مدد: السيدة نفيسة

“إلهي وسيدي ومولاي؛ متعني برضاك عني، فلا سبب لي يحجبك عني” هكذا كانت كلماتها أثناء طوافها حول الكعبة المشرفة موجهة إلى الله، فهي حالها حال آل البيت جمعيًا، كانت تقية صالحة، تسعف الملهوفين وتواسي البائسين، وبمالها الكثير تفرج به عن المحتاجين، إنها السيدة نفيسة ، رضي الله عنها.
عرفت السيدة نفسية بعدد من الألقاب، كنفيسة الدارين لعوارفها وصنائعها وشفاعتها يوم القيامة، ونفيسة العلم لما استنبطته من العلم واستجلته من غوامضه، وما نثرته على طالب الاستفادة منه، ونفيسة الطاهرة، لطهارتها وعبادتها، وهي نفيسة العابد لعبادتها وتقواها، وهي نفيسة المصريين لحب أهل مصر لها.

السيدة نفيسةسيرتها

اتفق المؤرخون وكتاب السيرة على أن السيدة نفيسة هي ابنة السيد حسن الأنوار بن السيد زيد الأيلج بن السيد أبي محمد الحسن السبط ابن الإمام على وابن السيدة فاطمة الزهراء بنت رسولنا الكريم.
وقد قال علي باشا مبارك في خطبته على لسان المؤرخ تقي الدين المقريزي: إنها نفيسة ابنة الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وأمها أم ولد، وتزوجها إسحاق بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن زين العابدين، فولدت له ولدين هما القاسم وأم كلثوم.
ولدت السيدة نفيسة بمكة المكرمة في شهر ربيع الأول عام 145 هجريا، وكانت خيرًا على والدها السيد حسن الأنوار، إذ اختاره أبو جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين، أميرًا ووليًا على المدينة المنورة، فذهبت مع والدها وهي عمرها 5 سنوات، فحفظت القرآن الكريم وأجادت تفسيره وتفقهت في دين الله، فأحبها أهل المدينة لما اشتهرت به من التقوى والزهد والصلاح، كما كانت كثيرًا ما تلازم قبر جدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
جاءت السيدة نفيسة إلى مصر بصحبة زوجها إسحاق المؤتمن، وقد عاش بعد رحيل زوجته لسنوات طويلة ودفن بعدها في مصر أيضًا، وذلك قبل قدوم الإمام الشافعي إلى مصر بـ5 سنوات، وعاشت السيدة نفيسة على أرضها خلال ولاية الحسن بن البحباح وإلى مصر من قبل الرشيد.
وفي العريش استقبلها الناس استقبالا حافلًا حين علموا بقدومها من بلد الرسول صلى الله عليه وسلم، وظلت على هذه الحفاوة حتى وصلت مدينة القاهرة، وأقامت في بيت كبير التجار آنذاك “جمال الدين عبدالله الجصاص”، وكان كذلك من التقوى والصلاح.

السيدة نفيسةإقامة السيدة نفيسة بمصر

انتقلت السيدة نفيسة بعد ذلك لتقيم في بيت أم هاني، إحدى السيدات العابدات في مصر، وأخيرًا انتقلت للإقامة في دار وهبها لها والي مصر “السري بن الحكم” في خلافة المأمون العباسي.
قال السخاوي، في كتابه “المزارات”، إن السيدة نفيسة أقامت في مصر 7 سنوات، ومرضت فكتبت إلى زوجها إسحاق المؤتمن كتابًا، وحفرت قبرها في بيتها، وهو الذي منحه له السري بن الحكم بدرب السباع بعد أن ضاق الدار التي كانت تعيش به، لتكاثر الناس عليه بعد أن كثرت كرامات السيدة نفيسة.
وعن ذلك يقول العلامة الأجهوري: إن السيدة نفيسة حفرت قبرها بيدها الشريفة؛ أي أنها أمرت ببنائه حال صحتها لشدة شوقها للقاء، وعدم رغبتها في الدنيا الفانية.
أراد زوجها بعد موتها أن يحملها إلى المدينة المنورة، لكي يدفنها هناك، فاجتمع أهل مصر إلى الوالي واستجاروا به وجمعوا له أموالا وفيرة، وسألوه عن دفنها في مصر فاستجاب لرغبتهم. فقال رأيت رسول الله في المنام وهو يقول لي: رد عليهم أموالهم وأدفنها في ديارهم.

صفاتها وعلمها

تميزت السيدة نفيسة رضى الله عنها كما تميز غيرها من آل البيت بالتفاني في عبادة الله والخوف من عذابه، وكانت كثيرة الترحال؛ فسافرت إلى بلاد الشام عندما بلغ عمرها ثمانية وأربعين عامًا، وهناك زارت قبر خليل الرحمن إبراهيم، عليه السلام، ثم جاءت إلى مصر واستقرت بها.
عرفت السيدة نفسية بالزهد والتقشف، فمثلًا كانت تميل إلى الأكل القليل، فقد رؤى أنها كانت تأكل كل ثلاثة أيام مرة، وكانت لها سلة معلقة أمام مصلاها كلما اشتهت شيًئا وجدته في هذه السلة، كما كانت في الوقت نفسه زوجة مخلصة لم يشغلها أي أمر عن مسؤوليتها كزوجة، وقد أخذ زوجها المؤتمن يفاخر بها، ويذكر الناس حوله بأنه وجد فيها نعمة الله عليه.

أعمال السيدة نفيسة

حفظت القرآن الكريم وهي في سن الخامسة من عمرها وأجادت تفسيره، حفرت قبرها بيدها، وكانت تنزل فيه وتصلي كثيرًا.
وقيل إنه لما ظلم أحمد بن طولون، استغاث الناس من ظلمه، وتوجهوا إلى السيدة نفيسة يشكونه إليها، فقالت لهم: متى يركب؟ قالوا: في غدٍ، فكتبت رقعة: ووقفت بها في طريقه وقالت: يا أحمد بن طولون، فلما رآها عرفها فترجل عن فرسه، وأخذ منها الرقعة وقرأها فإذا فيها: “ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخولتم ففسقتم، وردت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نفاذة غير مخطئة لا سيّما من قلوب أوجعتموها، وأكباد جوعتموها، وأجساد عريتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنَّا إلى الله متظلمون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون”. يقول القرماني: فعدل من بعدها ابن طولون لوقته ويبقى الظالم، فرفع المظالم عن الناس.
أحد الأمراء قبض أعوانه على رجل من العامة ليعذبوه فبينما هو سائر معهم، مرّ بدار السيدة نفيسة فصاح مستجيرًا بها، فدعت له بالخلاص قائلة: “حجب الله عنك أبصار الظالمين”، ولما وصل الأعوان بالرجل بين يدي الأمير، قالوا له: إنه مرّ بالسيدة نفيسة فاستجار بها وسألها الدعاء فدعت له بخلاصه، فقال الأمير: “أو بلغ من ظلمي هذا يارب، إني تائب إليك وأستغفرك؛ وصرف الأمير الرجل، ثم جمع ماله وتصدق ببعضه على الفقراء والمساكين”.

الإمام الشافعي

من المحطات الهامة في حياة السيدة نفسية، إنه كان يزورها كثير من العلماء والصالحين وعلى رأسهم الإمام الشافعي، وقد سمع منه الحديث، وصلى بها التراويح في شهر رمضان، وكان ما إذا مرض ولم يستطع زيارتها أرسل لها رسولًا يبلغها تحياته، ويسألها الدعاء له بالشفاء.
وأوصى الشافعي أن تصلي عليه السيدة نفيسة في جنازته، فمرت الجنازة إلى دارها فصلت عليه مأمومة بالإمام يعقوب البويطي، حين وفاته عام 204 هجرية تنفيذًا لوصيته.

أقوالها

من الكلمات المأثورة للسيدة نفيسة عندما شكا لها البعض تعسف الولاة “كيفما تكونوا يولى عليكم”؛ أي أصلحوا ذات بينكم يصلح الله لكم ملوككم لقد فهمت جيدا ما رمى إليه الحديث القدسي “قلوب الملوك بيدي، أقلبها كيف أشاء، فأصلحوا ذات بينكم، أصلح لكم ملوككم”.

ضريح السيدة نفيسة

حدد السخاوي في كتابه “المزارات” مكان قبر السيدة نفيسة، وهو في الدار التي عاشت فيها في درب السباع، وفي هذا الشأن قال “مشهد السيدة نفيسة معروف بالقرافة المراغة، والقبر طويل قبلي الشارع المعروف بالزرايب وشرقي الشارع الموصل بالسيدة جوهر على يسار من يقصد المشهد النفيسي من الجهة البحرية تجاه سقاية الماء المنتهية بحوش الشيمي”.
على باب الضريح لوحة رخامية مكتوب عليها “نصر من الله وفتح قريب، أمر بإنشاء هذا المشهد النفيسي الشريف مولانا أمير المؤمنين، في ربيع الآخر عام 482 هجريًا، كما غطى المحراب بالرخام”.
السيدة نفيسة

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر