من الطفولة إلى الشيخوخة.. رحلة «عم محمد» مع نسيج «الفِركة»

في درب طويل وضيق بإحدى الحارات القديمة بقرية الخطارة، بمركز نقادة جنوب غرب قنا، يقع منزل قديم بُني بالطوب اللبن، وسُقف بجريد النخيل. يحتضن المنزل في داخله نولين، يجلس أمام كل واحد منهما رجل تجاوز عقده الثامن، ليشكلا معا مشغلا بسيطا ينتج يوميا عشرات القطع من نسيج «الفركة»، إحدى أقدم وأعرق الحرف اليدوية في صعيد مصر.
ما هي الفِركة؟
يقول محمد العمري علواني، 86 عامًا من قرية الخطارة: “الفِركة تعني صناعة منتجات كالطرح والشيلان والملايات من خيوط الحرير أو الكتان أو القطن، باستخدام النول اليدوي. وهو عبارة عن مسداية يلف فيها الخيط بألوان مختلفة. وتُثبت على الهيكل الخشبي للنول. ومن خلال حركة يد العامل تتشكل قطعة النسيج التي تعكس مهارته وإبداعه”.
ويضيف العمري: “تعلمت الفِركة منذ أن كان عمري 15 عامًا. بعدما تركت مقاعد الدراسة واخترت العمل في هذه الحرفة لأتمكن من الإنفاق على أسرتي. وقد ابتعدت عنها سنوات عملت خلالها في شركة الفوسفات بمدينة القصير. ثم التحقت بالخدمة العسكرية، وبعد كل تلك السنوات عدت إلى قريتي لأعمل من جديد في الفِركة. الحرفة التي أحبها ولا أستطيع تركها رغم تقدمي في العمر”.
يبدأ العمري يومه بدخول المشغل الذي يستأجره من أحد جيرانه، ثم يتفقد المكان بنظرة سريعة. ويتأكد من توافر الخيوط في “البسطة”، قبل أن يجلس على كرسيه الصغير أمام النول الخشبي. محركا بيديه “المكوك” الذي يحمل الخيوط لينسج قطعة فِركة جديدة.

كل جزء من جسدي يعمل
يتابع العمري: “كل جزء من جسدي يعمل أثناء نسج قطعة الفركة: العين، اليد، القدم، والعقل. فهذه ليست مجرد حرفة، بل حكاية عمر، وبرغم سني ما زلت أنتج ما يصل إلى عشر قطع يوميًا. أبدأ العمل من العاشرة صباحًا حتى السادسة مساءً دون كلل أو ملل”.
ويضيف بأسف: “مع تراجع الإقبال من الشباب والنساء على العمل في هذه الحرفة، اختار أولادي التعليم وابتعدوا عن الفِركة بسبب قلة العائد المادي من العمل بها. النول بشكله التقليدي القديم الذي كان يستخدمه أجدادنا ما زال يستعمل حتى اليوم. وإن تم تطويره قليلًا في السنوات الأخيرة. ويستخدم الصناع الآن خيوط (القز). ويبيعون منتجاتهم في الأسواق السياحية بالأقصر والغردقة والقاهرة. رغم تراجع العائد الاقتصادي بسبب ارتفاع أسعار الخامات”.
ويشير العمري إلى أن العامل في هذه الحرفة يسعى إلى الكسب السريع، موضحا: “كان أجرنا في الماضي قليلاً جدًا. فقد عملت يوم الجمعة بأجر لا يتجاوز الجنيه والنصف. وتعتمد الفِركة بشكل أساسي على دقة ومهارة الصانع وقدرته على سرعة الإنجاز”.

تحولات الزمن والخامات
تغيّرت الخامات المستخدمة في صناعة الفركة عبر العقود. ففي أوائل القرن العشرين كانت تُصنع من خيوط الحرير السادة وتُصدّر إلى السودان تحت اسم “أم درمان” أو “الصفيحة”. وكانت تُرتدى في المناسبات المختلفة، سواء في الأفراح أو الأحزان”،
ويضيف العمري أن العمل في الفِركة شهد تطورًا عن الماضي. إذ تستخدم اليوم خيوط “الطلق” و”الملا” و”الهرم”، ويشارك الحرفيون في معارض مختلفة، كما تباع بعض المنتجات للسياح.
مراحل صناعة الفِركة
تمر صناعة الفِركة بعدة مراحل، تبدأ بشراء الخيوط بألوانها المختلفة، ثم تجهيز النول الخشبي في مكانه المحدد. حيث يجلس الصانع على كرسي خشبي واضعا قدميه على خشبتين مثبتتين في الأرض، بينما تعلق المسداية – وهي كرة الخيوط – في أعلى النول.
بعدها تُفرد “البسطة”، وهي قاعدة الخيوط. ويبدأ الغزل بالمكوك لتداخل الخيوط وتشابكها حتى تتكون قطعة كبيرة من الشيلان أو الطرح أو الملايات.
جذور فرعونية
الفِركة ليست وليدة العصر الحديث، بل تعود إلى العصور الفرعونية والبطلمية والرومانية، كما تؤكد نقوش معبد دندرة وإدفو وفيلة، التي وثقت هذه الصناعة المصرية العريقة.
وقد تناولت العديد من الدراسات والأبحاث حرفة الفِركة فى نقادة، من أبرزها دراسة بعنوان “صناعة الفركة بين الموروث الحضاري والمردود الاقتصادي” – دراسة ميدانية بمنطقة نقادة في صعيد مصر- للدكتور حسين عبد اللطيف (2015)، وبحث ميداني بعنوان “الحفاظ على التراث النسجي من الانقراض بتطوير صناعة الشال اليدوي في قرية نقادة – محافظة قنا” للدكتور أحمد مصطفى مطر (2019)، ودراسة “فن الفٍركة والنسيج القباطي” للدكتورة سحر مراد سامي (2020).
حرفة بدأت تندثر
رغم التحديات التي تواجه هذه الحرفة، يتمسك عم محمد العمري بها، إذ يرى فيها جزءًا من الهوية، متمنيًا أن تتطور وأن تجد من ينقلها ويورثها للأجيال القادمة. فهي ليست مجرد قماش، بل تراث حي يعبر عن الحضارة المصرية.
ويذكر أنه في سبعينيات القرن الماضي كانت قرية الخطارة تضم عشرات الأنوال، إذ كان في كل منزل ثلاثة أو أربعة منها، وكان التجار يشترون أغلب الإنتاج لتصديره إلى السوادن وبعض الدول الإفريقية. أما اليوم، فلم يتبق سوى عدد قليل من الأنوال لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، بعد أن هجر معظم شباب القرية حرفة الفِركة بحثًا عن بدائل اقتصادية تدر عائدًا أكبر.
اقرأ أيضا:
«قصور بهجورة».. حكايات الثراء القديم بين الفخامة والنسيان
بعد 52 عاما.. أبطال من قنا يروون حكايات العبور في نصر أكتوبر