تصفح أكبر دليل للفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

مبادرة «سأطير».. كيف صنعت هايدي فارس سماء آمنة للفتيات بالفن؟

«كنت عايزه أطير.. بس الدنيا كانت ضيقة أوي».. هكذا تلخص هايدي فارس مسيرتها الشخصية، وكأنها ترسم بخط واحد بسيط سيرة فتاة وجدت في الرسم ليس مجرد موهبة، بل مخرجًا من حصار اجتماعي ضاغط. في غرفتها الصغيرة بالمنصورة، كانت الألوان وسيلتها الأولى لتوسيع أفقها، تضع نقطة زرقاء في وسط مساحة رمادية وتقول لنفسها: «أنا هنا… ولسه عندي ألوان».

لكن الرحلة من فتاة ترسم للهروب من الضيق إلى فنانة تفتح مساحات للآخرين، لم تكن محض صدفة. كانت هايدي تراقب كيف يتحول صمت البنات في مجتمعها إلى جدران صلبة، وكيف يحاصر الحلم في جملة “ما ينفعش” و”ما يصحش”، وكيف يمكن أن يكون الفن… فعل مقاومة ناعم لكنه عنيد.

هايدي فارس: فنانة ومديرة مساحات إبداعية

هايدي فارس فنانة تشكيلية ومؤسسة مبادرة “سأطير”، بالإضافة إلى إدارتها لمساحة ثقافية صغيرة في المنصورة تحمل اسم “Books & Beans”، تجمع بين مكتبة ومساحة ورش. من خلال هذا المكان، بدأت أولى خطوات مشروعها، لكن تحت اسم مختلف وبشكل أكثر بساطة .

كانت هذه الجلسات تجمع البنات في أجواء ودية، يرسمن معًا ويتحدثن بصراحة عن مشاعرهن وتجاربهن، وكأنهن يجلسن في دائرة دعم نفسي غير رسمي. ومع الوقت، تطورت هذه الجلسات من نشاط جانبي داخل “Books & Beans” إلى فكرة أوسع وأكثر وضوحًا، حتى وُلدت مبادرة “سأطير” بما تحمله من هدف واضح لخلق مساحات آمنة للبنات في المنصورة.

من الداخل: ميلاد فكرة “سأطير”

تقول هايدي: “لم تكن مبادرة (سأطير) مشروعًا مدروسًا من البداية، بل كانت فعلًا غريزيًا. أنا كنت محتاجة أخلق مساحة أتنفس فيها… عرفت إن غيري محتاجينها أكتر”.

وبعد سنوات من تدريس الرسم، أدركت هايدي أن المشكلة أعمق من تعليم المهارات. البنات في المنصورة، مثل كثير من المدن الممتلئة بالقيود غير المرئية، كنّ يبحثن عن مكان يُسمح لهن فيه أن يقلن: “أنا مش بخير… ومش عيب أقول ده”.

بدأت الجلسات بشكل بسيط داخل “Books & Beans”: دائرة صغيرة من البنات يرسمن ويتحدثن دون خوف. لكنها مع الوقت، شعرت هايدي أن هذه المساحة الصغيرة من الممكن أن تتحول إلى مشروع أكبر. بدعم من منحة “Eunic“، بدأت الورش تتحول إلى مبادرة واضحة الملامح، لكن بقي جوهرها كما هو: “الرسم مساحة اعتراف”. لم تكن الورش تهدف إلى خلق فنانات محترفات، بل نساء يستطعن الاعتراف بمشاعرهن بأمان.

ورشة لمبادرة سأطير
ورشة لمبادرة سأطير
في قلب الورشة: البنات يتعلّمن أن يروا أنفسهن

في إحدى الورش، جلست هايدي أمام مجموعة من الفتيات وقالت بهدوء: “مش مهم ترسموا حلو… المهم تحكوا عن نفسكم بالألوان”. كانت هذه الجملة البسيطة هي المفتاح. وكان يكفي أن تسمعها فتاة دخلت الورشة خجولة، بالكاد تهمس بكلماتها، لتنهي اليوم وقد رسمت لوحة مليئة بالألوان الساخنة، وكأنها أطلقت صرخة مكتومة كانت محبوسة لسنوات.

الورش تدار بمبدأ بسيط لكنه ثوري: لا تقييم، لا مقارنات، لا أوامر. كل فتاة تأتي إلى الورشة تحمل داخلها قصة، ولا يطلب منها إلا أن تحكيها بطريقتها. الأزرق أصبح حرية عند إحداهن، والأحمر أصبح تعبيرًا عن غضب مكبوت لسنوات، وكل لوحة كانت صفحة جديدة في دفتر اعترافات لا يحاسِب.

وهايدي لم تكن تدرّس الرسم، بل كانت تفتح نافذة صغيرة لكل فتاة تقول من خلالها: “أنا هنا”، حتى لو لم تستطع أن تقولها بصوت عالٍ.

هايدي فارس: الفنانة التي تعالج جراحها بالألوان

وراء كل ورشة، كانت هايدي تعيش تجربة موازية كفنانة. تقول: “أنا بتعالج وأنا برسم… كل لوحة بحس إنها بتطلع وجع قديم”. في أعمالها الفنية، تتجسد مفردات الوجع الأنثوي في أشكال جسدية مربكة: أجساد مفرغة من الداخل، عيون تبحث عن ضوء، وخطوط متداخلة تعكس التشابك النفسي الذي تعرفه جيدًا.

الرسم عند هايدي لم يكن يومًا فعلًا جماليًا فقط، بل كان وسيلتها لمقاومة إحساس العجز، ومحاولة لترميم ما كسرته التجارب. وبينما تساعد البنات على الاعتراف بمشاعرهن، كانت هايدي نفسها تعترف بجروحها عبر كل لوحة.

سأطير… الحلم الذي لا يريد جناحين فقط

“سأطير” لم يكن مجرد اسم اختارته هايدي للمبادرة؛ كان بيانًا شخصيًا. لكنه بيان يحتاج إلى فضاء حقيقي، يعترف بحق البنات في أن يسمعن، وفي أن يصرّحن بضعفهن دون خوف من الحكم أو العيب.

وتحلم هايدي أن تتحول الورش يومًا إلى معارض جماعية، حيث تجد كل فتاة مكانًا تعلق فيه لوحتها، وتقول للعالم: “أنا هنا”. لكنها تدرك أن الطريق ليس بسيطًا. التحديات تتجاوز التمويل والدعم اللوجستي. تقول: “المجتمع محتاج يعترف إن المشاريع دي مش كماليات… دي ضرورة نفسية في مدينة بتكتم النفس”.

وتعرف هايدي جيدًا أن كسر جدران الصمت لا يحدث بضربة واحدة. إنما يحتاج إلى مئات من الشقوق الصغيرة، وهو ما تفعله الورش بهدوء وعناد.

الفن كفعل مقاومة ناعم

في الوقت الذي تتزايد فيه المبادرات النسوية في مصر، تأتي “سأطير” كحالة مختلفة. ليست مبادرة ترفع شعارات كبرى، لكنها تفتح شقوقًا صغيرة في جدران الصمت.

وتقول هايدي: “أنا مش بعلّم البنات يعملوا ثورة… أنا بعلمهم يسمعوا نفسهم… والثورة الحقيقية بتبدأ من هنا”. كل ورشة جديدة، كل فتاة تمسك الفرشاة للمرة الأولى وتكتشف أنها قادرة على رسم ما لم تستطع قوله، هو انتصار صغير، لكنه جوهري.

التأثير الخفي.. لكنه عميق

ربما لا تحظى “سأطير” بالأضواء الإعلامية، لكنها بالنسبة للبنات اللواتي مررن بتجربتها تمثل لحظة فارقة. تحكي هايدي عن فتاة جاءت من قرية صغيرة، وبعد أول ورشة، همست لها قائلة: “أنا أول مرة أحكي عن نفسي… وأول مرة أحس إن ده مش عيب”.

هذه اللحظات العابرة، التي قد تبدو بسيطة، هي التي تمنح هايدي الإحساس بأن مشروعها في الطريق الصحيح. فكل اعتراف صغير هو خطوة ناحية السماء.

الحلم مستمر

هايدي لا تبحث عن مشروع ضخم بميزانيات طائلة، فهي تؤمن أن القوة في التفاصيل الصغيرة. تحلم أن تنتشر “سأطير” كفكرة، كمنهج بسيط يمكن لأي بنت أن تبدأه من غرفتها، حتى لو كانت الدنيا ضيقة.

وتقول: “أنا مش بقدّم علاج نفسي بديل… ولا بدّعي إني بصنع فنانات عالميات… أنا بفتح شباك صغير للبنات… والباقي بيحصل لوحده”.

اقرأ أيضا:

مئذنة تحتضر وقبة دُفنت بلا نداء.. هل تُنقذ المنصورة أقدم مساجدها؟

مسرح لا يموت.. «المنصورة» تنقذ إرثها وتعيده دارًا للأوبرا

ملامح العيد تتغير في شوارع المنصورة : الباتيناج يحتل المدينة

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.