من البقالة إلى الشعر.. حكاية «عوض قشطة» شاعر الدقهلية المنسي

«إليكَ أنت، حيث تُشِعُّ من برجكَ المضيءِ في تِمَيِّ الأَمْدِيد، تُعطي ولا تأخذ، شأنَ كلِّ عظيم.. يا شاعرَ مصرَ المطمورَ في دنيا الزَّيْف، تحتَ رُكامِ الطحْن.. أُحَيِّيكَ وأنت تُناضلُ لتعيش، وتنسى مرارةَ العَيش في لحظةِ الإبداع. وإليك هناك.. حيث تعيشُ في الظل، وتُسَلَّطُ على غيركَ الأضواء.
عوض! يا شاعرَ مصر!
سيصحو التاريخ الأدبيُّ في مصرَ يومًا، وسيندمُ على كلِّ لحظةٍ لم يُقَدِّرْكَ فيها. ستُصبحُ أشعارُكَ وقصائدُكَ ونهجُ حياتِكَ مَرتَعًا للدارسين، وطالبي المتعةِ الأدبية. ستموتُ، نعم، ولكن لن يموتَ عوضٌ الشاعر. ستظلُّ في ضميرِ هذه الأمةِ قطعةً مِن وَجْدِها، ووِجْدانها، وألمِها العظيم.
إلى أن نلتقي وقد لا نلتقي أُحَيِّيك»
صلاح حافظ.
كنز ثمين في مكتبة عتيقة
في يوم من أيام صيف 2020م، جاءني صديقي عبد الرحمن قشطة، وطلب مني إعانته في نقل أثاث شقة والديه القديمة إلى بيتهم الحالي. وبينما نحن هناك، لفت نظري مكتبة والديه، التي سرعان ما بدأ صديقي في الكلام عنها فورَ أن انتبه لاهتمامي بها.
مكتبة عتيقة، تضم عددا ضخما من الكتب، مرصوص بعضها فوق بعض، وكلها مغطىًّ بطبقةٍ ترابية. عانينا كثيرًا في اكتشافها وفحصِها كتابًا كتابًا، لكن هوَّنَ عناءَنا فضولُنا، وانهماكُنا في محتويات المكتبة من كتب وأوراق ومذكرات وصحف ومجلات وصور.
وأثناءَ ذلك.. أوقعتُ دون قصدٍ أوراقًا كانت على أحد أرفف المكتبة، فانتثرت على الأرض. فمددتُ يدي لأجمعها، فاسترعى نظري ما كتب فيها، والطريقة التي كتب عليها، عمودان بينهما فراغ. قربت إلى عينيَّ الورقَ، ونفضتُ ما عليه من تراب، فوجدتُّ شعرًا مخطوطًا باليد، واستحثَّني على القراءة أن الخطَّ جميلٌ واضحٌ، وكان في الورقة التي أمسكتها قصيدة أولها.
***
وأَوَدُّ دَوْمًا أن تَطولَ حياتي |
إني لأرثي الشعرَ قبلَ مماتي لكنْ إذا حُمَّ القضاءُ فما الذي تلكَ المشاعرُ قد تَجُرُّ لغيرها |
ضممنا الأوراق بعضَها إلى بعض، وحاولنا ترتيبَها لنصلَ إلى كاتبها. وأثناءَ ذلك أخبرني صديقي أن جدَّه عوض قشطة كان شاعرًا، وكان أبوه يحفظه مِن أشعارِه منذ أن كان طفلًا صغيرا، فلم يكن صعبًا تقدير صاحب هذه الأوراق. وبعد بحث، أدرك كلانا أننا وقعنا على كنز ثمين، كان مختبئًا منا وراءَ المكتبة: مجموعةُ أوراق، مضمومٌ بعضُها إلى بعضٍ بين دَفَّتيْ غِلافِ كتابٍ قديم، مكتوب على ظاهره: “عزيزي.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذه الأوراق أمانةٌ في ذمتكم.. إلخ”.
كانت وصية كتبها شاعرنا إلى ابن أخيه، أحمد توفيق قشطة، والدِ صديقي عبد الرحمن، يوصيه بقراءتها، والاحتفاظِ بها، ونشرِ ما يمكنُ نشره منها.
تلكَ هي المرةُ الأولى التي أسمعُ فيها بشاعرنا، الذي بدا لي حينذاك أنه ربما ليس مشهورًا لأنَّ شعرَه ليس بجيد، ولأن العادةَ القديمة جرت على أن زامرَ الحيِّ لا يُطرِبُ ولا يُشجي. مضتِ السنواتُ سريعًا، وشاء القدرُ أن يجعل ذلك الشاعر في طريقي من جديد، لكن بصورة أعمق، وأكثر وعيًا واتزانًا؛ لأتتبع سيرةَ الرجل وشعرَه.
“أريد أن أنفذَ الوصية”
في قعدة ليلية على إحدى مقاهي البلد “تمي الأمديد”، كنت مع صديقي عبد الرحمن. أخذنا الكلام من هنا إلى هناك، حتى تطرقنا إلى ذكر جدنا عوض، وذكرته بالورق الذي وجدناه منذ خمس سنوات أو أكثر، وسألته عن مكانه، ولماذا لا يظهره وينشر منه ما يصلح للنشر؟
سكت هنيهة ثم زفر قائلًا: “هل تذكر أنت الوصيةَ التي كتبها جدي عوض إلى والدي؟ ألا تذكر أنه أوصاه بنشر ما يمكن نشره؟ مات أبي- يرحمه الله- دون أن ينفذ الوصية، ولعلي أنا المسؤول الآن عن تنفيذها!
وفي ليلة لاحقة، طلبَ لقائي، فالتقيت به، ووجدته متأبطًا ملفًّا قديما رثًّا باليًا، دفعه إليَّ قائلًا: “هاك ما تركه جدي لأبي، لعلك تتمكن من نشره يومًا. واحرص على ذلك؛ لأنني أريد أن أنفذَ الوصية. وأظن أن اليوم قد جاء”.

التعليم الأولي والبقالة
ولد الحاج عوض في 22 سبتمبر 1918م، في قرية “تمي الأمديد”، مركز السنبلاوين، محافظة الدقهلية. نشأ بها، وحفظ القرآن صغيرا في كتاب القرية، والتحق بالمدرسة الأولية 1924م، وتعلم فيها مدة خمس سنوات، حتى نال الشهادة.
كان يمكن -في عالم آخر- أن يكمل عوض تعليمه، لكن لم تتح له ذلك ظروف المعيشة، وكان هذا هو حظَّه من التعليم الرسمي، وكان طبيعيًّا أن يمتهن البقالة في دكان والده بالقرية، وارتبطت تلك المهنة به طوال حياته، حتى إن بعض الصحف القديمة نشرت مقالا بعنوان: (حكاية عم عوض البقَّال)، وآخر بعنوان: (الشاعر البقال).
ومع امتهانه البقالة، بقي في نفسه حبٌّ دفين للأدب والشعر العربيين، وجذوةُ نارٍ مشتعلة تدفعه نحو القراءة وحفظ الشعر بلا توقف. وفي حوار أجراه معه أشرف عبد السميع، (نشر في جريدة أخبار الدقهلية، وبقيت منه قصاصة، ضمنَ الملف الذي أخذته من صديقي)، قال الحاج عوض: “لقد قرأتُ وحفظتُ لأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وهاشم الرفاعي، وعلي محمود طه، ..”.
بين البقالة والأدب
بقي الحاج عوض على هذه الحال، يقرأ الكتب، ويتابع أشهر المجلات الأدبية والصحف في وقته، بل إنه كان حريصًا على حضور الندْواتِ الثقافية، والاتصال بالأدباء والأساتذة لأدنى ملابسةٍ أو مناسبة. ومن ذلك ما حكاه لي ابنه الحاج جمال عوض قشطة، فذكر أنه التقى في صحبة والده بالدكتور محمد حسين هيكل أكثرَ من مرة.
ووجدت في قصاصةٍ من جرنان قديم ضمن الملف: ما يؤكد ذلك، حيث جاء فيه أنه التقى بالدكتور هيكل سنة 1936م. وأن ذلك اللقاء كان دافعًا كبيرًا له نحو القراءة والمعرفة، لدرجةِ أنه كان يمشي على قدميه، من القرية إلى مدينة السنبلاوين؛ لمجرد أن يحصل على بعض الكتب من إحدى المكتبات هناك. ولعل القارئ لا يدرك حجم المعاناة، إن لم يعرف أن المسافة المقصودة تجاوز العشرين كيلو متر.
لقاء عائشة بنت الشاطئ
ومما ذكره لي ابنه أيضًا أن والدَه كان دائم الاتصال بالأساتذة الكبار ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وحكى لي قصةَ لقائه ببنت الشاطئ، عائشة عبد الرحمن. ثم ذكر لي صلتَه الوثيقة بالأستاذ الكبير الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، صاحب كتاب (الأزهر في ألف عام)، والكتب الأخرى الكثيرة، والتحقيقات الكبيرة.
ولم أتفاجأ من ذلك لأن الأستاذ خفاجي بلديُّ الحاج عوض. من قرية تلبانة التي تبعد عن تمي الأمديد كيلوات معدودة. لكن أكد لي ذلك أنني وجدت نسخة من ديوان الحاج عوض (مع الأيام)، أخرجها لي ابنه جمال. وفي هذه النسخة تصديرٌ للديوان بقلم الأستاذ خفاجي نفسه.

شاعرٌ عند الخمسين؟!
لم يكن للعم عوض أي نشاطٍ كِتابيٍّ فني، ربما تكون له محاولات، في رسائل إلى الأصدقاء، أو إلى الأدباء الذين كان يتردد عليهم. ولطالما سمعنا بأن إرهاصات الموهبة تتبدى ملامحها في مرحلة الصبا، ونوابغ الزمان كانت تلوح آيات النجابة حول رؤوسهم، لكننا لم نعتد أن نسمع برجل يمضي خمسين عاما من عمره، ثم فجأة يقول شعرًا بهذه الجودة، ويشهد له بذلك كبارُ الأساتذة والأدباء بالنبوغ والإبداع!
في حوار أجراه معه ”حازم نصر” (المقال مقصوص دون ذكر اسم الجريدة)، يحكي الحاج عوض: “ما كان يخطر على بالي أنني سأكتب في يومٍ من الأيام بيتًا واحدًا من الشعر، رغمَ قراءَتي وحبي له منذ الصغر. فقد قرأت لزهير بنِ أبي سلمى، وللفَرَزْدق، وللمعري، وللإمام الشافعي، والبوصيري. ثم بعد ذلك للبارودي والجارم وشوقي وحافظ، ورغم ذلك لم يكن يخطرُ على بالي أي إبداعٍ شعري، وكيف؟ وأنا لا أعرف قاعدةً عربيةً نحْويةً أو بلاغيةً؟ ولا أتصور شيئًا عن بحور الشعر وماهيتِها وعلاقتها بالشعرِ وقولِه.
وفي سنة 1967م، (أي كان عمره 50 عاما تقريبا)، وقع بيدي ديوان شعر الشهيد هاشم الرفاعي، فقرأته وحفظت الكثيرَ منه، وتأملت أبنيته، وعمقت كل هذا في ضميري وقلبي وإحساسي. وما كدت أفرغ من هذا الديوان.. حتى جاءني الشعر يسعى إلي في كل دقيقة من يومي، ليلًا ونهارًا..”.
شعره من الصحف إلى كليات الآداب
لا يمكن تصور حجم المعاناة التي تجرع أهوالها العم عوض أثناء محاولاته الأولى في نشر شعره. من ذا الذي سينظر في محاولات شعرية أولية، لرجل خمسيني، فضلًا عن نشره في الصحف!
عانى كثيرًا، لكنه كان صبورًا مثابرًا، لا يكل ولا يمل، يكتب ما تجودُ به قريحتُه، ثم يراسلُ به الصحف والمجلات، فنشرتْ له صحفٌ عديدة، منها: “الجمهورية”، و”تُجار الدقهلية”، و”أخبار الأدب” وغيرها. ولم تمضِ سنواتٌ.. حتى كتبَ عن الحاج عوض عددٌ من الصحف والمجلات.
ثم بمجرد أن نشر شعره وخرج إلى النور، تراكمت عليه طلبات من الباحثين في كليات الآداب، يرجون أن يمدهم بما عنده من شعر من أجل دراسته، فيذكر ”حازم نصر” في مقاله السابق الذكر: ”سعى إليه الدارسون، وأصبح مرتعًا خصبًا لدراساتهم الأدبية فكتب عنه 16 دراسة أدبية ونقدية. وأصبح ضمن الشخصيات التي يدرسها طلاب السنة النهائية بكليتي التربية بالمنصورة وبدمياط، في مادة الأدب الحديث”.

أول دراسة عن الحاج عوض
كان أول دراسة كتبت عن العم عوض ما كتبه الدكتور حسين علي محمد سنة 1975م، بعنوان: (عوض قشطة.. حياته وشعره). بحسب ما ذكره هو نفسه في حواره لصحيفة أخبار الدقهلية. وذكر لها أن كثيرًا من شعره أذيع في برامج الإذاعة. فقدمها له الأستاذ “فهمي عمر” في برنامج جزيرة العرب، في إذاعة صوت العرب. وقدمه في ”إذاعة الشعر” مرات عديدة: الشاعر المصري “فؤاد بدوي”.
وكرمته محافظة الدقهلية أكثر من مرة، وكرمته الدولة كذلك، وكان التكريم عبارة عن خمسين جنيهًا، على حد ما ذكر. كل ذلك يدل للقارئ على أن شاعرنا قد أثبت حضوره في الوسط الأدبي، والساحة الثقافية. وليس على مستوى محافظة الدقهلية وحسب، وإنما على مستوى جمهورية مصر. وخاصة القاهرة، عاصمة الأدب والثقافة والفن في العالم العربي كله.
ولعل القارئ لم ينس الكلمات التي صدرنا بها هذا المقال؛ وليست إلا جزءًا مقتبسًا من رسالةِ وُدٍّ طويلة، كتبها صلاح حافظ، الصحفي والكاتب الكبير، ورئيس تحرير روزاليوسف الأسبق، (توفي سنة 1982م). يعبر فيها بمشاعرَ صادقةٍ عن رأيه في أحد شعراء عصره. وفي شعره الذي كان سببًا لأن يدعوه لمراجعة نظرته إلى الشعر العمودي من جديد. كما يذكر هو نفسه في الرسالة التي وجدتها ضمن الأوراق التي بحيازتي.
أمنية الشاعر ووصيته
أخيرا: لقد كان العم عوض قشطة شاعرًا سليقيًّا موهوبًا موهبةً فطرية. وجدت طريق الخروج إلى النور، إلى دنيا الأدب والثقافة، بعد أن بلغ صاحبها الخمسين. فكانت مصقولةً مهذبة بالقدر الذي خاضه صاحبها من التجارب. وكان عمنا عوض حريصًا كل الحرص على نشر شعره، وإذاعة كلماته، وإخراجه إلى النور. وبذل في ذلك كل ما استطاع، ليصل بكلمته إلى أبعد مدى. ورغم ذلك.. عانى دهرًا من الإهمال. ولم يعد له ذكر في الحياة الأدبية والثقافية، إلا في دائرة صغيرة محدودة.
كانت وصيته لابن أخيه (والد صديقي عبد الرحمن) أن ينشر مما دفعه إليه من أوراق، ولعل الشاعر يجد من ينهض لشعره فيتتبعه، ويعيد جمعه وقراءَتَه وتقديمَه إلى القراء، ولعلنا نكون قد أحيينا ذكره مرة أخرى، وقدمناه إلى القراء والباحثين من جديد.
اقرأ أيضا:
شارع العباسي بالمنصورة.. حكاية سوق بين مئذنتين
«جاليري حيفا».. واحة ثقافية فنية في قلب المنصورة
مولد «ابن سلام».. ذكرى صحابي يعيد الروح لقرية بمحافظة الدقهلية