكد أن الذاكرة الشعبية في مصر لا تزال حيّة تنبض بالتاريخ والإيمان.
من هو عبد الله الغريب؟
صاحب المولد هو القائد المغربي أبو يوسف بن محمد بن يعقوب بن إبراهيم بن عماد، والمعروف بـ”الغريب”، وقد اشتهر بالتقوى والزهد، وكان من رجال الفتوحات في القرن العاشر الميلادي، ارتبط اسمه بمدينة السويس حين كلّفه مؤسس الدولة الفاطمية، عبد المهدي، بقيادة حملة عسكرية للتصدي لهجمات القرامطة الذين هاجموا الحجاج المصريين في طريقهم إلى الأراضي المقدسة.
وقاد الغريب الحملة من القاهرة مرورًا ببلبيس وصولًا إلى منطقة القلزم في السويس. حيث دارت معركة حاسمة انتهت باستشهاده ليلة الجمعة، 17 من ذي القعدة عام 320 هـ، الموافق لعام 936 ميلادية. وقد دفن في ذات المكان الذي يحمل اسمه اليوم، ليصبح مزارًا ومقامًا يرتاده الزوار طلبًا للبركة والتبرك بسيرته.
ويُقام في مسجد سيدي الغريب كل عام مولد شعبي كبير، يعد من أقدم الموالد في السويس، ويحضره آلاف الزوار من مختلف المحافظات. تحتوي الاحتفالات على حلقات ذكر وإنشاد ديني. كما تنتشر الخيام التي تقدم الطعام والشراب مجانًا، في مشهد يعكس الكرم الشعبي والارتباط العميق بأولياء الله الصالحين. ويحرص أهالي المنطقة على استضافة الزوار في بيوتهم، تقديرًا لمجيئهم ومشاركتهم في هذا الحدث الروحي الكبير.
الغريب.. المبعوث الفاطمي لمواجهة القرامطة
تقول الروايات الشعبية إن عبد المهدي، مؤسس الدولة الفاطمية، حين علم بتكرار اعتداءات القرامطة على الحجيج وتهديدهم لأمن مصر والحرمين. أرسل أبا يوسف، الذي عرف فيما بعد بـ”الغريب”، على رأس حملة عسكرية من المغرب إلى مصر عام 936م. قاد الغريب جيشه من القاهرة مرورا ببلبيس، وصولا إلى منطقة القلزم (المعروفة حاليًا بطريق السويس). حيث التقى بالقرامطة في معركة شرسة. انتهت باستشهاده ليلة الجمعة، 17 من ذي القعدة عام 320 هـ.
ودُفن الغريب في ذات المكان الذي سقط فيه، وهو ما أصبح لاحقًا المسجد والمقام المعروف اليوم. وكان برفقته في الحملة أربعة من مشايخ الصوفية: الشيخ عمر، الشيخ أبو النور، الشيخ حسين، والشيخ الجنيد، الذين دفنوا بجواره. ليصبح الضريح رمزًا للبطولة والإيمان معا.
اكتشاف نادر: رسالة بجوار الجثمان
خلال أعمال التطوير والترميم داخل الضريح، عثر فريق العمل على أحد أندر الاكتشافات المرتبطة بتاريخ المسجد. حيث وُجدت لفافة قديمة من الجلد محفوظة داخل تجويف بجوار جثمان سيدي الغريب. وبعد الرجوع إلى المتخصصين في الترميم واللغات القديمة. تم استخراج اللفافة بعناية فائقة. وتبين أنها رسالة مكتوبة باللغة الأمازيغية القديمة، ممزوجة ببعض العبارات العربية. ويعتقد أنها كتبت بخط يد عبد الله الغريب نفسه. أو أحد مرافقيه في الحملة العسكرية.
ترجم الرسالة أساتذة متخصصون في اللغات القديمة من جامعة القاهرة، وكانت مفاجأتها كبيرة، إذ حملت وصية روحية من سيدي الغريب، يقول فيها: “إن كنتم وجدتموني، فأخبروا الناس أنني ما جئت إلا لأرفع الظلم عن الحجاج، وأمنح الأرض سلامًا، وإنني ما قصدت مصر إلا حبًا في الله، وامتثالًا لأمره. لا تذكروني بالبكاء، بل اذكروني بالدعاء، وواصلوا طريق الحق، فالدين لله، والوطن للجميع”.
هذا الاكتشاف الفريد أضفى قيمة روحية وتاريخية إضافية على المسجد والمقام، وجعل كثيرًا من أهالي السويس يشعرون بأن الغريب لا يزال حيًا في قلوبهم، وأنه ترك لهم رسالة تستمر في حملها الأجيال.
أثر الرسالة على أهل السويس
أحدثت الرسالة صدى واسعًا بين أهالي السويس، الذين رأوا فيها دليلًا على صدق نية الغريب وكرامته. بل وزادت من محبتهم وتقديرهم له. تحوّلت الرسالة إلى جزء من الروايات الشعبية التي تُروى في ليالي المولد. كما طُبعت منها نسخ على لوحات في مدخل المسجد لتكون مفتوحة أمام الزوّار.
ولم يكن مقام الغريب مكانًا دينيًا فقط، بل تحوّل إلى مزارٍ روحي وثقافي. خاصةً لحجاج بيت الله الحرام، الذين كانوا يتبركون به أثناء مرورهم من السويس. وكان يوجد بئر داخل المقام يُعرف بـ”بئر الغريب”، يشرب منه الزوّار وأهل المدينة. وكان يعتبر من مصادر المياه الأساسية قبل إنشاء ترعة الإسماعيلية، التي تمد السويس بالمياه العذبة.
ومن القصص الشعبية المتداولة عن كرامات سيدي الغريب، ما حدث خلال حرب أكتوبر 1973. عندما حاصر العدو الإسرائيلي مدينة السويس وقطع عنها المياه بوقف تدفق ترعة الإسماعيلية. تقول الراويات إن بئر سيدي الغريب تفجر بالماء وسقى السكان. مما جعل البعض يعتبره كرامة من كرامات الولي الصالح، وإشارة لعنايته بأهل السويس في أصعب لحظاتهم.