«مسارات المدينة».. تأملات في وعي آخر

لا بدّ أن نفحص طويلاً نمو الشغف الذي طرأ على الدراسات والبحوث التي تناولت منظومة المدينة في الآونة الأخيرة، سواء بشكل أدبي، فني، علمي؛ لنقرأ مسيرة وسيرة التمدين والعمران في حقب النشأة والتكوين، مرورا بالأطروحات الراهنة في عصور الحداثة، نحو إنتاج مفاهيم ثقافية ومعرفية متفردة، لاستبصار وجوه المدن النوعية والمتعددة، المعلنة والخبيئة، حتى نعرف أننا تواشجنا مع ناصية النهضة والحضارة ذات يوم، أم أن تلك التقاطعات لم تحدث قط، وظلت كائنة في دائرة الأدبيات والأفكار التي أدركها التاريخ الاجتماعي والثقافي، ولم تتجسد في مجتمعات أو تتحقق في الواقع الثقافي.

لقد برز أخيرا الاكتراث بموجات التفاصيل الدقيقة لعناصر التحديث، ما أعادني إلى اجترار تجارب ذاتية خصتني في الخمسينيات والستينيات، فحينما كنا نهبط ميدان محطة الرمل، نصادف ساحة متسعة تتوسطها لوحة كبيرة لخريطة المدينة، التي لا يعبأ أحد بالفرجة أو التعرف عليها. وتشتمل أيضاً على ركن باعة الصحف والكتب وفي زاوية أخرى يحتشد بها من يهوى “الفشار” والعصائر “تمر هندي”، وقليل من يتوفر على زجاجات الحليب أو الآيس كريم.

***

يفضى الميدان إلى ضفاف أخرى، شارع سعد زغلول وصفية زغلول، يصلنا بها السلم الكهربائي الصغير الكائن بالنفق، الذي يتسع لمجمع استهلاكي كبير، ليكتمل طرق أخرى تبعث على النشوة والمسرة، حيث متعة السير ومطالعة بيوت الأزياء الراقية “صالون ڤير” و”شيكوريل”، الكافتريات مثل “تريانون” و”ديليس”، الكازينوهات والمقاهي “بسترودس” و”إيليت”، البنايات العتيقة ذات الطرز البديعة المتنوعة؛ والمكتبات العريقة مثل “سلامة موسى” و”دار المعارف”؛ ومنافذ الموسيقى “بابازيان”، والورود والزهور “أوبافيون دي فلوريل”.

غير أن رحلة الترام والنفق لم تطل، هجر الركاب الطابق العلوي للترام، وتلاشت بهجة التأمل والبطء. وحال اكتظاظ الترام، دون مقاعد خالية؛ وضاق العابرون بالنفق، حتى تعطله وإغلاقه، وصار مأوى للجرذان والقطط. سادت الفوضى شوارع المدن وروافدها، وذاعت ظاهرة ملابس الرصيف “البالة” والصياح المفزع لترويجها؛ وتبدلت حديقة الخالدين ذات الأربعة تماثيل سيد درويش، عبدالله النديم، سيد كريم، حسن الإسكندراني من منتزه للمارة إلى مطاعم الـFast Food ذات ضجة وموسيقى صاخبة. وهو ما حدث لـRoofs الفنادق العريقة الفاخرة “وندسور” و”متروبول”، التي صارت أشبه بملاه ليلية، فبنايات الميدان لا تعرف غير السهاد والأرق حتى الصباح.

***

تلك المشاهد تمثل استعادة ملامح الغربة عن الحياة. كل تلك التحولات تكشف عن أن التمدين يحمل في رحمه عناصر فنائه. وفي هذا السياق نذكر سردية د. أنور عبد الملك، حين هبط في القاهرة في سبعينيات القرن الماضي وافدا من باريس، وطوافه في وسط البلد، حين كتب: “الفلاحون يحتلون القاهرة”. التقط كافة صور انهيارات التحضر العصري الأفيشات.. شرائط الكاسيت والفيديو، الأزياء، سلوك الجماهير الذي يعبر عن ثقافة أخرى تحمل كثير من الانحطاط والتردي، وقليلا من الأمل في النهوض.

كل ذلك لم ينجو من التوثيق والأرشيف العمومي، السينما، الفوتوغرافيا، مدونات الجدران التي صارت أدبا حقيقيا، الصحف، الروايات، الدراسات والبحوث.

***

ويردنا كل ذلك إلى خبرات وتجارب إبداعية لكتاب وشعراء هاجروا من الريف إلى المدينة. فمن اللافت أن عديدا من الكتاب آمن بتبني في الكتابة والإبداع الفني رؤية واحدة، وحس واحد، فيكتب الشاعر صلاح عبدالصبور في ديوان “الناس في بلادي”:

يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت، ولم ينر وجهي الصباح

وخرجت من جوف المدينة أطلب الرزق المتاح

وغمست في ماء القناعة خبز أيامي الكفاف

ورجعت بعد الظهر في جيبي قروش

فشربت شاياً في الطريق

حتى يصل إلى.. في غرفتي دلف المساء

***

ويصف هذا الحزن:

حزن تمدد في المدينة

كاللص في جوف السكينة

ويعبر أحمد عبدالمعطي حجازي عن علاقته بالمدينة في ديوانه “مدينة بلا قلب”، في قصيدة “رسالة إلى مدينة مجهولة”:

أبي

إليك حيث أنت

إليك في مدينة مجهولة السبيل

مجهولة العنوان والدليل

إليك في مدينة الموتى، إليك حيث أنت

أبي، وكان أن ذهبت دون أن أودعك

حملت لحظة الفراق كلها معك

أبي، وكان أن عبرت في الصبا البحور

رسوت في مدينة من الزجاج والحجر

الصيف فيها خالد، ما بعده فصول

بحثت فيها عن حديقة، فلم أجد لها أثر

وأهلها تحت اللهيب والغبار صامتون

ودائماً.. على سفر

فصلاح وحجازي لا يغدقان حنينا مفرطا وعاطفة رومانسية لقرية فارقت الذاكرة، ولم يبغضا مدينة ملهمة ضنت بثمارها من أحضان دافئة أو رغد وفير لمن لم يجف عرقه أبدا.

اقرأ أيضا:

«الميدان».. ساحة الإمكان

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.