«الأقصر».. الطريق إلى معبد المدينة
يمكنك الوصول إلى معبد الأقصر عبر أحد الطريقين، إما عن طريق النيل مثل ما كان يصل الإله آمون، أو عن طريق ممر الكباش الذي يربط المعبدين بعضهما البعض. صحيح أنهما معبدان إلا أنهما يمثلان جزءا واحدا لتاريخ واحد وعبادة واحدة، تدخل إلى معبد الأقصر عن طريق صرح ضخم شيده الملك رمسيس الثاني وخلد ذكره بستة تماثيل أمامه.
وبطبيعة الحال جسد كذلك النقوش التي تؤرخ لمعركته الشهيرة في قادش وهو ينتصر على الأعداء، ويفتخر بذلك عبر نقوش وكتابات دونها على جدران المعبد حيث كان يقاتلهم وحده. يتزين مدخل المعبد كذلك بوجود مسلة فريدة. والجدير بالذكر أن المدخل لم يكن يحتوي على مسلة واحدة بل اثنتين إلا أن الثانية تم نقلها إلى فرنسا سنة 1833 ميلاديا في عهد محمد علي باشا، وهي الآن تزين ساحة الكونكورد في باريس.
وتعبر المسلة في الديانة المصرية القديمة كدليل على ألوهية الشمس ومكان المعبد كرمز للتعبد. وخلف هذا الصرح يقع أحد أهم وأجمل النقوش في هذا المعبد الخالد. وهذا النقش عبارة عن ولادة وتتويج الملك رمسيس الثاني التي يجسدها أمام الآلهة لينال منهم البركة والتقديس، لا يكتمل مشهد مهم في تاريخ الملك كهذا بدون أن يحضر برفقة أولاده الذين يشاهدون عملية التتويج المميزة تلك.
***
يتكون المعبد من ساحات مفتوحة ومغلقة، تمثل العصر الذي أنشأت فيه، فالبهو المفتوح الذي أنشأه رمسيس الثاني بعد صرحه الأول يضم عددا من تماثيله ونقوشه الفريدة والمتنوعة. هذا البهو المفتوح من خلاله تستطيع أن ترى الامتزاج المبهر الذي ظفرت به الأقصر. حيث مسجد أبوالحجاج الأقصري الذي يظهر في الصور على أحد أعمدة معبد الأقصر الضخمة. أسفل منه تجد ثلاثة مقاصير رئيسية عملت عليها حتشبسوت واستكملها من بعدها تحتمس الثالث كذلك، تلمح من بعدها تمثالي رمسيس الثاني الأشهر على الإطلاق. حيث نقش عليهما لقب “شمس الحكام” كما أحب رمسيس الثاني أن يذكر دائما، ساحة مليئة بتاريخ متراكم.
مولد أبوالحجاج
يبدو مشهد مولد أبوالحجاج الأقصري مجسدا هنا على جدران المعبد بتمثيل من آمون نفسه، حيث زيارة موكب آمون للكرنك والبر الغربي في رحلة عيد الأوبت، التي تم رسمها بطريقة متقنة ودقيقة جدا على جدران المعبد الداخلية. فالمراكب التي يحملها أهالي الأقصر في احتفالهم بمولد أبو الحجاج الأقصري، تجسيد وانعكاس لتلك الصورة التي حفرها المصريون القدماء منذ فجر التاريخ، تستمر الطقوس حتى وقتنا هذا دون انقطاع.
تتجلى تلك الصورة على الموكب الخاص بمولد أبوالحجاج الأقصري. فالمولد لا يقام إلا بهذا الموكب الرئيسي، وهو عبارة عن قارب مغطى بكسوة خضراء كان يحمل قبل ذلك على جمل. أما الآن فيحمل على سيارة ثم يطاف به حول المدينة، لكن صورة هذا الموكب تكتمل بما يتبعه، حيث يتبعه ستة قوارب أخرى لأولياء دانوا بالولاء لسيدهم أبوالحجاج الأقصري. أما القارب الأهم فهو للعارف بالله عبدالرحيم القنائي، يشتابه هذا بالتأكيد مع ما تصم تصويره داخل المعبد وهي احتفالات عيد الأوبت المصري. حيث يحمل ثالوث طيبة “آمون وموت وابنهما خونسو”، داخل قارب نيلي من معبد الكرنك إلى معبد الأقصر.
لا يظهر قارب المصريين في تلك المناسبة وحسب، بل يمكنك أن تراه أيضا يتمثل على صورة جرافيتي الحج على البيوت القديمة في قرى الأقصر المتناثرة. ففي قرية أصفون جنوب المحافظة بالقرب من إسنا، تم رسمه على أحد البيوت القديمة كأنه أحد نماذج القوارب في مقابر المصريين القدماء في وادي الملوك والملكات. هذا الاتصال الحضاري مبهر لحد كبير، فالأقصر لا تنقطع عن ماضيها في كل جوانب الحياة.
صروح للذكرى
جرت كل تلك الحكايات على البر الشرقي للنيل حيث الحياة الحافلة بالأحداث اليومية. أما الناحية الغربية المقدسة عند المصريين القدماء، فتزخر بالعدد الكبير من المعابد والمقابر في الأقصر. واختار المصريون القدماء الغرب تحديدا لإقامة منشآتهم الجنائزية سواء كانت مقابر أو معابد جنائزية. لأنهم يؤمنون أن الحياة تنتهي عند غروب الشمس، لذلك كانوا يفضلون دائما أن يقيموا مقابرهم في الناحية الغربية.
وتقف المعابد التي أطلق عليها هذا اللفظ “المعابد الجنائزية” تخلد ذكرى أصحابها وسط هذا الوادي العظيم والمبارك من الآلهة المقدسة عند المصريين. وتختلط تلك المعابد بالأراضي الزراعية والحياة المعيشية للناس. فتعكس تاريخهم في صورة كاملة دون نقصان، وخلفها تسكن مقابر الملوك والملكات من قديم الأزل في مصر. بالإضافة إلى مقابر الأشراف التي تطل عليها من الجبل أيضا. كل هذا المزيج الآثر هو تاريخ مصر القديم باختصار.
وأنشئت تلك المعابد خصيصا لتقام فيها الطقوس والشعائر التي تفيد الملك المتوفى بالقرب منها، وتقديم القرابين في الأعياد والمناسبات المختلفة. وأشهر تلك المعابد بالتأكيد هو معبد الملكة حتشبسوت أو كما هو مشهور بالدير البحري الذي يقع في حضن الجبل كأنه جزء منه، عملت عليه الملكة حتشبسوت تخليدا لتاريخها المثير في الحكم. وانفرد هذا المعبد دون غيره بتصميمه المعماري المميز حيث يتكون من ثلاثة مسطحات بشكل مستطيل. ينفصل كل مسطح عن الآخر بطريق صاعد يهيئك لقدس الأقداس أعلى نقطة في المعبد.
***
هذا المعبد يحفل بالعديد من النقوش والمناظر الهامة والفريدة في تاريخ العمارة المصرية. فعلى المستوى الأول من المعبد يقع منظر نقل المسلات من أسوان إلى الأقصر مقر عبادة الإله آمون. وتؤرخ تلك اللوحة الفنية عالية المستوى على نموذج هام من نماذج العمارة المصرية. وهي المسلات التي كانت تستخرج من جبال أسوان لكي يتم وضعها في المعابد. ومسلة حتشبسوت الناقصة في أسوان هي مثال على تلك المسلات التي تم نقلها عبر النيل إلى الأقصر.
يتم تصوير تلك العملية المعقدة باحترافية بالغة وبدقة منقطعة النظير، عبر عشر مراكب نيلية تصور كيف كان ينقل المصريون المسلات التي عبرت. كونها رمزا للثبات والوجود وتحديد أماكن التعبد في المعبد. لكن يبقى المنظر الأهم في هذا المعبد هو الولادة الإلهية للملكة حتشبسوت. حيث أرادت الملكة حتشبسوت أن تقنن طريقة وصولها للملك خاصة أنها امرأة فعملت على نسج تلك الأسطورة لكي يبقى وصولها إلى الملك شرعي. حيث كانت حتشبسوت زوجة الملك تحتمس الثاني، وبعدما مات تولى تحتمس الثالث الصبي الملك من بعده وكانت زوجة أبيه حتشبسوت وصيته على العشر، فانفردت بالملك عنه. وملخص تلك الأسطورة التي جسدت على جدران المعبد أن الإله آمون تزوج أحمس والدة حتشبسوت.
***
ثم ولدت فتاة والتي شكلها الإله خنوم إله الخلق عند المصريين القدماء. ثم تم تقديمها للأرباب والحتحورات السبعة حيث بوركت وأصبحت وصية العرش عن آمون. وبالمعبد العديد من المقاصير، أهمها مقصورة أنوبيس بألوانها الزاهية الفريدة. حيث تم تصوير الإله أنوبيس في صورة حسنة جميلة بلونه الأبيض المميز.
ارتبط ذكر حتشبسوت في التاريخ القديم بأهم وأشهر رحلة قام بها المصريون القدماء. وهي رحلة بونت، أهمية تلك الرحلة بالتأكيد انعكست على جدران المعبد كذلك. حيث تم تصوير الرحلة بتفاصيلها عبر البحر الأحمر إلى بونت، والغنائم والبضائع الكثيرة التي تم جلبها من تلك البلدان البعيدة. خاصة البخور التي جيء به خصيصا لكي يتم تقديمه إلى الإله آمون. الذي كان مقره قدس الأقداس في هذا الصرح العظيم. تصعد أخيرا إلى الصرح الثالث والأخير في المعبد الذي يستقبلك بتماثيل حتشبسوت المميزة بوضعيتها الأوزيرية، التي تزين صف الأعمدة في هذا الصرح. ثم إلى قدس الأقداس الذي التفت حوله المقاصير من الناحية الجنوبية والشمالية. وتلك المقاصير أعدت لآمون ورع، ورسمت عليها نقوش لتحتمس الثاني والثالث الأب والابن. ثم مقصورة حتحور التي تقف في غاية الجمال بالأعمدة الحتحورية الفريدة. بقي المعبد خالدا يؤرخ لفترة هامة وحيوية في تاريخ مصر القديمة، تاريخ طويل وثري سياسيا واجتماعيا ودينيا كذلك.
اقرأ أيضا:
