من حديقة إلى غابة مصطنعة.. هكذا سيتم تدمير حديقة الزهرية التراثية!

يبدو أن عدوى «التطوير» وصلت أخيرًا إلى حديقة الزهرية التراثية بالزمالك، حيث اطلع «باب مصر» على التصميم المبدئي للحديقة. الحديقة التي شغلت، خلال الأشهر الماضية، حيزًا من نقاشات سكان حي الزمالك، بعد علمهم ببدء خطوات «تطويرها». وهي الكلمة التي تحولت، بمرور الوقت، إلى صداع وكابوس بالنسبة لمحبي التراث داخل مصر، بعد تشويه العديد من الحدائق التراثية وإزالة أشجارها ومسطحاتها الخضراء، واستبدالها بمئات من بلاطات الإنترلوك والمسطحات الإسمنتية، مع إحاطتها بعشرات الكافيهات والمطاعم.

وفقًا للمقترح المبدئي لمشروع تطوير حديقة الزهرية، فإن الغرض منه تنشيط الفضاء الحضري عبر تحويل «الزهرية» لحديقة نابضة بالحياة ومستدامة، قادرة على تعزيز المشاركة المجتمعية، والتبادل الثقافي، وتقديم تجربة للترفيه والتسلية. ويعتمد التصميم الجديد على استلهام الطبيعة البيئية للحديقة، مع دمج العناصر العضوية والألوان، في محاولة لخلق مساحة حية، بجانب الحفاظ على العناصر التاريخية، خاصة الأشجار القديمة، ودمجها مع مكونات الحديقة الجديدة.

فقدان الهوية

لكن على الأرض، يميل المشروع نحو إدخال تجارب حديثة داخل الحديقة. مما يخلق نوع من التعارض الواضح بين الحفاظ على التراث، وتقديم تجربة ترفيهية. إذ يتم التركيز على الترفيه داخل المشروع بصورة أكبر من تلك المعنية بالحفاظ على تراث الحديقة. وهذا التوجه يتعارض مع ضرورة الحفاظ على أصالة الموقع التراثي.

ويشير التصميم، في أكثر من نقطة، إلى الرغبة في تحويل الحديقة عبر العديد من الحيل البصرية والتصميمة لـ«غابة». وهو ما يشير إلى التحول الكبير في طبيعة الحديقة بدلًا من مجرد ترميمها أو إعادة تأهيلها بشكل يتناسب مع طابعها التاريخي. وقد يؤدي هذا النهج إلى فقدان الهوية التاريخية الفريدة للحديقة، لصالح إضفاء جمال مؤقت بهدف الاستثمار.

يتضمن المشروع مناطق جذب مقترحة لمجموعة واسعة من الأنشطة النهارية والليلية. تشمل الأنشطة النهارية: مساحات خضراء واسعة، مناطق مشجرة، مسارات ترفيهية للمشي والتنزه واللياقة البدنية، متنزها للأطعمة والمشروبات. بالإضافة إلى مجموعة واسعة من المطاعم. كما سيتم تخصيص مساحات للفعاليات الموسيقية الحية، والفعاليات المجتمعية، والمهرجانات، والأسواق المؤقتة. وستشمل المرافق الترفيهية: ملاعب رياضية، وصالة للياقة البدنية، ومنطقة ألعاب للأطفال. إلى جانب مجموعة من الأعمال الفنية والمنحوتات والجداريات.

لوحة تسجيل حديقة الزهرية كطراز معماري مميز
لوحة تسجيل حديقة الزهرية كطراز معماري مميز
مناطق جذب ليلية

أما مناطق الجذب الليلية، تتضمن تصميم مسار مشي جديد يشكل المنطقة الرئيسية لزوار الحديقة ليلًا. مع توفير إضاءات وغيرها من مؤثرات لإضفاء طابع ليلي للحديقة، كما سيتم أيضًا تقديم خدمات الطعام لزوار الحديقة. لكن في المقابل، تشير فكرة استخدام الحديقة ليلًا إلى درجة عالية من التدخل المادي الذي سيغير من طبيعة الحديقة التراثية. إذ يوحي المقترح بوجود مبالغة في التسويق التجاري لموقع تراثي هادئ. مما قد يؤدي إلى تحويل الطابع التاريخي للحديقة إلى مركز ترفيهي صاخب مليء بالأنشطة التجارية. وهو ما يثير مخاوف المتخصصين بشأن الحفاظ على الطابع الأصلي للحديقة، وتآكل أصالتها وسلامتها. وهو ما يجعلها غير قابلة للتعرف عليها كحديقة تاريخية.

أما تصميم المطاعم والمحال، فسيتم تخصيص مسار أشبه بالغابة، بهدف خلق شعور بالرغبة في الاكتشاف من جانب زوار الحديقة. حيث سيتم تصميم المتجر بمسارات متعرجة، بجانب استخدام ألوان وألواح من درجات الأخضر الداكن الشبيهة بأجواء النباتات الاستوائية الممزوجة بالون البني الترابي. مع إضفاء لمسات زاهية من الأصفر والأحمر والبرتقالي على نمط أزهار الغابة.

جذب شرائح متنوعة

يسعى التصميم المبدئي إلى جذب شرائح متنوعة لزوار الحديقة من مختلف الأعمار، بهدف خلق تجربة شاملة لتعزيز المشاركة، وتشجيع الإقامة داخل الحديقة لفترة أطول. وبالتالي زيادة الإيرادات. إذ سيتم تخصيص مطاعم لـ(البيتزا، المشويات، الحلويات)، وأكشاك الشاي والمشروبات، وأخرى للطعام الصحي والوجبات الخفيفة.

كما سيتم تخصيص أماكن للموسيقى، ومتاجر تجزئة لتقديم الهدايا التذكارية. بجانب توفير أماكن للصحة والاسترخاء، ومنها تخصيص أماكن لتقديم فصول اليوجا، والمساج، واللياقة البدينة، وغيرها من الأنشطة الرياضية. إلى جانب تخصيص مساحة لأنشطة الأطفال، كالعروض القصصية والتفاعلية، وأماكن أخرى للعب. هذا بجانب الأنشطة التعليمية والترفيهية الأخرى. كما يتضمن المشروع إنشاء فندق بوتيك داخل الحديقة.

خلق بيئة مصطنعة

من جانبه صرح مصدر- فضل عدم ذكر اسمه- لـ«باب مصر» قائلا: إن التصميم المبدئي يمثل مخاطرة، لكونه يخلق بيئة مصطنعة تطغى على الهوية التاريخية والفعلية للحديقة. وهو ما سيحولها من حديقة تراثية عامة إلى مجمع ترفيهي تجاري. ويمكن لذلك الإضرار بالوظيفة الأصلية للحديقة وسلامتها التاريخية المتجذرة في التراث المصري.

وأضاف: موضوع «الغابة» يمثل جمالية تجارية عامة، لأنه لا يرتبط ارتباطًا تاريخيًا أو ثقافيًا مباشرًا بحديقة الزهرية التراثية. وسوف يغير بشكل أساسي من طابعها ليخلق نوع من التجربة تشبه المتنزهات الترفيهية. بدلاً من احترام منظرها الطبيعي التاريخي الفريد.

وتابع: هناك تناقض مباشر مع مبادئ الأصالة في الحفاظ على تراث الحديقة. حيث تشير حجم الأنشطة التجارية كالفندق، والمطاعم، والحياة الليلية، إلى دافع أساسي وهو توليد الإيرادات. لذلك، من المهم الموازنة بين هذه الأنشطة وبين الحفاظ على الحديقة لتجنب الضرر الذي يمكن أن تتعرض له في المستقبل.

كما أن موضوع “الغابة” لا يرتبط تاريخيًا أو ثقافيًا بحديقة الزهرية كحديقة مصرية تراثية. هذا التوجه قد يتعارض مع مبادئ الأصالة ،والتدخل الأدنى، والملاءمة السياقية، التي تعد أساس في الحفاظ على التراث. لذلك فرض هذا الأسلوب يمكنه أن يؤدي لتجريد الحديقة من طابعها الأصلي. لأنها ليست مجرد مساحة خضراء، بل هي منظر طبيعي ثقافي يروي قصة تطور القاهرة وارتباطها بالخديو إسماعيل.

الصوب داخل حديقة الزهرية
الصوب داخل حديقة الزهرية
 تجربة ترفيهية

أشار المصدر أيضًا إلى أن استبدال الرواية التاريخية للحديقة بتجربة ترفيهية ذات طابع عام، سيؤدي إلى تآكل قيمتها التراثية. لذلك من المهم تعديل المشروع وتقديم سرد جديد ينبع من تاريخ الحديقة الحقيقي وعناصرها الأصيلة، وليس من موضوع مستورد يهدف في المقام الأول إلى الجذب التجاري. لأن هذا التحول قد يؤدي إلى فقدان هويتها الفريدة، وتحويلها إلى ما يشبه «متنزه ترفيهي». بدلا من الحفاظ على جوهرها كحديقة تاريخية هادئة.

احترام الموقع

يرى المصدر أنه لا بد من الالتزام بالقانون رقم 144 لسنة 2006، الذي يحظر الهدم أو الإضافة للمباني ذات الطراز المعماري المتميز المرتبطة بالتاريخ القومي أو الشخصيات التاريخية. لذلك، وفي سياق حديقة الزهرية، فمن الضروري الالتزام بعدم تشوه النسيج التاريخي للحديقة أو التعدي على قيمتها التراثية. وأكد على أن تكون الإضافات الجديدة قابلة للتمييز بوضوح عن العناصر الأصلية. وأن يتم تصميمها بطريقة تحترم الطابع المعماري والجمالي للموقع. كما يجب تجنب التركيز على موضوع “الغابة” في تصميم المباني، لأنه قد يؤدي إلى إنشاء هياكل لا تتناسب مع السياق التاريخي المصري. وهو ما يتعارض مع مبادئ الأصالة والانسجام العمراني.

إشراك المجتمع المحلي

اختتم المصدر حديثه مؤكدا أهمية إعادة النظر في الفلسفة التصميمية للمشروع، وذلك لتحديد أولويات الحفاظ على التراث والأصالة على حساب الترفيه والتجارة. لذلك لابد من مراعاة تاريخ الحديقة الحقيقي وعناصرها الأصيلة، وليس من خلال تقديم موضوع مستورد، لأن الهدف تعزيز القيمة التاريخية والثقافية للحديقة، مع دمج الوظائف الجديدة بطريقة متناغمة.

كما أشار إلى أهمية مراجعة نطاق الأنشطة التجارية، لضمان تكاملها مع الطابع التاريخي الهادئ للحديقة، بدلاً من أن تطغى عليه. لذلك، من الضروري تحديد المناطق المخصصة للأنشطة التجارية بعناية، لتقليل تأثيرها على المساحات الخضراء الرئيسية، والحفاظ على الحديقة كمساحة عامة. كما يجب إشراك خبراء الحفاظ على التراث، بمن فيهم المؤرخون المعماريون ومهندسو المناظر الطبيعية المتخصصون في المواقع التاريخية، إضافة إلى ممثلي المجتمع المحلي، في جميع مراحل التخطيط والتصميم والتنفيذ.

النباتات داخل الحديقة
النباتات داخل الحديقة
القوانين واللوائح

عادة ما تُعرف الحدائق التاريخية في مصر بأنها «تكوين معماري فراغي زراعي ذو بعد تاريخي». مما يجعلها عنصرًا تراثيًا ذا أهمية وقيمة تستوجب الحفاظ عليها. وقد أُدرجت الحدائق التاريخية، إلى جانب المباني والمنشآت ذات القيمة. لتخضع لنفس المعايير الواردة باللائحة التنفيذية للقانون رقم 144 لسنة 2006. هذا القانون يهدف بالأساس إلى تنظيم هدم المباني والمنشآت غير الآيلة للسقوط، والحفاظ على التراث المعماري.

ويلعب الجهاز القومي للتنسيق الحضاري دورًا محوريًا في حماية الحدائق التراثية، من خلال إصدار المبادئ التوجيهية والمعايير الخاصة بالتنسيق الحضاري للمباني والمناطق التراثية. وتعد هذه المبادئ حاسمة للحفاظ على الحدائق التراثية وصيانتها وتنشيطها، إدراكًا لقيمتها التاريخية والفنية والجمالية. كما يشارك الجهاز في مشروع الحفاظ والتطوير وإدارة الحدائق التراثية. بما يتماشى مع توصيات ميثاق فلورنسا لعام 1982. الذي يؤكد على أهمية النظرة العالمية للحدائق التراثية. ويقدم اعتبارات لصيانتها وحفظها وترميمها وتجديدها. بالإضافة إلى الإجراءات القانونية والإدارية لحمايتها كتراث إنساني حي.

ووفقًا لاشتراطات الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، فإن الأندية والحدائق العام هي مناطق حماية بيئية. يتحتم حمايتها عن طريق تقليل مسطحات إشغال المباني. بحيث يكون البناء على مساحة لا تتجاوز 5% للأندية، و2% للحدائق العامة من مسطح الأرض.

تاريخ حديقة الزهرية

ذُكرت حديقة الزهرية في رسالة الدكتوراه التي قدمها الدكتور ناصر الكيلاني، بعنوان: «حدائق القاهرة في عصر أسرة محمد عليّ». وقد أوضح فيها أن الخديوي إسماعيل قررَّ جلب هذا العدد الهائل من النباتات والأشجار من داخل أقطار عديدة. كالهند والصين وجزر آسيا الجنوبية وأواسط السودان وأمريكا الجنوبية. ووضعها داخل حديقة الزهرية.

وذكر الكيلاني أن عدد النباتات المستوردة تجاوز مليون شتلة من ثلاثة آلاف نوع نباتي. تم جبلها بواسطة تجار متخصصين مباشرة من مواطنها الأصلية أو عن طريق معارض النباتات المتخصـصة التي كانت تقام في أوروبا في ذلك الوقت. كما صدرت أوامر بتخصيص خمس عربات من السكك الحديدية لنقل النباتات المستوردة من ميناء الإسكندرية إلى حدائق الأزبكية. ومنها إلى حديقة «الزهرية» أولاً. حيث يتم أقلمتها مع الظروف المناخية والتربة المصرية قبل غرسها في أماكنها بالحدائق المختلفة. وقد استعان الخديوي إسماعيل بأشهر علماء النباتات وخبراء تنسيق الحدائق من أوروبا. ليجعل مـن حدائق مصر متاحف نباتية.

تسمية الحديقة

أما بخصوص تسمية الحديقة، ذكر الكيلاني أن إنشاؤها كان داخل موقع خًصص كمشتل للزهور، التي استعملت فـي تنسيق الزهريات. وتزيين موائد الحفلات في فترة حكم الخديوي إسماعيل 1868م. وقد كلف المهندسـون جابى، دوشان، ودلشفالري بإنشائها. وكانت مساحة الحديقة 49 فداناً.

وفي عـام 1871م، أنشأ فيها مشتل وروضة للزهور، وتم تخصيص أماكن للعناية بالنباتات الخاصة. كما أقيمت فيها صوب زجاجية مدفأة لتكاثر نباتات المناطق الحارة والنباتات الورقية والمائية، إلى جانب صوب خشبية.

أما في عام 1917م، تم ضم الحديقة إلى وزارة الزراعة لتكون مركزًا لأقلمة وإكثار وتوزيع النباتات بين الهواة. وكذلك إقامة معارض الزهور. وقد خططت الحديقة في ذلك الوقت بمعرفة المهندس براون والمهندس ولنجهام. وأعيد تخطيطها عام 1930م على يد المهندسين عبدالحميد وفا، إبراهيم ومصطفى محرم، محمد دراز، وحسانين السيد.

وبعد ذلك تقلصت مساحة الحديقة إلى 8 أفدنة فقط، وبداخلها 4 صوب زجاجية مـساحتها 4 آلاف متر مربع. وصوب خشبية مساحتها 200متر مربع. ومن أقسام الحديقة حديقة للورد بها 150 صنفًا، ومشتلا للأشجار والشجيرات، ومبنى به معامل ومكتبة للبحوث.

اقرأ أيضا:

حديقة الزهرية التراثية.. تأهيل أم تدمير؟

بين التدين الشعبي وإحسان القرآن.. كيف يمكن إعادة ربط الجمال بـ«السيدة زينب»؟

بعد رفعه من القائمة الحمراء|«أبو مينا».. قديس أحبه الجميع وأهملته «الآثار» لعقود!

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.