«ملاذ الشعوب».. هل أثر اللجوء في تشكيل الحضارة المصرية القديمة؟

في عام 2000، اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا بتخصيص يوم عالمي للاجئين الذين أجبرتهم الحروب والاضطهاد على مغادرة أوطانهم. وقد تقرر أن يتزامن هذا اليوم مع «يوم اللاجئ الإفريقي» الموافق 20 يونيو، ليعتمد كـ«اليوم العالمي للاجئين». أما الوثائق والبرديات وجدران المعابد، فقد أثبتت أن الحضارة المصرية القديمة كان لها السبق في الاعتراف باللاجئين والنازحين والفارين من بلادهم.

ولعل ذلك يثير تساؤلات عدة: هل كان مفهوم اللجوء في مصر القديمة يشبه ما نعرفه اليوم؟ وكيف تعاملت مصر مع الفارين من بلادهم؟ وهل كان لجوؤهم ملاذًا إنسانيًا أم وسيلة لتحقيق غايات أكبر؟

اللجوء: ظاهرة وممارسة

رغم أن كلمة “اللجوء” حديثة كمصطلح، إلا إنها قديمة كممارسة، إذ كانت جزءًا أساسيًا من العلاقات بين دول الشرق الأدنى القديم. في وقت كانت فيه الحروب والتحالفات تُستخدم كوسائل تفاوض. وقد مثًل اللجوء أداة هادئة لكن فعالة، تلجأ إليها الدول لتحقيق مكاسب استراتيجية أو لحماية رموز سياسية فارّة من أوطانها.

في مصر القديمة، لم يكن اللجوء مجرد ظاهرة إنسانية، بل كان تعبيرا عن رؤى سياسية وتاريخية عميقة، أظهرت قوة الدولة وولاء شعبها، وجعلت منها مركزًا استراتيجيًا ومأوى للمطاردين والهاربين، في منطقة كانت مسرحًا لصراعات القوة.

قوانين اللجوء في مصر القديمة

لم يغفل المصري القديم عن وضع قوانين تحمي بلده وتحمي من يلجأ إليه، إذ كان اللجوء، كما أثبتت معابد توت، حورس، نفرو، وأوزوريس، يُمنح للمستضعفين، ولمن ارتكبوا جرائم غير عمدية، وللمدنيين غير التابعين للدولة، وكان القرار بيد الملك، الذي يملك وحدة صلاحية منح هذا الامتياز. وقد شكلت المعابد والقصور الملكية ملاذات آمنة للاجئين، تحكمها قوانين صارمة، تمنع الثأر وتكفل الحماية لمن احتمى بها.

استطاعت مصر القديمة الحافظ على استقرارها الداخلي، إذ لم تسجل سوى حالة لجوء واحدة، هي حالة سنوهي، المسؤول في القصر الملكي خلال عهد أمنمحات الأول، والذي اضطر للفرار بعد اضطرابات داخلية. عاش سنوهي في الغربة بين الزعامة والخوف، وظل يحن إلى وطنه حتى سمح له بالعودة.

أما من الخارج، فقد استقبلت مصر عدة حالات لجوء فردية، كما ورد في دراسة وفاء أحمد السيد بعنوان: “موقف مصر من مسألة اللجوء السياسي في الشرق الأدنى القديم”.

الأقواس التسعة لأقوام آسيويين على جدران معبد رمسيس الثاني في أبيدوس
الأقواس التسعة لأقوام آسيويين على جدران معبد رمسيس الثاني في أبيدوس
 ومن أبرز هذه الحالات:

قصة أورخي تشوب، ملك خيتا (1272–1267 ق.م):

تولى الحكم بعد وفاة والده مواتالي، رغم اعتراض النبلاء، وتعرض لاحقا لانقلاب من عمه خاتوسيل الثالث، ففر إلى مصر، التي كانت في خلاف تقليدي مع مملكة خيتا، ولجأ إلى رمسيس الثاني.

رغم مطالبة خيتا المستمرة باسترداده، رفضت مصر تسليمه، ما أدى إلى توتر دبلوماسي بين الدولتين. ورغم عدم تأكيد الوثائق ما إذا كان قد بقى في مصر أم أعيد، فإن وجوده ساهم في زعزعة استقرار خيتا. لاحقا، نصت أول معاهدة سلام دولية في التاريخ، بين مصر وخيتا، على عدم منح اللجوء السياسي مستقبلا، وهو ما يعكس التأثير العميق للجوء أورخي تشوب على العلاقات بين الدولتين.

هنو وأيمني في مصر:

في ظل التوسع الآشوري بالقرن الثامن ق.م، تبنت مصر سياسية احتواء الفارين من بطش الآشوريين. كان أبرزهم “هنو”، الذي فر إليها بعد فشل تمرده ضد الملك الآشوري تجلات بلاسر الثالث (744–727 ق.م). دعمت مصر هنو عسكريًا، وشارك مع القائد المصري سيبي التورتان في معركة عام 720ق.م، إلا أن التحالف هزم وأسر. اختلف المصادر حول هوية الملك المصري الداعم، بين أسركون الرابع، تف نخت، أو شبتكو.

رغم الهزيمة، فإن هذه المواجهة أظهرت رفض مصر للنفوذ الآشوري في بلاد الشام، ودورها في دعم حكّامها المحليين سياسيًا وعسكريًا.

أيمني، حاكم أشدود:

فر إلى مصر (النوبة) بعد حملة سرجون الثاني عام 712 ق.م. في البداية، منحه الملك شبكو حق اللجوء، لكن بعد وفاته وتولي شبتكو الحكم، تغير الموقف، وتم تسليمه مكبلاً للآشوريين. تعدّ هذه الحادثة استثناءً في سياسة الدولة المصرية التي اعتادت دعم اللاجئين، كما تشير إلى تحوّل سياسي مؤقت في علاقتها بآشور.

احتلال باللجوء: درس من الهكسوس

في لحظة فارقة من التاريخ، وتحديدا في عصر الانتقال الثاني، اجتاح الهكسوس مصر، كما تناول المؤرخ سليم حسن في الجزء الرابع من “موسوعة مصر القديمة”، فإن الهكسوس، القادمين من بلاد الشام، تسللوا إلى مصر تدريجيا كمهاجرين أو تجار. اعتمدوا على الفوضى السياسية، واستقروا في أواريس، التي أصبحت مركز حكمهم، سيطروا على شمال مصر، فيما بقى الصعيد تحت حكم مصري محلي. رغم سيطرتهم، لم يكن لهم تأثير ديني أو ثقافي يذكر.

ويصف المؤرخ مانيتو غزو الهكسوس لمصر بألم بالغ، حين حرقوا المدن وهدموا المعابد، وفرضوا الجزية، وعينوا ملكا باسم ساليتيس اتخذ من منف مقرا لحكمه. احتلالهم لم يكن نتيجة حرب شاملة، بل نتيجة نزوح تدريجي وتسلل بطيء، وانتهى بفرض سلطتهم الكاملة. لقد فرضوا الجزية على مصر العليا والسفلى، وكان احتلالهم تتاليا لعمليات تسلل بطيئة بدأت بالنزوح والتمركز في نقاط محددة، حتى تمكنوا من السيطرة، وأصبحوا الحكام.

سيطرة الهكسوس

أصبح الوضع على النحو التالي: سيطر الهكسوس على شمال مصر، واتخذوا من أواريس عاصمة لهم. بينما ظل الصعيد في يد حكام مصريين محليين من طيبة. في الوقت نفسه، استغل الكوشيون هذا الفراغ السياسي، فأسسوا مملكتهم المستقلة في الجنوب. واتخذوا من كرمة عاصمة لهم، مستفيدين من ابتعاد الهكسوس عن الجنوب. ما أدى إلى انقسام مصر إلى ثلاث قوى: الهكسوس في الشمال، المصريون في طيبة، والكوشيون في الجنوب.

ومن جانبه، سلط الدكتور عبد الحليم نور الدين الضوء على مقاومة المصريين للهكسوس، واصفا إياها بـ”الملحمية”. وأشار إلى التطورات في التكتيكات العسكرية التي اعتمد عليها المصريون، وذلك في كتابه “كفاح شعب مصر ضد الهكسوس وعودة الروح”، حيث أبرز دور الأبطال المصريين مثل الملك سقنن رع، الذي قاد مقاومة شرسة ضد الهكسوس، والملك كامس، الذي واصل الكفاح حتى استشهاده، وأخيرًا الملك أحمس الأول، الذي تمكن من طرد الهكسوس وتحرير مصر.

رحلة العائلة المقدسة والهروب إلى مصر
رحلة العائلة المقدسة والهروب إلى مصر
لاجئون على مر العصور

في مسيرة مصر الممتدة، كانت أرضها ملاذًا للشعوب الباحثة عن الأمان والحرية. فمنذ عهد المصري القديم، سجلت النقوش على جدران المعابد حق اللجوء للضعفاء. مرورًا بعصور الأنبياء الذين لجأوا إليها طلبًا للسلام، مثل سيدنا إبراهيم الذي احتمي بها بعد الاضطهاد الذي تعرض له على يد قومه. وكذلك السيدة مريم العذراء وابنها المسيح عيسى عليهما السلام، اللذين لجآ إلى مصر قبل نحو 2000 عام هرباً من الاضطهاد الروماني. ولا يزال الأقباط يحتفلون بالطريق الذي مرَّا به في جنوب مصر، وقد حولته وزارة السياحة المصرية إلى مزار سياحي.

وصولًا إلى العصر الحديث، الذي بلغ ذروته بعد ثورة 1952. حين استضافت مصر تحت قيادة الرئيس عبد الناصر العديد من اللاجئين السياسيين من مختلف الجنسيات، مثل الحبيب بورقيبة، أحمد بن بيلا، صدام حسين، وغيرهم.

اللجوء.. بين الفائدة والعبء

لقد شكل اللجوء إلى مصر رافدًا اقتصاديًا وثقافيًا في بعض المراحل، حيث أسهم اللاجئون في تنشيط سوق العمل. ولكن، حين تفوق أعدادهم قدرة الدولة على الاستيعاب، تبدأ الضغوط على الخدمات، وتظهر مشكلات اجتماعية. ما يفرض تساؤلات واقعية حول كيفية استفادتهم من الفرص التي أتيحت لهم. ومدى التزامهم بقيم البلد الآوية.

فبينما قدمت مصر لهم الأمان والتعليم والرعاية. يبقى الأمل في العودة إلى أوطانهم حينما تتحسن الظروف، مساهمين في بناء مجتمعاتهم، ومُقدّرين للدعم الذي قدمته لهم مصر في أوقات الحاجة.

اقرأ أيضا:

«العيدية».. عملة الفرحة في التراث المصري

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.