ملف: مغامرات «هيكل» في قرية الغوازي والغجر

على مدار عمره الصحفي الذي استمر أكثر من سبعين عاما استطاع محمد حسنين هيكل أن يجري العديد من التحقيقات الصحفية التي نالت نجاحا كبيرا. واستطاع من خلالها أن يصنع لنفسه اسما كبيرا وسط باقة من الصحفيين الموجدين وقتها.  فمن تحقيقه مع النساء الساقطات عام 1942 في “الإجيبشيان جازيت” إلى تحقيقاته عن الكوليرا وخط الصعيد في “آخر ساعة”، وكذلك تحقيقاته عن حرب فلسطين. ولكن يظل هناك تحقيقا يبدو حتى الآن مجهولا لمعظم من تتبع خطوات هيكل في بداياته، وهو رحلته المثيرة إلى كفر سنباط أو كفر الغجر أو الغرباء كما يسميها أبناء القرية. وهي الرحلة التي كانت في مطلع عام 1948. وذهب هيكل مسافرا إلى قرية تبعد ثلاثين كيلو مترا من طنطا ليجد نفسه محاطا بجو غريب. ويعود ليكتب عن مغامراته وسط مجتمع الغجر والغوازي وحواراته معهم.

وبأسلوبه الأدبي يقارن هيكل بين الغجر في ألمانيا والغجر في قرية سنباط قائلا: “الذين أتاحت لهم الظروف أن يزوروا برلين قبل الحرب وأن يتناولوا عشاءهم في مطعم “التزيجونر” – أي الغجر- على أنغام الموسيقى الغجرية – الزيجان- لن ينسوا أبدا لحنا قويا كالعاصفة غامضا كالليل لأغنية تقول على لسان فتاة من الغجر:

” إذا دهمتك العاصفة.. وكنت وحيدا في ظلام الغابة.. فأهتف باسمي.. أجئك على أجنحة الرياح.. وأقدك إلى الدفء والحب والأمان يا أعز عندي من عشيرتي”.

والذين أتاحت لهم الظروف أن يزورا قرية سنباط وسط الدلتا وأن يمروا بكفر سنباط أو كفر الغرباء أو الغجر كما يسميهم أهل القرية نفسها، سوف تترامى إلى آذانهم دقات طبول ودفوف صارخة فيها سحر وحشي غلاب لأغنية تقول:

“إذا أظلم عليك الليل

إزعق وقول يا وهيبة”

كانت وهيبة واحدة من أشهر الغوازي الغجر اللواتي خرجن من كفر سنباط. وتتساءل وصدى اللحنين والأغنيتين يتراقصن في أذنيك: أهناك ثمة علاقة أو رابطة خفية بين مطعم “التزيجونر” في برلين وبين كفر الغرباء الغجر في وسط الدلتا؟

مجموعة صور من تقرير هيكل توضح لفة المنديل التقليدي للغجر حول الرأس  
مجموعة صور من تقرير هيكل توضح لفة المنديل التقليدي للغجر حول الرأس
أبناء الكفر

يبدأ هيكل في وصف رحلته، وكيف دخل الكفر وكيف استقبله أبناء الكفر من الغجر وماذا دار بينهم من حديث يكتب هيكل: “كفر عجيب.. ليس كغيره من الكفور المتناثرة على أطراف القرى في ريف مصر.. ومنذ الدقيقة التي تدخل فيها قرية سنباط نفسها على بعد ثلاثين كيلو مترا من طنطا وتتجه إلى ناحية كفر سنباط الصغير، تجد نفسك محاطا بجو غريب ويرمقك كثيرون في تساؤل:

– إلى أين؟

وتقول في هدوء:

– إلى كفر سنباط..

وتسمع صيحات الاستنكار:

– كفر الغرباء تعني! أو كفر الغجر. إنهم ليسوا من سنباط، وإن كانوا قد أساءوا إليها في كل الدنيا وأضروا بسمعتها. إن الغوازي منهن يذهبن إلى كل مكان ويعشن حياة كلها ليل. والليل كله هوى وخمر. ثم يسألن: من أين دياركم؟، ويقلن: من سنباط!! ونتحمل نحن آثام الغجر..!

وتسمع من يقول لك: أن الغجر يعيشون حياة لا يشاركهم فيها أحد. ولا يختلطون بنا ولا نختلط بهم. ونحن لا ندري من أين جاءوا ولا هم يدرون أيضا. ولكن الشيء الذي لا شك فيه أنهم ليسوا منا وليست بيننا وبينهم أدنى رابطة. لا في التقاليد ولا في العادات ولا في أي شيء على الإطلاق.

صورة بعنوان شيخ من الغجر
صورة بعنوان شيخ من الغجر
شيخ الغجر

ويذهب هيكل إلى أحد شيوخ الغجر ليحاوره وليرى أيضا ابنته إحسان الغجرية التي كتب عنها هيكل بورتريه رائعا في وصفها. فيكتب هيكل مواصلا حديثه قائلا: “نظرات الشك تستقبلك. والتهم تكاد تنعقد فوق رأسك ويسبقك غبارها في الأزقة والدروب الملتوية في كفر الغجر. ويسألونك في حذر:

– من أنت ؟

وتطمئنهم قائلا:

– غريب.. جاء إلى غرباء

يبتسم واحد من الشيوخ ويفتح لك باب بيته ويوارب لك باب قلبه. لا يسمح لك أن ترى كل شيء. ولكنه أيضا لا يضن عليك بكل شيء.

يقول لك: نحن غرباء.

وتقول له: إنك عرفت هذا من قبل. روته لك تقاطيع الوجوه التي تختلف عن تقاطيع وجوه الفلاحين. ورواه لك لون بشراتهم الذي يكاد بقترب من لون الزيتون الأخضر. وروته لك عزلتهم. ابتعادهم عن الناس ونفور الناس منهم!

ويقول لك: لسنا أشرارا. إنهم – ويشير إلى ناحية القرية- يقولون إننا نشتغل بالسحر ونحن في الواقع لا نشتغل إلا بالتنجيم ورؤية البخت بالودع أو في الرمل أو على الورق أو من الأكف التي يعطيها أصحابها لنا برضاهم! ويقولون إن بناتنا غوازي وأولادنا ضاربوا رق وطبول. وماذا في ذلك؟ نحن نبيع ساعات الحظ لمن يريدها.

وتمر فتاة فيقول: هذه ابنتي.

صورة من تقرير هيكل عن الغجر في 1948
صورة من تقرير هيكل عن الغجر في 1948
فتاة من الغجر

تجئ “إحسان” وهذا هو اسمها. الوجه في لون الزيتون الأخضر، والعيون فيها نداء غامض مجهول، والشفاه عليها دعوة مكبوتة والخصر فيه نار عندما يطلب منها أبوها أن ترقص أمامك لتعرض عليك ألوانا من رقص الغجر. ويقول لك وهي تهز رأسها تؤيد ما يقول أبوها: “بدأت أعلمها الرقص وكان عمرها ثلاث سنوات. هكذا نفعل مع كل بناتنا. وطافت معي ومع أمها في الموالد والمقاهي في الريف البعيد والقريب. وكبرت وأصبح لها نهد وخصر وأرداف. وبدأت ترقص هي وأختها واعتكفت أمها واعتكفت أنا. أمها كبرت وثقلت وأنا تعبت أصابعي من النقر على الطبول وكلت عيني من السهر. وكنت قد دربت ابني ليحل محلي ويصاحب أختيه على الطبلة والدف.

ثم يقول باسما: أليس من حقي أن أستريح

وتقول له: وإذا جاءها رجل؟

ويسألك: ليتزوجها؟

– أجل

ويرد في هدوء: عليه أن يدفع لي مبلغا من المال آخذه لنفسي.

ثم يتحدث هيكل مع الفتاة الغجرية “إحسان”، ويصف حواره معها في كل شئ وعن كل شئ تحت عنوان “فنون الغجر”. فيقول:

تتكلم إحسان في كل شيء وعن كل شيء. دقات الطبل ونقرات الدف وأهازيج الناي التي كانت أول ما طرق سمعها وهي طفلة. ثم أول حمى أحست بها وهي حمى الرغبة في أن تهتز وتتمايل وهي دون العاشرة. ثم فن الإغراء وكيف تجذب إليها الرجل وكيف تعرفه وكيف يعرفها أو على الأصح يعرف منها ما تريد له هي أن يعرفه. أما الباقي فخبايا وأسرار لا تظهر ولا تروى إلا بالحساب. كل هذا وهي على عتبة الحياة. ثم تتعلم كيف تغني حتى تجعل أنفاس الذين يسمعونها تتدافع وتتقطع. وكيف ترقص حتى تبعث في عيون الذين يشاهدونها الرغبة في الاسترخاء والاستسلام. وكيف تشرب أقة أو أقتين من الخمر حتى تجعل الذين يجالسونها وهم لا يشربون مخمورين من غير خمور!

وبعد هذا أو قبل هذا كيف تطوف بالأسواق تستجدي كيزان الذرة لتأكلها الماشية التي تربيها أمها. وكيف تغني في الموالد وتتلو عليك أشهرها وأهمها. مولد الفرغل في أبوتيج ومولد أبوالعباس في صدفا. ومولد القرني في الجيزة. ومولد أبوجرج كما يسمون القديس سان جورج في قرية ميت دمسيس قرب سنباط. وكل مولد من هذه الموالد يستغرق عشرة أو خمسة عشر يوما تعود بعدها إحسان وفي منديلها المعقود جنيهات كثيرة يأخذها أبوها.

فرقة كاملة من الغجر الأطفال تستعد للمستقبل
فرقة كاملة من الغجر الأطفال تستعد للمستقبل
مكسب الغوازي

تسكت الفتاة ليستكمل هيكل حديثه مع والدها الشيخ العجوز، ويستكمل والد الفتاة حديثه:

“أن ابنتي لا تكسب كثيرا. غيرها يكسب أكثر منها، بعض الغوازي يعدن من كل طوفة وفي عقد مناديلهن مئات الجنيهات. وفي الصعيد يدفعون أكثر. وفي القاهرة لا يدفعون أبدا. وفي بحري يتوقف كل شيء على الظروف وعلى الغازية نفسها. ويشير إليها مرة أخرى وتطرق هي برأسها موافقة:

أنها لا تكتسب كثيرا فهي ليست من أجملهن وليست أكثرهن قدرة على إشعال اللهب في خصرها وفي عينيها، وليس صوتها جميلا وليست قوية الاحتمال..”.

يسترسل الشيخ العجوز وفي صوته رنة أسف على شيء حرم منه: “كانت وهيبة تشرب ثلاث أقات من الخمر كل ليلة، وتسهر أسبوعا متصلا لا تنام ولا ينسدل لها جفن فوق عين، وكانت تأكل زوجين من ذكر البط. و”لواحظ” وهي غازية أخرى من أسرة من الغجر تركت سنباط إلى أبوحماد على مقربة من جيوش الإنجليز، استطاعت أن تجعل واحدا منهم يحبها ويرعاها ويعطيها في كل شهر ذهبا كثيرا. وقد أرغمته على أن يرعى أسرتها معها. أبوها يرعى خيل المعسكر وأخوها يسرقها وأمها تفتح البخت لجنوده وهي ترقص له”.

ويسأله هيكل بعد أن أنس الشيخ إليه وفتح قلبه له:

  • من أين جئتم؟

ويجيب الشيخ العجوز والحيرة في عينيه:

  • لا ندري.. ثم يقول أحد الحضور من الأسرة: كان أبي يقول لي أنهم جاءوا هنا منذ مائة سنة، وكانوا يومها خمس عائلات: أبوعمر والحاج. ومبارك. ولاشين وأبوالعين. أما قبل المائة فلا علم ولا ظن ولا تخمين.

ينتهي الحوار والمغامرة. ولكن حديث هيكل وتحليله للغجر وحياتهم لا ينتهي، فيذهب مع القارئ في تحليل أصول الغجر ومن أين جاءوا ومقارناتهم بالغجر في بلدان أوروبا.

فيقول: “وربما كان في تاريخ أمة الغجر التائهة الشريدة في بقاع الأرض ما يجيب على سر ” كفر سنباط” الذي لاشك فيه أنهم لم يكونوا هنا. وأنهم غرباء وفدوا من وسط أوروبا والبلقان. وأرجح الظنون أن عشيرة منهم انحدرت مع جيوش السلطان سليم العثماني أثناء غزوه للشرق الأوسط. وأن هذه العشيرة سارت وراء جيوشه الفاتحة. الفتيات يرقصن للقواد والرجال يخدمون الجيوش ويسرقون الخيول. والنساء يفتحن البخت للضباط الذين يشغلهم أمر زوجاتهم أو جواريهم في ضفاف البسفور. ثم قادتهم الريح والأقدار والأيام واستقرت عشيرة منهم في سنباط”.

تحقيق هيكل عن الغجر
تحقيق هيكل عن الغجر
انقطاع الصلة

مرت أيام كثيرة وسنون ومع ذلك فهل انقطعت الصلة بين الغجر في سنباط قرب النيل وبين الغجر في وسط أوروبا والبلقان على ضفاف الرين والدانوب؟، ربما كانت الصلات الظاهرة قد توقفت. ولكن الدم والعادات والظروف كلها تقول إن الغجر في كل مكان في الدنيا هم الغجر. في وسط أوروبا كانوا يسمونهم Aegypter نسبة إلى الرأي القائل أن أصلهم من مصر. وفي سنباط يسمونهم الغجر والتحريف اللفظي بين ايجيبتر والغجر يمكن أن يكون موضع بحث.

ويختتم هيكل تحقيقه الصحفي وهو يتساءل راسما لوحة للغجر وحياتهم قائلا: “ثم لماذا نبحث من هم ومن أين جاءوا؟ المهم أنهم كانوا وأنهم هنا وأنهم وإن كانوا في عزلة عن أهل سنباط إلا أنهم ملء حياتها. الليالي كلها لهم والمناسبات لا حياة لها بدونهم وما أروع السحر الذي يضفونه على مولد أبوجرج مثلا. سحر لا يبدو في عيد مصر كما يبدو في عيد أبوجرج صاحب الكنيسة الوحيدة في ميت دمسيس. وحول سنباط تجد آثارهم أجيالا بعد أجيال.

ابنة الغازية من الغجر تواصل نفس رسالتها. السر المجهول في العين والنداء المكبوت على الشفاة والنار الموقدة في الخصر. ثم تنتقل أموال المعجبين من أغنياء الريف إلى عقد المناديل وبعض الرجال والشبان يخرجون ليجعلوا آثار الغجر تمتد كثيرا خارج سنباط، بعضهم يطوف بالقرى ليصنع مفاتيح للأقفال التي ضاعت مفاتيحها بإذن أصحابها أحيانا وبغير إذنهم في أغلب الأحيان. وبعضهم يطوف بالكفور النائية يداوي الخيل ويسرقها بعد أن يتم شفاؤها أو يبيع المناديل للقرويات ومعها صنوف المساحيق والسموم..

حياتهم الخاصة تمضي في ظل تقاليد الغجر في كل مكان.

الطبلة الصارخة وغازية من الجيل الجديد من الغجر
الطبلة الصارخة وغازية من الجيل الجديد من الغجر

لا تعليم إلا الرقص والأغاني والغواية والتنجيم. ولا مضاربات في الحب أبدا. لكل منهن أن تختار رجلها أو زوجها ويكفي أن يعرف كفر سنباط هذا الحب ليكون الحبيب صيدا محرما على باقي غوازي الغجر، وتكون هي الأخرى صيدا محرما على غيره من ضاربي الطبل والدف وعازفي الناي وسارقي الخيل. وله وحده يكون لحنها ونداؤها:

إذا أظلم عليك الليل

إزعق وقول يا وهيبة

لحن يخرج من سنباط وسط دلتا النيل، ويتردد صداه على ضفاف الرين والدانوب وفي مطعم التزيجونر في برلين.

محمد حسنين هيكل  آخر ساعة فبراير 1948.

اقرأ أيضا

غرفة هيكل: تاريخ العرب الحديث بين أربعة جدران

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر