«ممشى بورتوفيق».. حين تعود الذاكرة للمشي على ضفاف قناة السويس

بعد أكثر من 13 عامًا من الغياب، يعود «ممشى بورتوفيق» في السويس لاستقبال زوّاره، حاملاً معه عبق التاريخ وذكريات تموت.وفي مساحة لا تتجاوز كيلو و300 متر، تتقاطع حكايات الحب والفقد والانتصار، ويتنفس أهالي السويس من جديد نسيم القناة وروح المدينة. إعادة الافتتاح لم تكن مجرد حدث عمراني، بل لحظة شعورية استثنائية تربط الماضي بالحاضر.
ممشى بورتوفيق.. من الغلق إلى العودة
في قلب مدينة السويس، وعلى مرمى البصر من ميناء بورتوفيق العريق، افتتح اللواء طارق الشاذلي، محافظ السويس، الممشى التاريخي بعد إعادة تطويره، بحضور الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، وعدد من الوزراء والمسؤولين. عودة الممشى لم تكن مجرد مشروع تطوير عمراني، بل استرجاع لذاكرة مدينة بأكملها.
ويمتد الممشى من مسجد بدر وحتى الأثر التاريخي في نهايته، بطول كيلو و300 متر، ويطل مباشرة على الممر الملاحي لقناة السويس. ويعد الموقع نقطة مثالية لرؤية السفن العملاقة وهي تمر بصمت، وكأنها تشارك المارة ذكرياتهم على الضفاف.
وقد نُفذت أعمال التطوير تحت إشراف هيئة قناة السويس، بالتعاون مع عدد من الشركات المتخصصة في ترميم المواقع التاريخية وتنسيق المساحات المفتوحة.

خدمات وتنظيم.. في حب الزائر
منذ اللحظة الأولى لدخولك ممشى بورتوفيق، تشعر بعودة الحياة: بوابات خاصة للسيارات وأخرى للمشاة، غرف تفتيش حديثة، أفراد أمن مدربون، ولافتات تعريفية تحكي تاريخ المكان.
هذه المنظومة الأمنية والتنظيمية تعكس إصرار القائمين على تحويل المكان من مجرد ممر إلى تجربة متكاملة.
وأبرز معالم الممشى هو النصب التذكاري الهندي، الذي يخلد ذكرى الجنود الهنود الذين سقطوا في الحرب العالمية الأولى. يقف تمثالان لنمرين بنغاليين متقابلين؛ أحدهما يطل على قناة السويس، والآخر على الميناء.
ويجذب هذا النُصب الزوار باستمرار، خاصة مع إعادة ترميمه ضمن عملية التطوير الأخيرة. وقد عملت فرق الترميم على تنظيف وإصلاح النُصب بعناية فائقة، حفاظًا على قيمته التاريخية.
محمد كامل.. رجل يعود لإصلاح الذكرى
وسط الجمال والترميم، كان هناك من لا يرى في الممشى مجرد مكان للهواء الطلق، بل مرآة لحياته. محمد كامل، مهندس ديكور وفنان تشكيلي في السبعين من عمره، لم تكن زيارته للممشى كأي زائر. كان يتردد على المكان منذ طفولته، ويحتفظ بصورة نادرة له وهو في الرابعة من عمره في حضن والده على أحد مقاعد الممشى.
مرت السنوات، وجاء عام 1984، حين قرر أن يطلب يد زوجته هناك، على مقربة من مياه القناة. ومنذ ذلك اليوم، أصبح الممشى طقسه الأسبوعي في يوم الجمعة، يرافقه فيه أبناؤه وزوجته. استمرت هذه العادة حتى أغلق الممشى في يوليو 2011. ومنذ لحظة الإغلاق، ظل المكان في قلبه. كما لو كان بيتًا عزيزًا أغلق بابه فجأة.
قرار العودة.. بين القلب والعين
عندما سمع بخبر إعادة الافتتاح، شعر محمد كامل بتردد كبير. فالممشى بالنسبة له لم يكن مجرد مساحة جغرافية، بل ذاكرة كاملة، وكان يخشى أن يزور المكان دون رفيقة عمره التي رحلت قبل خمس سنوات ونصف. لكنه تغلّب على مشاعره، وذهب. وما إن دخل حتى لاحظ لوحة الشرف الخاصة بالنصب التذكاري محطمة.
لم يحتمل المشهد. في اليوم التالي، عاد ومعه أدوات الترميم، وقام بنفسه بإصلاح اللوحة، كأنه يعيد ترتيب الذاكرة ويزيل الشروخ عنها. قال لابنه مبتسمًا: “كنت عارف إنك مش هتقدر تقاوم”. تلك الجملة، البسيطة والعميقة، كانت كفيلة بإعادة تعريف الممشى في نظر كل من سمع القصة.
وقد أثارت الواقعة إعجاب الحضور والجهات الرسمية، فكرمته محافظة السويس في احتفالية رمزية، بعد تداول صورته على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو يعمل على ترميم اللوحة بيديه.

ممشى الذكريات.. ما بين الروح والمكان
بالنسبة لمحمد كامل، ممشى بورتوفيق ليس مجرد مكان يطل على قناة السويس، بل شريط حي لحياة كامله. يقول: “منذ إعلان إعادة افتتاح بورتوفيق، وأنا أشعر كأني طفل صغير، لا أعرف كيف أذهب. مشحون بالذكريات، بين فرحتي وخوفي أن أكون وحيدًا وهي ليست معي”.
ومثل محمد، عاش كثيرون من أبناء السويس قصصًا متشابهة، حُفرت في جنبات الممشى. حب، فُقد، لقاءات عائلية، أعياد، وحتى مشاهد الوداع للمهاجرين من الميناء. أحد كبار السن ممن حضروا الافتتاح قال: “رجعت ريحة البحر ومعاها ريحة شبابنا، كأن الزمن رجع شوية”.
شهادات من قلب الذكرى: هشام سمير يحكي
يروي هشام سمير، أحد أبناء المدينة، أن ممشى بورتوفيق كان القلب النابض لأهالي السويس، لا سيما في يوم الجمعة بعد الصلاة. العائلات كانت تتوافد، الأطفال يركضون، الأحاديث تتعالى بين الكبار، والروابط الإنسانية تشتد.
يتذكر هشام افتتاح مسجد بدر في الثمانينات، حين حضر الشيخ محمد متولي الشعراوي، وصدح بالدعاء وسط حشود أهالي المدينة. يصفها بلحظة روحية خالدة لا تفارق ذاكرته. ويضيف: “الجميل إنهم حافظوا على روح المكان.. ما دمّروش الملامح القديمة، بل رجعوها أجمل”.
بالنسبة له، بورتوفيق ليست مجرد متنزه، بل سجل حيّ للحياة، ذاكرة جمعية تتجدد مع كل نسمة بحر تمر في المكان.
التطوير.. روح جديدة لمكان أصيل
تولت هيئة قناة السويس أعمال تطوير الممشى خلال 60 يومًا فقط، بمشاركة عدد من الشركات المحلية المتخصصة في ترميم المواقع التاريخية وتنسيق المساحات الخضراء، مثل شركة المقاولون العرب، وشركة مصر للأساسات. تضمنت أعمال التطوير صيانة النُصب التذكارية، رصف الأرضيات، إعادة تخطيط المساحات الخضراء، وتحديث الخدمات.
كما أُضيفت مناطق جلوس مظللة، وإضاءة ليلية متدرجة تبرز جماليات المعمار، مع مسارات للدراجات وممرات مخصصة لذوي الإعاقة. النتيجة كانت أكثر من متوقعة: ممشى متكامل يراعي روح المكان دون أن يفقده أصالته.
واليوم، يُفتح الممشى للزوار من الساعة 9 صباحًا وحتى 11 مساءً، مجانًا، ما يتيح للناس الاستمتاع بالمنظر والمكان والذكريات، دون قيود.

ممشى بورتوفيق.. حيث تمشي الذكريات بجانبك
ممشى بورتوفيق اليوم ليس مجرد مشروع تطوير، بل إعلان ضمني بأن المدينة تحترم ذاكرتها، وتقدّر ما تعنيه الأماكن لأهلها. أن يمسك محمد كامل بأدوات لحام لإصلاح لوحة النصب، أو يقف هشام سمير متأملًا في موقع كان يجمع أهله، هو تأكيد بأن الممشى عاد لأهله، وللحكايات التي تنتظر من يرويها.
بورتوفيق ليس فقط ممشى على ضفاف قناة السويس، بل هو قلب ينبض بحكايات الناس.. مكان احتفظ بهم، ويحتفظون به، جيلاً بعد جيل.
واليوم، يمشي الناس هناك، ليس فقط للهواء أو البحر، بل ليستردوا جزءًا من أنفسهم، من المدينة، من الذاكرة.