«مرماح منشأة العماري».. 150 عامًا من الفروسية في مولد النبي بالأقصر

تتواصل فعاليات «مرماح الخيول» في احتفالات المولد النبوي الشريف بقرية منشأة العماري، التابعة لمركز الأقصر، حيث تبدأ الاحتفالات مع غرة شهر ربيع الأول وتستمر لمدة 12 يومًا متتالية، وصولًا إلى ليلة المولد النبوي الشريف، في تقليد شعبي متوارث أصبح من أبرز ملامح الحياة الثقافية والدينية في صعيد مصر.
أقدم مرماح في الأقصر
يُعد مرماح منشأة العماري أقدم وأكبر مرماح يقام في محافظة الأقصر. إذ تعود بداياته إلى ما يقرب من 150 عامًا، حين أطلقه كبار عائلة العماري، ليستمر منذ ذلك الحين دون انقطاع. ويصبح ملتقى سنويًا لعشرات الفرسان والخيالة من مختلف مراكز المحافظة. إلى جانب مشاركين من محافظات قنا وأسوان وسوهاج، وحتى بعض المراكز بمحافظات الوجه البحري.
ويتحول موقع المرماح، وهو ساحة واسعة على أطراف القرية، إلى ساحة كرنفالية تجمع بين أجواء الفروسية والطقوس الشعبية. حيث تنتشر حلقات المزمار البلدي والتحطيب، وتُقام المقاهي والخيام لاستقبال الضيوف، في صورة أشبه بالمهرجانات الشعبية الكبرى.
طقس عربي أصيل
يقول محمد عادل العماري، أحد الخيالة ومنظمي الاحتفالات، إن المرماح امتداد مباشر لإرث العرب في الجزيرة العربية. باعتباره ممارسة مرتبطة بالفروسية والمهارة في ركوب الخيل. ويوضح: “المرماح ليس سباقًا للخيل كما يتصور البعض. بل هو استعراض لمهارة الفارس في التحكم بالخيل، وقدرته على الكر والفر، والإمساك بالزانة التي تشبه الرمح. إنه فن مستمد من الحروب القديمة، يعكس روح الفروسية العربية”.
ويضيف أن المولد النبوي الشريف في منشأة العماري كان يحتفل به في الماضي ثلاثة أيام فقط. لكن مع مرور الزمن وتزايد أعداد المشاركين، امتد ليصل إلى 12 يومًا، تتخللها فقرات يومية من الفروسية والتحطيب والموسيقى الشعبية.
أقسام المرماح وفنونه
ينقسم المرماح – بحسب ما يشرح العماري – إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
1- الرماحة: استعراض مهارات الفارس في السيطرة على الخيل والكر والفر.
2- المشالاة والصابية: وتشبه التدريبات الحربية القديمة، حيث يظهر فيها الخيال قدرته على المناورة.
3- التقطيع: وهو القسم الأكثر ارتباطًا بالجانب الفني. إذ يستعرض فيه الفارس مهارته في “رقص الخيل” على إيقاعات المزمار البلدي، الذي يمثل رمزية طبول الحرب. ويثير حماسة الجمهور والخيول على حد سواء.
ويشير العماري إلى أن هذه الفنون لم تعد مجرد عروض للمتعة، بل تحولت إلى رمز للهوية والاعتزاز بالتراث. لافتًا إلى أن كثيرًا من الشباب يتوارثون مهارات الفروسية عن آبائهم وأجدادهم. ويتعلمون منذ سن صغيرة كيفية ركوب الخيل والتعامل معها.
المشاركة طقس سنوي
يقول عبد الله سلطان، أحد الخيالة المشاركين، إنه اعتاد منذ طفولته حضور المرماح سنويًا، معتبرًا أن المشاركة فيه جزء من الطقوس التي لا يمكن الاستغناء عنها. ويضيف: “المرماح بالنسبة لنا ليس مجرد عرض أو مهرجان. بل هو حالة روحانية وشعور بالانتماء. نحن نحتفل بالمولد بطريقتنا الخاصة، نكرم النبي ونحيي تراث أجدادنا”.
ويؤكد سلطان أن الخيالة ينتظرون هذه الأيام طوال العام. حيث يحرص كل منهم على تجهيز خيوله بأبهى صورة، وتدريبها على الحركات اللازمة قبل بدء المرماح.
جذور ثقافية وشعبية
أما محمد حشمت العماري، أحد المنظمين، فيوضح أن المرماح يعتبر من أقدم مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في الأقصر. بل ويُنظر إليه كأحد أعمدة الحياة الثقافية في منشأة العماري.
ويقول: “قد يتغير شكل الاحتفالات في أماكن أخرى. لكن هنا المرماح هو المركز الناس تأتي من كل مكان لتشاهد وتشارك. إنه احتفال جماعي يربط الناس بعضهم ببعض ويعزز التضامن الاجتماعي”.
ويضيف أن العائلات تتكفل بتنظيم الاستقبال والضيافة. حيث تقدم الأطعمة والمشروبات للزوار، ما يحول المرماح إلى مناسبة عائلية بامتياز، تتداخل فيها الروح الدينية بالبهجة الشعبية.
رؤية الباحثين
من جانبه، يشير محمد راشد، الباحث المتخصص في التراث الشعبي، إلى أن المرماح يمثل نموذجًا حيًا لما يسميه علماء الفولكلور “الاحتفالات المركبة “. إذ يجمع بين الطقس الديني (المولد النبوي) والفنون الشعبية (المزمار، التحطيب، رقص الخيل)، إلى جانب أبعاد اقتصادية واجتماعية.
ويضيف راشد: “المرماح ليس مجرد عرض ترفيهي، بل هو ذاكرة جمعية. حين يجتمع الناس في ساحة واحدة، فإنهم يعيدون إنتاج قيم مثل الشجاعة والكرم والوفاء. إنه خطاب رمزي متكامل، يُعيد للأذهان فكرة البطولة والفروسية التي ارتبطت تاريخيًا بالتصوف والاحتفاء بالرسول”.
ويشير راشد إلى أن استمرار المرماح منذ 150 عامًا دون انقطاع، يعكس قوة الثقافة الشعبية في الأقصر. وقدرتها على الحفاظ على طقوسها رغم التغيرات الاجتماعية والاقتصادية.
مشهد احتفالي متكامل
لا يقتصر المرماح على عروض الفروسية فقط، بل يشكل مركزًا لمظاهر أخرى مثل حلقات التحطيب، التي تجتذب جمهورًا واسعًا. حيث يستعرض الشباب مهاراتهم في المبارزة بالعصا على أنغام المزمار.
كما تنتشر الملاهي البسيطة للأطفال، وتُقام المقاهي الشعبية والخيام لبيع المأكولات والمشروبات. ما يجعل المكان ساحة احتفالية متكاملة. وتتحول القرية خلال هذه الأيام إلى مقصد للزوار من خارجها. الذين يأتون خصيصًا لمشاهدة العروض والاستمتاع بالأجواء.
تراث بحاجة إلى توثيق
رغم الأهمية الكبيرة للمرماح، يرى راشد أن هذا التراث بحاجة إلى مزيد من التوثيق والدراسة، حتى لا يظل مقصورًا على الذاكرة الشفاهية. إذ يمكن أن يصبح مادة غنية لمشروعات بحثية وأفلام وثائقية، تسلط الضوء على أبعاده المختلفة.
ويتابع: “إذا أردنا الحفاظ على هوية الصعيد الثقافية، فلا بد من الاهتمام بمثل هذه الطقوس. فالمرماح ليس مجرد ترفيه، بل هو سجل حي لتاريخ طويل من التقاليد العربية والإسلامية التي امتزجت بالبيئة المصرية”.
استمرار الحكاية
وهكذا، يظل مرماح منشاة العماري علامة بارزة في احتفالات المولد النبوي الشريف بالأقصر. يجمع بين الفروسية والروحانية والبهجة الشعبية، ويمثل صلة وصل بين الماضي والحاضر. ومع استمرار الأهالي في إحيائه عامًا بعد عام، يثبت المرماح أن الثقافة الشعبية قادرة على البقاء والتجدد.
اقرأ أيضا:
«أوكرا».. مطبخ إسنا التراثي الذي أعاد للذاكرة نكهة العدس والشلولو
محراث البقر الأخير في العوامية.. «أحمد النجار» يحمي ذاكرة الأرض أمام زحف الجرارات
نحاتان من الأقصر يؤسسان أول مدرسة ومعرض لإحياء فن النحت الفرعوني