مسرح لا يموت.. «المنصورة» تنقذ إرثها وتعيده دارًا للأوبرا

ليس كل ما يُهدم ينهار، فبعض المباني تبقى، ولو كانت محطَّمة، فقط لأنها تحمل ذاكرة مدينة وأحلام أجيال. هناك، في قلب شارع الجمهورية، وسط صخب السيارات وضجيج اليومي، يقف «مسرح المنصورة القومي» كأنه شاهد صامت على معركة طويلة بين النسيان والنجاة.
مبنى أنيق رغم التعب، مرّ عليه الزمن كما تمر القصص العظيمة: صعود، مجد، تجاهل، ثم عودة من تحت الركام. هنا غنت أم كلثوم، وهنا تضرر من انفجار مدوٍ، وهنا قال الناس : “لن يهدم الحلم”. إنه ليس مجرد مبنى من حجر، بل حكاية مقاومة استمرت 12 عامًا، شارك فيها المهندسون والمثقفون والحالمون. حتى عاد المسرح إلى الحياة، بوجه جديد وروح قديمة لا تموت.
ميلاد مسرح المنصورة القومي من قلب القصر
لم يكن المسرح مجرد مبنى بل ولد من رحم “قصر” كان يخص أمينة هانم إلهامي، زوجة الخديوي توفيق. في نهايات القرن التاسع عشر، كانت المنصورة مدينة تتزين بالأفكار الأوروبية، وتنبض بالفنون، وكان من الطبيعي أن تخصَّص مساحة للباليه والموسيقى والعروض التمثيلية.
المسرح من المباني المسجلة كمبنى تراثي منذ عقود، ويحظى بحماية قانونية تؤكد أهميته المعمارية والتاريخية. وفي عام 1902، جاء المعماري الإيطالي “ماريللي” ليحول القصر إلى مبنى بلدية ومساحة للفنون، بتصميم إيطالي فاخر وسعة تقارب 650 مقعدًا. وسرعان ما أصبح “مسرح المنصورة القومي” علامة ثقافية مضيئة في دلتا مصر.
هنا غنت أم كلثوم، ومثل يوسف وهبي، وعُرضت أولى مسرحيات الريحاني وعلي الكسار. هنا ضحك الناس، بكوا، صفقوا، وخرجوا يحملون الفن في قلوبهم.

المسرح بين الأمجاد والإهمال
طوال العقود الأولى من القرن العشرين، ظل المسرح نبضًا ثقافيًا قويًا. لكنه مع التغيرات السياسية والاقتصادية بعد ثورة يوليو، بدأ يخفت وهجه قليلًا، خاصة بعد ظهور التلفزيون وغياب الرعاية المستقرة للمسرح في الأقاليم.
ومع مطلع التسعينيات، دخل المسرح في مرحلة إغلاق شبه دائم، بحجة “الترميم” تارة، و”الصيانة” تارة أخرى، حتى صار فتح أبوابه حدثًا نادرًا، واستُخدم أحيانًا كقاعة مؤقتة لاحتفالات المحافظة أو حفلات خالية من الروح.
كان المسرح يغلق أكثر مما يفتح، ويعلو غباره على الستائر الحمراء، وأصبح المهتمون به مجموعة قليلة من المثقفين، يكتبون عنه بحزن، ويطالبون بفتحه في خطابات لا تُقرأ.
وفي صباح 24 ديسمبر 2013، هز انفجار ضخم مديرية أمن الدقهلية، المجاورة مباشرة للمسرح. سقط قتلى وجرحى، وانهارت أجزاء من مباني مجاورة. المسرح لم يكن الهدف، لكنه أصيب، تضررت الواجهة، زجاج النوافذ، بعض الجدران الداخلية. لحظات، وعمّ قرار سريع من المسؤولين: “المسرح آيل للسقوط… سيتم إزالته”. كأن القصة انتهت.
قرار الإزالة وإشعال الغضب
عندما انتشر خبر الإزالة، لم يكن المشهد عاديًا. فوجئ المثقفون، غضب الفنانون، واشتعلت صفحات التواصل الاجتماعي. هل يزال واحد من أقدم المسارح في مصر بهذه السهولة؟!
الصور التي أظهرت لافتات “الهدم” على جدران المسرح فجرت حملة دفاعية واسعة. وأطلقت بعض المجموعات الثقافية من المنصورة حملة إلكترونية باسم “أنقذوا المنصورة”.
لكن في الواقع، حملة “أنقذوا المنصورة” كانت قد انطلقت من قبل، في أكتوبر 2013، قبل الانفجار، بهدف حماية التراث الثقافي والعمارة بالمدينة، وكان المسرح رمزها الأبرز بعد الانفجار.

مسرح المنصورة.. إرث لا يُمحى
في منتصف 2014، وبعد الضجة، تدخلت وزارة الثقافة. وبدعم مالي غير مباشر من سلطنة عمان (بقيمة 3 ملايين ريال عماني)، أدرج المسرح ضمن مشروعات “صندوق التنمية الثقافية”، لكن المشروع واجه تأخيرات عدة.
مرت السنوات، تارة يعلن عن بدء الترميم، وتارة أخرى يتعثر المشروع، حتى شعر كثيرون بأن المسرح يستخدم في الدعاية أكثر منه مشروعًا جادًا. وظل المسرح واقفًا، بلا حياة، ينتظر خشبته أول خطوة ممثل منذ أكثر من 20 سنة.
وفي أواخر 2021، ومع تجدد الحديث عن إحياء دور الثقافة، تولت “دار الأوبرا المصرية” مسؤولية الإشراف الكامل على المشروع. وتم تكليف شركة “المقاولون العرب” بالتنفيذ، وسط تنسيق مع وزارة الإسكان، ومحافظة الدقهلية، وجامعة المنصورة.
دار أوبرا المنصورة
وخلال الترميم والتطوير، تم اعتماد الاسم الجديد رسميًا ليصبح “دار أوبرا المنصورة”، كخطوة لتجديد هويته الفنية والتأكيد على دوره كمركز ثقافي إقليمي يحيي التراث ويواكب الحداثة.
على مدار عامين، تمت أعمال التدعيم الإنشائي، وترميم السقف الإيطالي، وإعادة بناء الأبواب والنوافذ وفق الطراز الأصلي. وابتداءً من 2024، بدأ العمل على التشطيبات النهائية والتجهيزات التقنية بتوصية من مجلس الوزراء.
وفي ظل متابعة دائمة من حملة “أنقذوا المنصورة”، التي ظلت تنشر تحديثات من موقع العمل وتحلل العقود، قال مؤسسها د. مهند فودة: “حلمي الشخصي هو أن أحضر افتتاح دار أوبرا المنصورة.. مش عشان التصوير، لكن عشان أصدق أن الجهد اللي بدأناه من 12 سنة ما راحش هدر”.
مسرح المنصورة القومي
ماذا بعد؟
حتى الآن، لم يحدد موعد الافتتاح الرسمي، لكن المؤشرات كلها تؤكد أن المسرح سيكون جاهزًا قبل نهاية 2025، تخطيطا لإعادة إحياء المسرح كمنارة ثقافية، تجمع بين التراث الإيطالي الأصيل، والتجهيزات العصرية الحديثة، ليعود مسرح المنصورة القومي ليكون مركزًا للفنون في الدلتا.
اقرأ أيضا:
حوار| د. مهند فودة: التراث ليس رفاهية.. و«أنقذوا المنصورة» تقاوم النسيان بالتوثيق