من الأدب الفرعوني| مساجلة أدبية بين ماهر والكاتب الأول (1)

واحدة من أروع ما كتب في الأدب المصري القديم هي المساجلة الأدبية التي دارت بين الكاتب حوري، كاتب الاسطبلات الملكية في عهد الملك رمسيس الثاني وزميله أمونمبي، الكاتب الأول في الديوان الملكي، حسب وصف الدكتور سليم حسن في كتابه (الأدب المصري القديم).
أرسل الكاتب حوري رسالة إلى زميله أمونمبي خطابًا تمنى له فيه السعادة والنجاح في دنياه وأخراه، ولكن أمونمبي رد على حوري برسالة عبر فيها عن أسفه من تواضع أسلوب حوري في الكتابة، ليستشيط حوري غضبًا ويدخل في مساجلة أدبية مع أمونمبي، مصرحا بعجزه عن الكتابة واستعانته بمعاونيه في الرد على رسالته، وتحداه في عدد من المسائل الحسابية حول تكاليف شق بحيرة أو بناء مطلع مدرج، ليتمادي أمونمبي في رده على حوري مدعيا أنه حاز لقب (ماهر) وهو لقب فنيقي يمنح لكبار الكتاب الذين خدموا في الأراضي الفينيقية، ليتخذ حوري من ذلك الادعاء مادة لانتقاد أمونمبي واثبات عجزه وجهله، ويبدأ في امتحان معلومات أمونمبي في أسماء البلدان الأجنبية في سوريا وفلسطين، والتي من المفروض أن يكون قد زارها بحكم حصوله على لقب (ماهر).
 

رمسيس الثاني

عثر على الوثيقة في بردية أنستازي المحفوظة بالمتحف البريطاني وتشير أغلب الشواهد إلى أنها كتبت في النصف الأول من عصر الدولة الحديثة (1550-1077 ق. م)، بحسب سليم حسن، وتحديدا في فترة حكم الملك رمسيس الثاني (1279 – 1213 ق. م)، وعضد ذلك الاعتقاد تكرار اسم الملك رمسيس الثاني عدة مرات في هذه الوثيقة.
ويشير حسن إلى أن المساجلة تميزت بأسلوبها الرصين والمعتمد على البلاغة في استخدام التشبيهات والاستعارات المكنية، ملمحا إلى أنه قد عثر على أجزاء من الوثيقة مكتوبة على قطع من الخزف والفخار، والذي يؤكد شيوع استخدام تلك الوثيقة كمادة تعليمية لطلاب مدارس لتعلم فنون الكتابة، بالإضافة إلى استعمال المفردات الأجنبية والمصطلحات العلمية وأسماء البلدان.
 

أسلوب ساخر

تشير الوثيقة إلى أن الكاتب الحاذق أمنومتي، صاحب التعاليم المسماه (رسالة أمونمبي للعالم)، أدعى في رسالة أرسلها إلى زميله (حوري) أنه حاز لقب (ماهر) أي كاتب ماهر، وهو الأمر الذي أثار حفيظة زميله اللدود (حوري) والذي كان الكاتب الأول في الاسطبلات الملكية، فقرر أن يوجه أليه رسالة ساخرة لاذعة لإثبات عجزه وجهله وعدم استحقاقه للقب (ماهر)، ويوضح حسن أن الأسلوب الهزلي شائع جدا في الكتابات المصرية والذي يؤكد ميل المزاج المصري للأجوبة المسكتة وميله للتهكم.
 

أسلوب مهذب

ويشير حسن إلى أن حوري بعد أن تلقى خطاب أمونمبي، كتب إليه الرد مبتدءا رسالته بالتعريف بنفسه وتعديد ألقابه وأسمائه فيورد قائلا: ” الكاتب ذو التفكير المختار الرزين في المناقشة، وليس هناك شيء لا علم له به، وأشهر زملائه والمتفوق على قرنائه، سريع في كتابة الصحف البيضاء، وهو سائس جلالته، والذي يصحب المليك ويسوس أفراس الملك، حوري بن وننفر، من العرابة المدفونة، في مقاطعة بارنست”.
ويلفت حسن إلى حوري استخدم الأسلوب المهذب في رسالته، مفتتحا خطابه إلى زميله بتحيته والسؤال عن صحته وأحواله والدعاء له، فيقول: ” أنه يسأل عن صحة صاحبه وزميله الممتاز، الكاتب الملكي، صاحب الذوق السليم والخلق العظيم، والحكيم الفهم، المنقطع النظير، وهو كاتب في كل معنى، والناس تبحث عن أجوبته لسدادها، نبيه رحيم القلب، محب للناس، أمونمبي بن مدير البيت (موسى)، أتمنى أن تحيا وتفلح وتكون في صحة جيدة يا صديقي العزيز، وان يجتمع السرور والفرح في طريقك، ليتك تمضي مدة حياتك وآلهتك مرتاحة إليك وليست غضبى، ليت أنوبيس يصل رأسك بعظامك”.
 

كلماتك نبيذ مخلوط

وطبقا لحسن فان مقدمة الرسالة والتي احتوت عبارات المدح والثناء، لم تكن إلا الهدوء الذي سبق عاصفة الانتقادات التي كالها حوري لزميله أمونمبي في متن الخطاب، فيقول: ” لقد تسلمت خطابك وانا في ساعة فراغ، وكنت سعيدًا وممتلئًا فرحًا وعلى استعداد للإجابة، ولما دخلت حظيرتي لأفحص رسالتك، وجدتها خالية من المدح والذم، وعباراتك مضطربة، وكل كلماتك مقلوبة، ولا روابط بينها، وتخلط الغث بالسمين، والحسن بالردئ، وكلماتك ليست عذبة بالمرة، فهي نبيذ مخلوط بشراب عفن”.
 

لم تكتب خطابك بمفردك

ويوالي حوري في توبيخ زميله أمونمبي فيفتتح الفقرة التالية قائلا: ” لم تكتب خطابك بمفردك، وأكتب إليك لأساعدك كما يساعد الصديق المتعلم الأكبر منه ليصبح كاتبا ماهرا، تأمل فإن كلماتك ليست إلا كلاما باردا، إني لم أقف مرتاعا منك لأني أعرف طبيعتك، وقد خيّل إلىّ انك ستجيب عليه بنفسك (أي الخطاب) في حين أن مساعديك يقفون ورائك، انك تحصل لنفسك على عدة، وكأني بك ونظراتك مضطربة عندما تقف هناك متملقا المساعدين، ويقولون لك تشجع سنتغلب عليه، ويقعد سبع كتاب يفكرون وأنت تسرع معهم، وتكلف كل واحد بكتابة فقرتين، حتى تتمكن من كتابة رسالتك “
ويوضح حسن أن حوري استخدم أسلوب التورية ليقول لزميله أن سبب ضعف مستوى الخطاب انه كتب بواسطة معاونيه لعجز امونمبي عن الكتابة واضطراره إلى تملق معاونيه ليكتبوا له خطاباته، ومفندًا اضطراب العبارات وغياب الروابط بينها بسبب أنها كتبت بواسطة أكثر من شخص وهم مساعدو امونمبي.
وفي خاتمة الفقرة يصدر حوري تقريعًا مباشرًا لأمونمبي فيقول: ” انظر انك كاتب ماهر وليس هناك شيء لا تعرفه، ومع ذلك فان رسالتك موضوعة وضعا رديئا فوق ما يتصور لتجعل الإنسان يصغي إليها”.
 

جوابي سيكون أحسن من جوابك

ويمضي حوري في رده على رسالة أمونمبي فنعرف أن رسالته خلت من الأسلوب المهذب في الخطاب، فلم تحتوي على عبارات الترحيب والمدح وزاد على ذلك أنه شرع من أول الرسالة في الهجوم الشديد على حوري ووصفه بأقبح الصفات، ليؤكد حوري لزميله أنه كان أنبل منه عندما مدحه وأثنى عليه في مفتتح رسالته، فيورد قائلا: ” جوابي سيكون أحسن من رسالتك، إني أجيبك برسالة جديدة من أولها، وهي ملأى بتعابير من شفتي قد صغتها بنفسي منفردا، إن كل كلماتي عذبة حلوة، واني لن أفعل فعلك، لأنك تبتدئ بذمي في أول فقرة، وفي فاتحة رسالتك لم تسأل عن صحتي، في أي شيء قد أسأت أليك في قلبي حتى تهاجمني هكذا؟ ولمن ذكرتك بسوء؟ ومع هذا قد كتبت أليك كتابا يشبه المداعبة اللذيذة التي تسلي كل إنسان”.
 

مكسور الجناح

وبحسب حسن فإن حوري شرع في الفقرة التالية من الرسالة في الرد على إساءة امونمبي له فيرد قائلا: ” لقد قلت عني أني مكسور الجناح، خائر القوى، وقد حقرتني كاتبا وقلت: هو لا يعرف شيئا، هل أمضي وقتي بجانبك متملقا قائلا: كن حاميًا لي لأن شخصا آخر اضطهدني، فبحكم الرب المظفر أني أنا نفسي نصير كل أقاربي (بمعنى لست بحاجة إلى حمايتك)، ولكني اعرف أناسا مكسوري الجناح ومع ذلك فهم أغنياء “، ويلفت حسن إلى أن حوري قصد في ختام الفقرة، أن امونمبي هو مكسور الجناح بفعل كسله الشديد لأنه من الأغنياء والدليل انه لم يستطع كتابة الرسالة بيده وأسندها لمساعديه.
++++++++++++++++++++++++++++
هوامش:
– الأدب المصري القديم “بي دي إف” –سليم حسن – من ص 376 إلى 383
* الصورة المرفقة لبردية أنستازي من موقع ويكيبيديا برخصة المشاع الإبداعي

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر