من بيت الأشباح إلى فندق تراثي.. قصة «الشيخ توفيق» بالقصير
وسط مدينة القصير على ساحل البحر الأحمر، يروي منزل «الشيخ توفيق على مصطفى» فصولا من تاريخ امتد لأكثر من قرن. كان هذا البيت يعرف بين الأهالي باسم «بيت الأشباح»، قبل أن يتحول إلى فندق تراثي يعكس روح المدينة وملامحها القديمة. يجمع المنزل بين العمارة الإسلامية والطابع المحلي المستوحى من البحر، ليصبح نموذجا مميزا لإحياء البيوت القديمة وتحويلها إلى معالم تحفظ هوية القصير وتعيد الحياة لتراثها المنسي.
تاريخ الإنشاء
يقول الدكتور طه الجواهري، الباحث في التراث بمدينة القصير ونجل الشيخ توفيق، صاحب المنزل لـ«باب مصر»: “نجح منزل الشيخ توفيق علي مصطفى في أن يكون رمزًا للتواصل بين الإنسان والتاريخ. وشاهدًا حيًا على الإرث الثقافي العميق المتجذر في وجدان وأعماق البحر الأحمر”.
ويضيف الجواهري أن الشيخ توفيق لم يكن مجرد أحد وجهاء المدينة. بل كان شخصية مؤثرة أسهمت في النهضة الاقتصادية للقصير، وساهم في صناعة التحول التاريخي الحديث للمدينة. ويشير إلى أن المنزل يقع في المنطقة الشرقية من القصير. في حي كان يعرف آنذاك بحي الأكابر وكبار الموظفين الإيطاليين الذين عملوا في المدينة في تلك الحقبة. ما يضفي على المكان قيمة تاريخية ومعمارية خاصة.
فندق القصير
يذكر الكاتب همّام كمال الدين حسين في كتابه عن مدينة القصير أن ما يعرف اليوم باسم “فندق القصير” كان في الأصل منزل الشيخ توفيق جبران، أحد أبرز شخصيات المدينة. وقد بُني عام 1910 ليكون شاهدًا على مرحلة من الازدهار والتواصل بين الثقافات في البحر الأحمر.
عاش الشيخ توفيق جبران في هذا المنزل نحو خمسين عامًا، قبل أن تغلق العائلة أبوابه بعد وفاته. ويصف الكاتب المنزل بأنه مبني من الحجر والخشب. وتربط بين طوابقه سلالم خشبية تضفي عليه طابعًا تراثيًا فريدًا.
ويشير الكاتب إلى أن أصول الشيخ توفيق جبران تعود إلى مدينة إدفو، حيث عاش فترة وجيزة قبل أن ينتقل إلى القصير مع قدوم الطليان للعمل في شركة الفوسفات. وبحكم مكانته الاجتماعية، تولى منصب شيخ قبيلة العبابدة. ما جعله حلقة وصل بين الإيطاليين الوافدين وأهالي المدينة.

البعثة السويسري
يؤكد عادل عاش، رئيس مجلس إدارة جمعية الحفاظ على التراث بالقصير، أنه في عام 1997 قامت الهيئة السويسرية بترميم منزل الشيخ توفيق ضمن خطة لإحياء البيوت التراثية في المدينة. وذلك بقيادة المهندس السويدي بيتر وليم بيرغ، الذي تكفّل بترميم المنزل على نفقته الخاصة بالتعاون مع الجمعية.
ويشير عاش إلى أن أعمال الترميم تمت بمشاركة فريق متخصص من الخبراء والدارسين في مجال العمارة والتراث. وتم في نهايتها تسليم المنزل لعائلة شيخ القبيلة بعد الحفاظ على طابعه ومكوناته الأصلية بشكل كامل. ليبقى شاهدًا على التاريخ وروح المكان.
مراحل التطوير
من جانبه، يوضح الدكتور أحمد يحيى راشد، أستاذ العمارة ورئيس ومؤسس معهد حقوق الحضارة، أن تجربة ترميم بيت الشيخ توفيق بالقصير كانت من أقرب المشروعات إلى قلبه. نظرًا لما تمثله من قيمة إنسانية وحضارية فريدة. ويضيف أن المشروع نجح في وضع رؤية متكاملة لإعادة توظيف معالم القصير التراثية. حيث جرى تحويل المنزل من بيت مهجور أشبه ببيت الأشباح إلى فندق سياحي تراثي ينبض بالحياة. ويجسد روح المدينة القديمة.
ويشير راشد إلى أن فريقًا من الأساتذة شارك في تنفيذ المشروع. من أبرزهم فريد منصور، والشاذلي العزيز، وعادل عاش، إلى جانب عدد من أبناء القصير الذين ساهموا بخبراتهم في إنجاح هذا العمل النموذجي الذي جمع بين الترميم الأكاديمي والروح المحلية الأصيلة.

من بيت تراثي بسيط إلى فندق يتصدر قائمة الأفضل في القصير
يؤكد مصطفى سبّاق، شاب من أبناء قبيلة العبابدة، أن إدارة فندق تراثي في قلب مدينة القصير لم تكن مهمة سهلة. إذ تطلّبت جهدًا كبيرًا في التسويق والحفاظ على هوية المكان وأصالته. ويشير إلى أنه بدأ العمل في الفندق منذ عام 2018 بهدف تقديم تجربة سياحية مختلفة تمكّن الزائر من معايشة الحياة المحلية الحقيقية في المدينة.
ويضيف مصطفى أن الفندق، رغم صِغَر حجمه. إذ يتكون من ثلاثة طوابق وست غرف فقط، استطاع خلال فترة وجيزة أن يصبح الأعلى تصنيفًا بين فنادق القصير، متفوّقًا حتى على بعض المنتجعات السياحية العالمية. بفضل طابعه التراثي وتجربته الأصيلة التي تجمع بين البساطة والدفء الإنساني.
أعمال الترميم
عن أعمال الترميم، يوضح مصطفى أن المهندس بيتر وليم بيرغ تعاون مع أهالي المنطقة واستعان بعدد من المعماريين المتخصصين لإعادة ترميم بيوت القصير القديمة. وقد عمل بيرغ ضمن جمعية المحافظة على تراث القصير التي كان أحد مؤسسيها. الأمر الذي سهّل إجراءات الترميم والحصول على المنح المخصصة للمشروعات التراثية وفق الأطر القانونية.
ويتابع مصطفى قائلاً إن القصير ما زالت خارج الخطط السياحية الرسمية لوزارة السياحة وهيئاتها. مما دفع أبناء المدينة إلى الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي للترويج لها بأنفسهم. وقد سار عدد من أصحاب الفنادق الشعبية الأخرى على نهجه في تقديم تجارب محلية أصيلة للسائحين. ما جعل المدينة تشهد في مواسم الأعياد والإجازات إقبالًا كبيرًا لتصبح، كما يصفها مصطفى “كامل العدد”.

من بيت الأشباح إلى متحف للذاكرة الحية
يستكمل الدكتور طه الجواهري حديثه قائلًا: “في عام 1997، وقفنا أمام بيت الشيخ توفيق الذي كان يعرف بين أهالي القصير باسم بيت الأشباح. فقد كانت جدرانه المتصدعة تروي بصمتها حكايات منسية من تاريخ المدينة. رسمنا الخرائط الهندسية بدقة، وكأننا نعيد بناء ذاكرة غابت مع الزمن”.
وتابع: “خططنا لأعمال الترميم بمزيجٍ من الحذر والحماس. إذ كنا ندرك أن الهدف لا يقتصر على إعادة بناء بيت قديم. بل يمتد إلى الحفاظ على الهوية الثقافية للقصير وتقديم نموذجٍ تنموي يربط الماضي بالحاضر ويؤسس للمستقبل. وبعد ربع قرن من الجهد، أصبح الحلم حقيقةً ملموسة”.
شُيد من الحجر البحري
يشرح الجواهري أن بيت الشيخ توفيق يتكوّن من ثلاثة طوابق. وقد شيد من الحجر البحري الذي يحتوي في داخله على بقايا الشعب المرجانية والكائنات البحرية. لتبدو الجدران وكأنها لوحات من الطبيعة الحية تختلف تفاصيلها في كل نظرة.
ويضيف أن القائمين على الفندق حرصوا على إطلاق أسماء مستوحاة من تاريخ المدينة على كل غرفة. تعبيرًا عن هوية القصير وارتباطها العميق بالبحر والتاريخ. فغرفة “الشركة” تشير إلى شركة الفوسفات التي أسسها الإيطاليون عام 1910. حين اكتشفوا ثراء المنطقة بالفوسفات وبنوا مدرسة ومستشفى وكنيسة على الطراز الإيطالي لا تزال قائمة حتى اليوم ومفتوحة أمام الزوار.
أما غرفة “التلفريك” فخصصت تخليدًا لذكرى التلفريك القديم الذي كانت آثاره واضحة أمام شاطئ الفندق وما زالت بقاياه شاهدة حتى الآن. بينما تحمل غرفة “الحي الإيطالي” اسم أحد الأحياء التاريخية التي بنيت على الطراز الإيطالي لعمال وفنيي شركة الفوسفات. وتبعد دقيقة واحدة فقط عن الفندق وتطل مباشرة على البحر.
وتجسد غرفة “المحامل” أجواء الاحتفالات السنوية بالمحمل الشريف، حين كانت الجمال المزينة تجوب شوارع القصير احتفالًا بوصول كسوة الكعبة القادمة من مصر إلى الحجاز عبر ميناء المدينة. في حين استوحت غرفة “القطاير” اسمها من السفن الشراعية الخشبية الكبيرة التي كانت تستخدم قديمًا في الصيد والتجارة عبر البحر الأحمر. أما غرفة “الميناء” فتستحضر ذاكرة ميناء القصير القديم الذي شهد على حملة نابليون بونابرت في طريقه لغزو مصر وسوريا. قبل أن يتدخل الأسطول الإنجليزي لحماية المدينة ورد العدوان.
ويختتم الدكتور طه حديثه مؤكدًا أن كل زاوية في هذا المنزل تحكي فصلًا من تاريخ القصير. وأن بيت الشيخ توفيق لم يكن مجرد مبنى حجري، بل وثيقة حية تختصر قرونًا من التبادل التجاري، والتنوع الثقافي. والتفاعل الإنساني بين البر والبحر في هذه المدينة العريقة.
اقرأ أيضا:
قصر ثقافة سفاجا يواجه خطر الإغلاق.. هل تتدخل «الثقافة» لإنقاذه؟
المستشفى الإيطالي بالقصير.. من صرح علاجي إلى منارة للتعليم والتراث
«قصر الحكومة العثماني» بالقصير.. من مركز للسلطة إلى أطلال منسية



