ملف: صلاح عبد الصبور: الفارس «لا يتقادم»!

لا يحتاج صلاح عبد الصبور (1981-1931 ) إلى “مناسبة”  للعودة إلي تجربته الشعرية الغنية والمتشعبة ما بين شعر ونثر، ومسرح  شعري. لكن يمر اليوم 40 عاما على رحيله، مناسبة للاقتراب قليلا من تجربة الشاعر التي تزيد عتاقة كلما مر عليها الزمن.

الكتابة عن شاعر مثل صلاح عبد الصبور مثيرة. رغم حياته القصيرة إلا أنه فتاح سكك كبير فى الأدب العربي ، وليس من المبالغة انه اتعب من جاء بعده، لم يستطع كاتب مسرح أن يتجاوز منجزه من المسرح الشعري الذى لم يتجاوز خمس مسرحيات. ولا تزال “مأساة الحلاج”،” مسافر ليل”، “ليلى والمجنون”، ” بعد أن يموت الملك”، ” الأميرة تنتظر” دررا فى المسرح الشعري العربي المعاصر، وكذا أيضا دواوينه الشعرية!

مذكرات مجهولة

كان صلاح عبد الصبور طفلا منطويا، قالت له أمه انه لم يعرف البكاء فى طفولته إلا حين كان يطلب حاجة أو يبلل نفسه، كان إذا رفعوه ارتفع، وإذا حطوه أنحط. عندما صار صبيا لم يعرف سوى البكاء، ربما انتقاما لسنوات صمته، يبكى كلما قرأ قصة عاطفية أو مأساة غرامية، يبكى ليلة من لياليه مع “ماجدولين” فى رواية “تحت ظلال العنكبوت”، وفى ليلة اخرى بكى “سلمى كرامة” فى “الأجنحة المتكسرة” لجبران خليل جبران،  وفى ليلة ثالثة يبكى مع عذاب الشاعر والمسرحي الفرنسي سيرانو دى برجراك، أو مع هذا العاشق الضعيف المغمى عليه دائما: قيس بن الملوح!

فى صباه تحديدا فى العام 1944 كما قال فى مذكراته المجهولة، والتى لم تنشر فى أى من كتبه – كتب أول قصائده يشكو فيها العالم:

كرهت الحياة كرهت الحياة

وبعد الحياة  كرهت البشر

ويقسو الزمان على العبقري

أهذا جزاء أديب شعر

وشعري يقل وعزمى يذوب

وعمرى الثلاث وزدن العشر

هكذا بدا صلاح عبد الصبور الكتابة، التقت أيامه ” فى جدائل الشعر وزنارات  الخصر” كما يقول بعد أن ” عاش أعواما، طولا وعرضا، واقعا ووهما، وعرف فيها الفقر واليسر، والسجن والحرية، والاخفاق والنجاح، والرحلة والاستقرار، ورهن قلبه عند العيون الخضر تارة والزرق تارة والعسليات تارة أخرى والسود مرات ومرات..”!

صورة نادرة لصلاح فى شبابه
صورة نادرة لصلاح فى شبابه

فى يومه الأول بالجامعة، التقى بها، ولأجل عينيها راح يكتب الشعر، قصيدة كل أسبوع، فقط ليلقيها فى الندوة الأدبية التى كانت من روادها، يقول عبد الصبور: ” لن أنسى فرحتى يوم قالت لى بصوت خافت وتعبير يختفى وراء الذكاء والحياء معا أنها تشعر  بما أشعر به، كنت فى ذلك اليوم أسعد أهل الأرض جميعا، طفت القاهرة من شرقها إلى غربها، وركبت عشرات الأتوبيسات، وجلست فى عشرات المقاهى، وقبلت أصدقائى جميعا…”

ولكن ككل قصص الحب انتهت قصة ابن السادسة عشر، ولكن بعد تسع سنوات التقيا مرة أخرى، ليكتشف عبدالصبور أن ” بيننا هوة عميقة”..ولكن القصة الهمته قصيدته ” العائد”..

طفلنا الأول قد عاد إلينا

بعد أن تاه عن البيت سنينا

جاء خجلان..حييا وحزينا

لفت القصيدة، ومع قصائد أخرى أنظار النقاد إلى الموهبة الشابة، ليبدأ الطفل الريفى الخجول رحلة المجد بعد أن التقى الشاعر كامل الشناوى و الناقد لويس عوض، وهما اللذين التفتا إلى تلك الموهبة الجديدة ذات النبرة المختلفة عن السائد..من الأول تعلم صداقة ” الليل والحياة والفن”.. أما الثانى فكان “الناصح والمعلم، المؤمن بدور الثقافة الاجتماعى، والعاشق للموسيقى الكلاسيكية، ونشدان تجديد الأدب العربي”. وهى أشياء ظل صلاح حريصا علي مدانها دائما فى الحياة والشعر.

كسر رقبة البلاغة

ظهر صاحب “شجرالليل” فى وقت كان كل شىء يتنفس سياسة، زمن الزحف المقدس الذى تناسبه بلاغة الشعار، لكن صلاح ابتعد عن ذلك، اعتبر ان الفن هو ” امتلاك ناصية الحلم”..اختار الصوت الخفيض، البلاغة العارية، بل كان مهتما بالأساس بـ “كسر رقبة البلاغة العربية” حسبما وصفته جامعة اوكسفورد في تقرير لها عن أهم مائة شاعر خلال القرن العشرين. لم تكن البلاغة الخافتة، أو الدرامية أو لغة الحياة اليومية هى فقط مما ميز صلاح عبد الصبور، ولكن كان فى قدرته على تحويل مسار الشعر، كما يقول جابر عصفور:” إنه يبدا من حيث انتهى السابقون، لا ليسير فى الطريق الذى ساروا فيه، بل يخبط لنفسه طريقا جديدا، ويقتحم بشعره فضاءات مغايرة، فضاءات تحمل من غوايات التحول ما يغري الآخرين بالاتجاه إليها والانجذاب إلى وعودها”. كان صلاح كما المسيح والحلاج وأبو العلاء المعرى.. مهزوما يحمل صليبه، وهكذا حالنا الآن حيث “الشر استولى فى ملكوت الله”.

اقرأ أيضا:

رسالة من صلاح عبد الصبور:  يعنيني النفاذ إلى جوهر الوجود الإنساني

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر