محمد الغيطاني يكتب: يعيش جمال «الغيطاني» حتى في موته

التاسع من مايو، يوم ميلاد «جيمي»… ثمانون عامًا على ميلاد الشاب صاحب الألف عام. وكأنه أبى أن يأتي إلى الدنيا في تاريخ عادي، فتزامن تاريخ ميلاده مع لحظة انتهاء الحرب العالمية الثانية، ليظل علامة حاضرة كاشفة عن ميلاد ذلك الشاب غير العادي.
قطعا، كل أب هو استثنائي في أعين امتداده من الأبناء، لكن الغيطاني.. جيمي، كان استثناء الاستثناء. مشاعر متضاربة انتابتني قبل كتابة هذه السطور: من ناحية، شعور عميق بالرغبة في استحضار السيرة، ربما تتاح لي فرصة لقائه في الخيال.. ومن جانب آخر، خوف من شعور الفقد غير القابل للجبر، فقد مضت عشر سنوات منذ الاحتفال بعيد ميلاده السبعين في بيت السحيمي.
***
ربما لا أجد وصفا أدق لجيمي من “الشاب الذي عاش ألف عام”، وهو اقتباس محمود من أوائل أعماله. ذلك كان دائما انطباعي عنه: كيف استطاع سبر أغوار كل تلك المعارف في تلك السنوات المحدودة؟ فنان تصميم السجاد في الجمعية التعاونية بخان الخليلي.. الصعيدي المتباه بصعيديته، جذورنا التي صرنا نأنس بها أنا وشقيقتي.
كان جيمي بالنسبة لنا بمثابة “محرك البحث جوجل” -بمقاييس اليوم- أطرح أي سؤال، ستجد الإجابة موثقة، حانية، دالة. وهي قدرة نتاج التزام صارم بالتحصيل المعرفي على مدار اليوم.
كان يومه يبدأ في تمام الخامسة صباحا: صوت القرآن، يعقبه الأخبار من مذياعه الصغير، ثم بداية الحركة والرحلة. مطالعة الصحف، صوت القهوة وإعداد الإفطار. كنت استمتع بمنازعته على الصحف، لأظفر بها أولا. مشوار الصباح معا في السيارة، يوصلني حيث أعمل على كورنيش النيل، ثم يمضي إلي مكتبه في جريدة الأخبار. وفي المساء، كنت أنتظر العودة للمنزل لسماع حكايات ومغامرات الشاب صاحب الألف عام.
كانت لديه قدرة غريبة على الالتزام شديد الانضباط، وهي سمته، بما يطلق عليه “قوة الاعتياد”. وجد في الدأب والالتزام حلا لمعضلة توازن بين عالميين: أحدهما مصدر الرزق من عمله في الصحافة، والثاني حيث يتحقق ويجد نفسه في الأدب. والغريب أن الأديب عادة ما يصور كأسير لإبداعه، تابعٍ لمحفزات إلهام، لكن الأمر مع جيمي انعكس، فروض إبداعه لقوة اعتياده. لم يملك رفاهية إهدار الوقت، فقد عاش دوما في صراع معه.
علاقة الغيطاني بالزمن مزيجا من احترام قوة الدهر وسلطانه، والرغبة في هزيمة النسيان الناتج عن مروره في آن واحد. كان يطرح دوما استفسارا قد يبدو بديهيا في ظاهره، ولكنه شديد العمق في مضمونه، مثل تساؤلات الأطفال: “أين ذهب الأمس؟“. من خلال هذا السؤال، تشكلت رحلته في عالم الأدب، حيث أصبح الإبداع وسيلته لقهر الموت وأثره الأعظم: النسيان والفناء، ذات التخوف الذي دفع بالمصري القديم إلى الإبداع.
***
لقد ظل الزمن، والصراع مع تداعياته، عنصرا طاغيا على جيمي، فهو في حالة سبق دائم معه. الوقت، عنده، إما أن يتحول إلى معارف مكتسبة، مقروءة كانت أو مسموعة، أو إلى إبداع.
خياله لم يكن له حدود. لا زلت أذكر رحلة توصيله لي وشقيقتي من منزلنا في حي المعادي إلى مدرستنا. لم تكن حكاياته تقليدية، بل سردا لتاريخ مصر، وتعلقه الخاص بتاريخ مصر، وملوك مصر القديمة خاصة من خاضوا حروب التحرير ضد الهكسوس، وعلى رأسهم “سقنن رع”، الذي استشهد متأثرا بجراحه، ولا تزال مومياؤه تحمل آثار ضربات قاتلة في رأسه، وعن أحمس، وتحتمس الثالث الذي عبر سيناء 17 مرة على قدميه. وحين كان يروي التاريخ، كان الشعور وكأنه أحد صانعيه، لا مجرد راو له.
ولعل من المثير استرجاع حبه وربطه للعلوم الطبيعية بهواه الأدبي. وجد ضالته في علوم الفيزياء الكمية الحديثة التي امتلك مكتبة كاملة منها، في إطار سعيه للإجابة على سؤال الزمن. ربط الزمن بالفلك، فكان خبيرا بمواقع النجوم، ومظاهر تجلي الخالق وقدرته سبحانه في علم الفلك، حيث يسود اللامحدود، ويتضاءل الإنسان أمام سلطان الطبيعة.

***
كان جيمي دوما في مكان خبير الحياة وأمورها الأعظم، تطرح أي سؤال تأتيك الإجابة بوضوح وحكمة وعدم مواربة. كرامته وطهارة يده ظلتا درة تاجه، عبرهما استند إلى ندية مع العالم، وأورثنا إياهما شقيقتي وأنا، فصار الحفاظ على اسمه وإعلاؤه هدفا لنا، ودليلا لنا في حياتنا.
أحيانا كثيرة، ينتابني شعور بالضيق والغضب، لو جيمي كان بس هنا… لكانت إجابته دليلا في الحياة، وحسمه قاطعا لما التبس من أمر. كيف كانت الحياة لتبدو في حضوره؟ انتصاراتي الصغيرة التي كنت أود أن أشاركه بها، أن أسعده باجتهادي في الحياة. كيف تراجع تمردي على ما أحبه من بعض أنواع الفنون لصالح رغبتي في اقتفاء أثره. فصرت أحب صباح فخري، والموسيقى الأندلسية، والسيرة الهلالية، وأسعى لسبر أغوار الصوفية، واستجلاء دروبها.
هل هو إدراك متأخر يستحق الندم، أم هي سنة الحياة ودورتها؟ فننتهي، في موضع ما، إلى ما آل إليه آباؤنا؟
لا زلت أذكر سبر جيمي لأغوار الصوفية، وتعلقه بالإمام الأكبر محيي الدين بن عربي، الذي وجد في رحابة الحب الإلهي ما أرشده في بحثه عن إجابات لمعضلة الزمن والخلود. كان يحب الموسيقى ويتذوقها بخبرة، ويعرف صنوفها من كل ركن من أركان الكوكب.
***
تمضي الحياة وأجدني قد صرت مقتفيا أثره في مرجعيات الحياة: لا مساومة في الكرامة، لا تمييع للحق، ولا خشية لنصرته، ولا مهادنة عندما يتعلق الأمر بمصر ومصالحها، وجيش مصر.
ولعل علاقته بالجيش المصري أمر صار معروفا وجليا. غريب أمر ذلك القدر، فبداية جيمي جاءت في رحاب جيش مصر، وتحديدا في حرب الاستنزاف، وامتدت حين انتفض مقاتلا مدافعا عن جيش مصر من تطاول الجهل والتآمر عقب 2011، وصولا للحظة الرحيل أيضا في رحابه، وكانت كلمته موجزة: “يبني دمنا كاكي”. علاقة ميزت جيمي، فالجيش كان في قلبه ودمه. كانت حكاياته لنا، ونحن صغار في الطريق إلى المدرسة، لم تكن “الشاطر حسن”، بل “الرفاعي”، وبطولات إبراهيم عبدالتواب، وعصام الدالي.
رفاقه الأقرب من أبطال أكتوبر: عبدالعاطي، الذي أذكره طفلا في بيتنا، وأعمامي: معتز الشرقاوي، محيي نوح، محمد زكي عكاشة، الفاتح كريم، عبدالمنعم واصل، عبدالمنعم خليل، الفريق محمد فوزي – مع حفظ الألقاب. أسماء كتبت تاريخ مصر، عرفناهم من خلال جيمي أطفالا: عبدالمنعم قناوي، وأحمد العطيفي من منظمة سيناء. فكان التكريم للاسم من جيش مصر للغيطاني في ذكري النصر خلال الندوة التثقيفية في عام 2021.
***
كثيرا ما أشعر بالاستفزاز، كيف له أن يقوم بتلك الأعمال العظيمة، ويأتي بتلك الأفكار الكونية، ثم يتناولها بهذه البساطة، وكأنها أمور مسلم بها؟ كيف يتدفق كل هذا الإبداع؟ عندما قرأت التجليات، لم اصدق أنها كتبت في بيتنا، كيف جاء جيمي بهذه الأعمال دون أن نشعر؟
شعور غريب بالرغبة في فرصة أخرى للحياة معه، ربما لم أكن لأتركه أبدا. فأقصى ما أشعر به هو أنني لا زلت اكتشف عظمة وعمق جيمي بعد غيابه. لا أرغب في أن أبدو مبالغا، ولكنني لمست معنى البقاء والخلود في السيرة، ومن خلال الإبداع… عمل وإنتاج وسيرة جمال الغيطاني… جيمي.
ربما لا أجد ما اختتم به حديثي إلا اقتباسا من قصيدة لعمي عبدالرحمن الأبنودي، وإن قيلت رثاء للزعيم الراحل جمال عبدالناصر، إلا أنني أجد في كلماتها صدى لما أشعر به تجاه الشاب الذي عاش ألف عام… جيمي.. إلى أن نلتقي… يعيش جمال حتى في موته.
اقرأ أيضا:
هاني فوزي يكتب: «دفاتر تدوين الغيطاني».. إبداع على غير مثال سابق