«مدن وخلفاء».. عن نشأة المدن التي حكمها العرب في صدر الإسلام

لسنوات عديدة ظل يتردد كثيرًا لفظ «المدينة الإسلامية»، إلا أننا لازلنا حتى اليوم لم نعثر على أي مدينة يمكن أن ننعتها باسم “إسلامية” فرغم أنه مصطلح أطلقه المستشرقون منذ منتصف القرن الـ19 وبداية القرن الـ20، إلا أنهم سرعان ما تخلوا عنه لأنهم أدركوا أنه غير دقيق، لكنه في المقابل، لاقى قبولًا واسعًا ووجد المناخ المناسب لانتشاره بصورة كبيرة من جانب البعض وأصبح له الكثير من المروجين والمدافعين عنه، خاصة في السنوات الأخيرة، لذلك حاول الدكتور نزار الصياد، أستاذ العمارة والتخطيط وتاريخ العمران في جامعة كاليفورنيا، تأصيل المسألة، وبدأ يتتبع تطور ونشأة المدن في العالم العربي والإسلامي حتى قدم لنا في النهاية العديد من التصورات حول هذه المدن التي أنشأت في صدر الإسلام.

المدينة الإسلامية

أقيمت بجاليري ضيّ بالمهندسين – الأسبوع الماضي- مناقشة كتاب “مدن وخلفاء” والصادر عن دار نشر مرايا، للدكتور نزار الصياد، والذي قال: “إن الاهتمام بفكرة “المدينة الإسلامية” ظهر خلال سبعينيات وثمانينات القرن الماضي، فحينها كان هناك اهتمامًا كبيرًا بالأمر لكني عندما بدأت دراسة الأمر وجدت أن لفظ “المدينة الإسلامية” لم يكن مستعملًا أبدًا من جانب العرب واللفظ لم يظهر في اللغة العربية حتى نصف القرن العشرين، وظهر في اللغات الألمانية، والفرنسية، والإنجليزية بحلول منتصف القرن الـ19 وبداية القرن الـ20، فما حدث هو أن كثير من المستشرقين حين جاءوا لهذه المناطق، بدأوا البحث فيها، ومن دراستهم للمناطق المختلفة في البلاد التي حكمها المسلمون بدأوا يشعروا أن هناك مدينة مختلفة لكن تفسيرهم هذا كان أرجع المدينة للدين”.

وتابع: رغم أن هذه المدينة كانت مكونة من عوامل كثيرة جدًا؛ لذلك حين بدأت أبحث عن هذا الأمر، وجدت أن هناك نمطًا معينًا لتلك المدن، وهذا النمط هو الذي جعلني أحدد شكل تلك المدن، ووصلت إلى أن هناك ثلاثة أشكال للمدن في بداية دخول الإسلام وهي؛ مدن بناها العرب كمعسكرات في بداية دخول الإسلام، ومدن أخرى استولى عليها العرب، ومدن أخرى بناها من خلفوا العرب من العجم كقصور، والتي مع الوقت أصبحت مدن مهمة وعواصم.

لذلك يؤكد على رفضه مصطلح المدينة الإسلامية أو العمارة الإسلامية، ويطرح تساؤلًا ويقول: “لماذا لم نتحدث مثلًا عن المدينة البوذية أو المدينة المسيحية؟”، فهو يرجع الأمر إلى أن هناك بعض العناصر التي نشأت في مناطق معينة خلقت تجانس، استساغها الناس داخل هذه المنطقة وبدأوا ينظروا إليها باعتبارها تعبر عنهم وعن هويتهم، لذلك فهو يرفض المصطلح ويطلق مصطلح آخر وهو “المدن التي يقطنها المسلمون” أو “المدن التي خلقها مسلمون”.

تعلم اللاتينية

يوضح الصياد، رغم أن الكتاب صدر منذ حوالي ثلاثين عامًا، إلا أنه كان مختلفًا عن جميع الكتب التي صدرت خلال تلك الفترة في شيئين رئيسيين، منها أن الكثير من القصص التي صادفتها أثناء إعدادي للكتاب كانت مختلفة، بل وتوصل لخلاصة مختلفة تمامًا؛ لذلك حاولت أن استخدم معظم هذه القصص، لكني اعتمدت أكثر على القصص التي تتوافق بين وجهات النظر المختلفة لكن بدون إسناد؛ بمعنى أن هناك شخصين كتبوا عن واقعة واحدة، ولكن لكل منهم استدلال مختلف عن الآخر.

ويشير إلى أن الأمر الثاني الذي قمت به هو أنني حين بدأت أدرس تلك المدن في بداية صدر الإسلام جاءني أستاذي وطلب مني الاعتماد على مصادر أخرى بجانب المصادر العربية، لذلك طلب مني أن أتعلم اللاتينية، وكان الهدف حينها أنني إذا ما واجهت واقعة معينة فحينها أقوم بفحصها من جانب المصادر العربية التي وصفها العرب في ذلك الوقت، وبين السكان الأصليين الذين عايشوا تلك الفترة؛ فمثلًا سكان دمشق عندما دخلها العرب كانوا تحت الحكم البيزنطي وبالتالي كانوا لا يتحدثون العربية واللغة الأساسية كانت اللاتينية، وبالتالي تعلمتها حتى أعرف ما كتب عنها من جانب السكان الأصليين الذين عاشوا فيها.

يضيف، كتاب مدن وخلفاء يتعامل مع 12 مدينة منهم 6 مدن أساسية مثل، البصرة والكوفة، والذين نشأوا في البداية  كمعسكرات، أما دمشق وحلب فقد ظهروا كأمثلة للمدن المحتلة، أما القاهرة وبغداد فقد ظهروا كأمثلة للمدن التي لم تنشأ في البداية كمدن، لكنهم مع الوقت تحولوا لعواصم للخلافة، وهنا يجب أن نفرق بين أمرين فالعرب استخدموا تعبيريين؛ “دار هجرة” والثاني هو “الأمصار”، فكلمة أمصار اشتقها العرب من كلمة مصر، لأن الجزيرة العربية كانت تخلوا من مدن أو قرى كبيرة الحجم، لذلك فستجد في المراجع أن الكوفة والبصرة والفسطاط، كانوا في الحقيقة دار هجرة؛ أي مكان قرر الخليفة أن يهاجر إليه سكان الجزيرة العربية، كنوع من أسلمة تلك البقاع، وهذا حدث تحديدًا في البصرة والكوفة بالعراق، إذ كان هناك نموذج مثالي للمدن اعتبره هؤلاء القادة والذين أصبحوا ولاة بعد ذلك للمدن، إذ كان الشكل النمطي للمدن هو المدينة المنورة، ومع الوقت أصبح هناك اختلاف، وحدثت مواجهة مع شعوب أخرى لها اهتمامات مختلفة وطريقة تفكير أيضًا مختلفة، لذلك تعامل عمر بن الخطاب بمنتهى الحذر إذ فرض قيود لعدم تغيير الشكل النمطي للمدن في ذلك الوقت.

ومن الأمثلة على ذلك أن الخليفة عمر بن الخطاب كان قد رفض أن يبني سعد بن أبي وقاص دار للإمارة، فسعد فعل ذلك لأنه رأى أن ديوان كسرى بالمدائن والذي يقع بالقرب من دمشق هو من أعظم مباني الدولة الساسنية التي احتلها العرب، لذلك فهو أراد مضاهاة تلك الأبنية التي كان لا يزال يعيش في أجوائها، لذلك أراد مضاهاتها وبدأ ببناء دار الإمارة بالحجر، لكن الناس وصفوه بأنه “قصر سعد” فبلغ لعمر هذا الموضوع، وأرسل له وأمره أن يغلقه، فعمر في ذلك الوقت كان يعارض فكرة بناء القصور أو ما شابه ذلك لكن بعد ذلك تغيرت دمشق عن هذه الصورة التي فرضها عمر، في أقل من 50 سنة.

فالوضع تغير في عهد عثمان بن عفان، والذي أعطى للولاة جزء من الحرية وفقًا لرؤيتهم وأصبحت إرادة الولاة أهم في تشكيل هذه المدن، لذلك فهذه المدن يمكن أن نقول أنها مدن عربت ولم يكن الهدف أن تكون إسلامية، والتغيير الذي حدث يوضح أن هناك تغيير في النزعة القبلية، مقابل النزعة العربية التي وجدت بعد ذلك.

المدينة المثالية

خلال الندوة التي أدارها الشاعر محمد حربي قدم طرحًا وعرضه على “الصياد” لإبداء رأيه فيه؛ حول فكرة المدينة المثالية “رمز الله على الأرض” كما رآها المستشرقون في بغداد والتي يمكن اعتبارها رمزًا لصراع “الدائرة والمربع” في الثقافة العربية، والتي تتمثل حركة الطواف حول الكعبة باعتبار أن حركة الطواف تمثل حركة الكائنات في الكون، والتي ذكرتها إحدى الدراسات المهمة التي تحدثت عن رمزية الطواف، وبين المربع الذي هو أساس المدينة الأوربية.. وتساءل حربي هل هذا الصراع يمثل حقيقة بناية بغداد والتي بنيت بشكل دائري في البداية؟

الدكتور نزار الصياد قال إن هذه الطرح كان في الأصل فكرة استشراقية، فالمستشرقون حاولوا تفسير الإسلام بطرق رمزية، ففكرة الطواف حول الكعبة، هو فعل يقوم به المسلمون كطقس من طقوسهم، لكن ترجمة الأمر من خلال مجموعة من الجماعات كشكل عمراني هو أمر غير مقنن، فلا يوجد في الإسلام ما يستدعى ذلك، لكن قد يكون الشيء الوحيد الذي يمكن أن أتقبله عمرانيًا، ويمثل هذه الفكرة هو مركزية الجامع أو المسجد، فالمسجد أمر مهم جدا في الإسلام لذلك يمكن أن نتقبل الأمر، لكن هنا يجب أن نلاحظ أن لغة العمارة بالنسبة إليّ ليس لها علاقة بالإسلام كدين بقدر ما لها علاقة بثقافة الشعوب المختلفة؛ فالإسلام دخل جنوب شرق آسيا في القرن الـ13، لكن إلى منتصف القرن الـ20 لم تكن المساجد هناك تضم قباب أو مآذن، فثقافة البناء في هذه المنطقة لم تكن تستدعي بناء المئذنة والقبة عند إنشاء المساجد، لكن مع توفر وسائل الاتصال والحداثة، جعل الأمر يتغير وبدأت الدول في إنشاء قباب ومآذن في مدنهم.

عمارة المماليك

يتحدث الصياد عن العمارة المملوكية بانبهار شديد، إذ يعتبر تلك الفترة أن العمارة قد وصلت لمستوى لم تصل إليه من قبل، فهو يرى أنه أمر غريب أن يصبح عبيد حكام، لكنه يقدم عظا تفسيرات لهذا الأمر؛ إذ إنهم أعدوا كي يصبحوا محاربين، ومع انتهاء حكم شجر الدر، وصل هؤلاء المماليك إلى الحكم واستطاعوا أن يخلقوا نظامًا عسكريًا جديدًا ورغم أنهم مماليك وعبيد، إلا أنه كان يحق لهم أن يمتلكوا عبيدًا، فمن كان يمتلك أكبر عدد من المماليك هو من يستطع الوصول إلى الحكم في نهاية الأمر، ففترة حكم المماليك؛ سواء المماليك البحرية أو البرجية، أولوا اهتمامًا كبيرًا بالعمران بل وأدركوا أهمية العمارة، إذ أرادوا ترك بصماتهم، لذلك فالعمارة الإسلامية في مصر وصلت لأزهى عصورها في عهدهم، وذلك لأنهم استطاعوا استقدام أعظام البناء من كل المناطق التي سيطروا عليها، بالإضافة إلى أنهم كان عندهم تذوق في الاختيارات، واستطاعوا أن يصلوا لمستوى جمالي لم يستطع أحد الوصول إليه ولا حتى العمارة العثمانية.

عمارة العشوائيات

تطرق الصياد لجزئية أخيرة في حديثه تخص القاهرة علاقة القاهرة بالمدن الجديدة التي أنشأت في الماضي القريب، إذ أنه كتب عن الأمر في ثمانينيات القرن الماضي، وحينها كان هناك تناقض في المشروعات، أدى لاعتراضه على بناء مدن تبعد عن القاهرة بحوالي 10 كيلو مترات فقط كالسادس من أكتوبر، وفي نفس الوقت بدأت الدولة حينها في بناء مدينة العاشر من رمضان والعامرية والسادات، بمسافة تبعد عن القاهرة بحوالي 105 كيلو مترات كي يخف الضغط عن القاهرة، وبالتالي فالذي حدث هو أن العاشر من رمضان كان متخيل لها أن تصل سنة 2020 لـ4 ملايين نسمة والسادات 3.5 مليون نسمة، لكن الذي حدث هو أن كلا المدينتين اليوم لا يتعدى عدد سكانهم النصف مليون نسمة فقد زادت القاهرة تمركزًا بناء وزادت مشاكل القاهرة أكثر، “فأنا لست ضد بناء مدن جديدة بالطبع ولكني أعترض على تعارض الخطط الأفكار، لأن الأمر أدى في النهاية إلى نمو العشوائيات بصورة كبيرة داخل القاهرة نفسها، لذلك إذا أردت أن تعرف عما يعبر عن العمارة الموجودة في هذا الوقت بشكل نظري؛ فهي عمارة العشوائيات، إذ إن 65% من المحيط العمراني بالقاهرة الآن هو العشوائيات، لكني لا أنظر للعشوائيات بنفس النظرة السيئة التي ينظر إليها البعض، لأن من واقع دراستي فما نطلق عليه اليوم اسم vernacular architecture كانت في الأصل عشوائيات ومع الوقت تطورت إلى أن أصبحت لها جماليات معينة، لكن السؤال هل سيحدث الأمر نفسه بالنسبة للعشوائيات الموجودة في مصر؟ الإجابة من وجهة نظري لا”.

أما المهندس عصام الشربيني، مترجم الكتاب، تحدث عن أن “مدن وخلفاء” لازال محتفظ ببريقه رغم أنه كتب منذ ثلاثين عامًا، وقال: عند ترجمتي لهذا العمل أردت أن احترم القارئ الذي يقرأه، فحاولت أن أصل إليه الفكرة التي يحويها الكتاب بكل بساطة، كي يستوعبه الكثيرون.

اقرأ أيضا

خبراء الآثار يجيبون: هل نودع قناطر ابن طولون؟

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر