من الكُتّاب إلى الجامعة.. رحلة تعليم البنات في الواحات

في قلب الصحراء الغربية، حيث تمتد الكثبان الرملية إلى ما لا نهاية، وتتشابك أشجار النخيل مع خيوط الشمس الذهبية، تولد الحكايات العظيمة في أكثر الأماكن عزلةً. هنا، في محافظة الوادي الجديد، لم تكن قضية تعليم البنات مجرد خطوة في مسيرة النهضة، بل كانت معركة حقيقية بين عاداتٍ مترسخة ووعيٍ وليد.
بنت وتروح تتعلم؟!
في أحد البيوت القديمة المبنية من الطين بقرية بولاق بالوادي الجديد. جلست الحاجة “فاطمة” – سبعينية العمر- تقلب بين صفحات ذاكرتها، وتحكي لـ«باب مصر» عن أول يوم ارتدت فيه المدرسة بزيّها البسيط.
تقول: “بنت وتروح تتعلم؟” جملة سمعتها من الجيران وأنا استعد لبداية رحلة التعليم. في أول يوم لي، وقفت أمام باب بيتنا خائفة من العيون التي ترقبني، والهمسات التي كانت تلاحقني. وتضيف بابتسامة: “كانوا يشوفوا إن البنت مكانها في البيت. لكن أبوي كان له رأي تاني. قال البنت زي الولد، والتعليم هو السلاح الوحيد”.
تلك اللحظة، التي قد تبدو عادية اليوم، كانت في خمسينيات القرن الماضي بمثابة ثورة صامتة ضد عادات راسخة. ولحظة تختصر قصة الصراع الطويل بين التقاليد الاجتماعية والرغبة في التغيير. بين القيود التي كبّلت النساء والتعليم الذي حرر عقولهن، بين الماضي والحاضر في رحلة مدارس البنات بالواحات.

التعليم بين الكُتّاب والمدرسة الأولية
لم تبدأ الرحلة التعليمية مع الحاجة فاطمة ورفيقاتها فقط، بل تعود إلى زمن أبعد بكثير. يقول محمود عبد ربه، احد المهتمين بجمع التراث الواحاتي، إن القاضي الشرعي والأديب أحمد أمين سجل عام 1913 مشهدًا صارخًا للتعليم في الواحات، حين زار كُتابًا في الخارجة:
“دخلت بناءً أسطوانيًّا بلا نافذة سوى الباب، أرضه طين جاف، وبعض البرش – حصر مصنوعة من سعف النخيل- في الجوانب يجلس عليها أطفال. يكتبون على ألواح من الصفيح مطلية بالطين. ثم يمسحونها ويعيدون الكتابة عليها من جديد”.
مشايخ الواحات حملوا لواء العلم
كان للكتاتيب دور كبير في نشر التعليم بين أبناء الواحات. ويقول الدكتور محمد عبدالله البيرسي، باحث دكتوراه في الموروث الشعبي لتاريخ الواحات: “ساهم مشايخ الواحات في ترسيخ قيمة التعليم عبر الكتاتيب. ومن أبرزهم: الشيخ بحر حسنين خالد الذي أسس مدرسة أهلية بجوار مسجد معاذ في الخارجة. وقد ظلت قائمة حتى ستينيات القرن الماضي.
أما الشيخ حسين أحمد عبد الجيد، من مواليد عام 1934، فقد تحدّى استهانة البعض بقدراته. وأصر على إكمال تعليمه حتى حصل على الشهادتين الإعدادية والثانوية في سنوات قليلة. ثم التحق بكلية أصول الدين وعين إمامًا وخطيبًا منذ عام 1982”.
ويحمل أبناء الخارجة عرفانا للشيخ حسن سيد عبد الهادي الذي علّم أجيالًا عديدة، وترك وراءه كتّابًا باسمه. كما كان لكل من الشيخ حافظ حميد، الشيخ فرغلي إبراهيم أحمد، الشيخ عوض علي الغني. وغيرهم العشرات من المشايخ، دور بارز مهد الأرضية لانتشار التعليم لاحقًا. وكان من بينهم من شجع أبناءه وبناته على التعليم النظامي.

مدرسة الخارجة الأولية.. أول غرس
يضيف البيرسي: شهدت الواحات الخارجة عام 1913حدثًا فارقًا. حين أنشأت الحكومة المصرية أول مدرسة نظامية، هي مدرسة الخارجة الابتدائية المشتركة (البنين حاليًا). وكانت تُسمى حينها المدرسة الأولية.
وقد مثّلت هذه الخطوة بداية الانتقال من فضاء الكُتّاب المحدود إلى رحابة التعليم النظامي. لكنها ظلت لسنوات طويلة مقتصرة على الذكور فقط.
بولاق.. قرية تسبق زمنها
يقول الباحث محمود عبد ربه: “تعتبر قرية بولاق بمركز الخارجة نموذجًا فريدًا في تقدير قيمة التعليم. فقد كان أهلها يرسلون أبناءهم على ظهور الدواب عبر الصحراء إلى مدينة الخارجة ليتعلموا. وهو ما جعل بولاق أول القرى التي أنشئت بها مدارس أهلية. خرجت من القرية أجيال اهتمت بالتعليم، وكانت تسافر وتستأجر بيوتًا في الخارجة لمواصلة الدراسة في المرحلتين الثانوية والجامعية”.
ويضيف: من بين رموز بولاق، يبرز اسم إبراهيم أبو رحاب محمد بهنوس، الملقب بـ”أسد الصحراء” لمعرفته الواسعة بمسالكها. ورغم أنه لم يحصل على شهادة دراسية، فقد عمل موظفا بمصلحة الحدود قبل عام 1960. وأصر على تعليم أبنائه جميعًا، ومن بينهم المهندسة الراحلة ابتسام أبو رحاب التي ترأست فرع المجلس القومي للمرأة. وشغلت عضوية مجلس النواب عن الوادي الجديد.
معركة شاقة وصعبة
على هذه الأرض، كان دخول البنات المدارس معركة حقيقية. تقول الحاجة منى عبد الرحيم، من الرعيل الأول لطالبات مدارس البنات في الخارجة: “كنا نمشي في الشارع والعيون كلها علينا.. بعضهم يلوم أهلنا، وبعضهم يسخر. لكن مع الوقت، بدأ الناس بدأ الناس يشوفوا إننا نرجع نقرأ ونكتب ونساعد في البيت ونعلم إخواتنا”.
وتضيف: لم يكن الطريق سهلًا، فقد واجهنا صعوبات في المواصلات. إذ كانت المدارس بعيدة عن القرى التي نعيش فيها، فكنّا نسلك طرقًا صحراوية شاقة. ومع ذلك، لم تؤثر هذه المشقة على إصرارنا على التعلم.
رموز مضيئة للمرأة في الواحات
من أبرز الرموز النسائية الواحات المهندسة ابتسام أبو رحاب، التي ارتبط اسمها بمحافظة الوادي الجديد. إذ كانت أول مهندسة تُعيَّن هناك في فترة واجهت فيها المرأة صعوبات كبيرة للالتحاق بالعمل العام. كما شغلت لاحقا عضوية مجلس النواب، وتوفيت عام 2022. وتقول ابنتها الدكتورة رغدة نجاتي، عضو مجلس النواب: “آمنت والدتي بأن نهضة المجتمع تبدأ من الفصل الدراسي. وأن بناء الإنسان أهم من بناء الحجر. وكانت تردد دائما أن خدمة الوطن لا تكون إلا بالعلم والعمل”.
وأضافت: والدتي ابنة قرية بولاق، التي تُعرف بقرية العلم. وهناك بدأت رحلتها من بيئة بسيطة، لكنها واجهت التحديات وتمسكت بحقها في التعليم. حتى تخرجت كأول مهندسة بالوادي الجديد، لتفتح الباب أمام الفتيات لخوض مجالات كانت حكرًا على الرجال.
الصورة تغيرت
تغيرت الصورة بشكل جذري، فاليوم أصبح وجود البنات في المدارس مصدر فخر. ولم يعد غريبًا أو مستهجنًا أو ضد عادات المجتمع. تقول أسماء أحمد، طالبة بالصف الثالث الثانوي: “أمي بتحكيلي إنها كانت بتخاف تروح المدرسة لوحدها. لكن دلوقتي مفيش بنت في العيلة مش في مدرسة أو جامعة، بالعكس بقى العيب إنك ما تتعلميش”.
أما أمينة عبد الله، معلمة لغة عربية، فتؤكد أن دور المرأة الواحاتية لم يعد مقصورًا على البيت: “دلوقتي عندنا طبيبات ومهندسات وقاضيات..كله بدأ من أول خطوة دخلنا فيها المدرسة، وكسرنا حاجز الخوف”.