مارك أمجد: القبودان.. رواية

في الليلِ صَعِدَ حسن باشا الإسكندراني من قمرته إلى ظهر الفرقاطة “تحيا مصر”، ليتابع التجهيزات الأخيرة السارية على الأقسام البحرية كافة. كانت الفوانيس بهالاتها الصفراء الْمرتعِشة موزَّعة بطول أرصفة المرفأ ومن السماء المطرَّزة بنجومٍ لامعة هبطَ ضوء القمر ليضفي على المياه والثكنات بهاءً أبيضَ. تذكَّر حسن حالة المنطقة المحيطة من حوله قبل تطويرها على يدِ محمد علي باشا، قرأ أنها كانت مجرد شاطئٍ مجدبٍ مغطى بمستنقعات مالحة. أُزيل حيٌّ بأكمله وحفرَ الفلاحون المصريون الذين استُجْلِبوا من أراضيهم، حتى وصلوا لعمْقٍ مناسبٍ يصلُح لإنشاء الأرصفة. أسَّسوا أحواضًا للسُّفن وشيَّدوا سقالات عِملاقة، بنيت مصانع الحبال والأشرعة والمسامير، ودشّنوا مدرسةً لتخريج الضُّباط البحريين.

ترحَّم حسن في سرِّه على باشا مصر الأعظم، فلولا جهوده لانحصر عتاد الجهادية ببلده في مدفعٍ واحدٍ ينبِّه الْمسلمين وقت الإفطار في رمضان، ثم ترحَّم على المدارس التي أغلقها عباس هادمًا مسيرة جدِّه التنويرية، وتساءل: متى يجيء ذلك اليوم الذي يحكُم فيه هذا الشعب رجلٌ منهم يحمل نفس همومهم ويكون غيورًا على تعليمهم؟! نزلَ ببصره متأمِّلًا عُمّال الترسانة يتحركون بنشاطٍ تحت توجيه ضباط الصف. تحسّر على أجدادهم الحرفيين الْمَهرة الذين شحنهم العثمانيون ذات يومٍ من مصر للآستانة ليعمِّروها، وما الضريبة؟ خراب ديارهم التي كانت أولى بجهود أولادها. ووقع المصريون بين جحيمين، فمَن نُفي استُخدِم شغِّيلًا، ومَن بقي هلَكَ هو أو أهل بيته من الجوع.

**

رغم الضجة المحيطة حوله من أصوات دقّ ونشْر وخِراطة، كان بإمكانه تمييز صوت خطوات القومندان “باربروسة” خلفه. استدار فوجده أمامه ببذلة عسكرية موشاة وطربوشٍ أكثر نحافة من طرابيش الضُّباط المصريين، أمر بصُنعه على هذه الشاكلة ليُميّز نفسه عنهم.

أما عن ماضيه فيتلخَّص في أنه ينحدر من أصول يونانية وقد احترف هو وأخوه في صِغرهما القرصنة فانقضَّا على السُّفن التجارية سواء خصَّت تُجَّارًا مسيحيين أو مسلمين، وأسماه الإفرنج في مراسلاتهم باسم “بارب روس”؛ ومعناه “صاحب اللحية الحمراء” حتى أسِر مع أخيه في أحد الكمائن التي دبَّرتها لهما الدولة، ولَمَّا قَتلَ الأتراك أمام عينيه أخاه أسلم ووَهَبَ عُمره للجيش العثماني ليفوز بحياته.

أرسلوه لِمعسكرات تدريبهم بالشام وهناك جرى تتريكه وختانه وتحفيظه القرآن وتمرينه على القِتال النظاميّ وليس القَبليّ، حتى خرجَ مدمِّرة على هيئة إنسان مطوِّعًا هذه المرة كل قوته لأسياده الجُدد، ولَمّا رأوا أنه صار يتحدث بلكنة أهل المنطقة عيّنوا له مقر خدمته فيها، ثم نقِل للمحروسة فلم يحب المصريون شخصيته؛ بسبب عنجهيته المفرِطة فحوَّروا اسمه وصار “باربروسة”، وذاعَ عنه أنه يودُّ لو أخرجَ أهلَ مصر منها وشرَّدهم جميعهم في الصحاري، ولم يكن يفوِّت محفلًا عسكريًّا إلا ويردِّد نظريته المعروفة ضدهم، ومفادها أنهم كلَّما منحوا فردًا مِنهم منصبًا داخل الجيش، دقُّوا بذلك مسمارًا تلو الآخر في نعش الدولة العلية.

غلاف الرواية
غلاف الرواية
**
  • “مذهلة إسكندرية متل النعيم”.
  • “هي تتحب، بس متحبش أي حد!”.

داعب “باربروسة” لحيته:

  • “لساتك أرعن… ما صدقت حالي لما قريت اسمك!”.
  • “فكّرتني مش راجع!”.
  • “بحياتي ما توقعتك يا حسن!”.
  • “أنفع فرعون؟!”.

قهقه باربروسة:

  • “شو نوع الأفيون يلي عم تتعاطوه يا مصريين”.
  • “مالك بالمصريين؟ وقت ما كنا جيش كنتم قبيلة”.
  • “صفيق!”.
  • “وأنت بتاخد على خاطرك بسرعة!”.

كزّ “باربروسة” على أسنانه وحاول أن يكون بحجم هذه المبارزة الكلامية:

  • “بتعرف إنه إلنا فرعون عندكن؟”.

رفع حسن حاجبيه.

  • “ليش مستغرب؟! الفرعون يلي عملكم!”.
  • “تقصد محمد علي باشا!”.
  • “باشا! يا عيني عليك! إيه هادا الماسوني!”.
  • “إزاي يا قبطان تبقى شاطر في الرماية وخايب في التاريخ!”.
**

أخرج “باربروسة” لفافة تبغ من جيب سترته ومدَّ يده بها لـ”حسن”، ولم يشأ الإسكندراني صدَّه تجنُّبًا لأي مشكلات مع القيادة العليا قبل الإبحار.

  • “أي تاريخ؟ يلي تبعكم ولا تبعنا نحنا؟!”.
  • “الباشا رحمة الله عليه كان زي اللقمة الحلوة في بق السلطان لحد ما وقفت في زوره خنقته”.
  • “كل هادا الشعر في تاجر دخان!”.
  • “ومصر عرّفت التاجر ده قيمة نفسه”.
  • “ومين يلي بيملك مصر؟”.
  • “محدش غير أهلها!”.
  • “فيك تتخيل للمصري لسان!”.
  • “وجيش كمان! وبعدين لو محمد علي ملوش وزن، خفتم منه ليه!”.
  • “زلمة خسيس مغروم بحاله”.
  • “أديك قلتها، يبقى الرجل مش بتاعكم”.
  • “ومو إلكم يا مصريين”.
  • “محمد علي بتاع نفسه!”.
  • “بتعرف شو بتمنى! لو كنتم شاطرين بالسياسة متل الكلام!”.
  • “وأنتوا لو تبطلوا شغل العصابات مكتش الحرب نزلت عليكم زي الشوطة!”.
  • “ماني مضطر أحكيلك إن ها الإمبراطورية يلي بتتكلم عنها بصفاقة أنقذت المسلمين من الكفرة!”.
  • “وأنتوا عملتوا في المسلمين أضعاف اللي كان ممكن يعمله الكفرة!”.
**

في ظلمة الفجر وتحت وطأة برودة الجوّ، خاصةً في ذلك التوقيت في مدينة ساحلية مثل الإسكندرية، كان الجنود وضباط الصف بدءوا يتوافدون ويسجِّلون حضورهم عند مكتب القوة. ومعهم حضرتْ في عربات متهالكة جموع غفيرة من أبنائهم وأهاليهم ليودِّعوهم ويروهم حتى آخر لحظة قبل الإبحار. ولَمّا منعهم عساكر الدرك من دخول القاعدة تجمهروا أمام متاريسها المصنوعة من جذوع النخيل رافعين شارات حمراء رسِم عليها علم مصر بهلاله ونجمته.

في أعماق “تحيا مصر” أغلقَ حسن باشا باب قمرته عليه، فتناهت إليه أصوات خفيضة من صياح الناس على الرصيف، جلس على الأرضية فاتحًا أمامه مُصحفه، يبتهل هازًّا رأسه {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}. نهضَ، فاغتسل وشذّب شاربه بلهب شمعة، وارتدى بذلته الحربية، ووضع مسدسه في القايش، وتوكّل على الله.

خرجَ من قمرته كأنه وُلِد لتوِّه، شاعرًا بأنه اغتسل من ماضيه وحتى واقعة انتحار عزيزة بدتْ بعيدة في عمق سحيق من ذاكرته. انطلقَ يمرُّ بنفسه على حجرات المدفعية على جانبيِ الفرقاطة يتأكد من جاهزيتها. تفقّدَ خزين الطعام في شون التعيينات وأعداد البنادق في السلاحليك وإمداد عنابر الجنود وضباط الصف ببطاطين ميري وأسرّة كافية. أخذ التمام من قسم الدفع أن المراجل البخارية بكامل طاقتها دون خللٍ. نزلَ على السقالة فأعطاه عمرو المنصوري التمام بحضور كل الضباط الْمُعيّنين. نفخَ البروجي مِن فوق برجِ المُراقبة.

**

في الفناء انتظمتْ السريات في شكل مربع ينقصه ضلع، وعلى رأس كل سرية تقدّم جندي يمسك بشارة حريرية ذات لونٍ مختلف طُرِّزت بآيات تحثّ على الجهاد، وكان الجندي الذي يسمع اسمه يهتف من مكانه بأعلى صوته “أفندم”. حتى تأكد حضور القوة بأكملها فأعطى الصول النوبتجي لعمرو باشا التمام بوقوف 6850 جنديًّا على الرصيف أمامه، سيوزَّعون بمجرد إشارته على التسع فرقاطات المصرية. ولأن عملية إحصاء هذا العدد المهول لم تكن باليسيرة، فقد انتهت مع ظهور أطراف الشمس، لكن الغيوم الداكنة حجبتها وخيّم اللون الرماديّ على الميناء الحربي.

افتتِحتْ بوابة القاعدة على مصراعيها فانقسمَ الأهالي أمام موكب السراي المكوَّن من عربات القصر المكشوفة تجرّها جياد ناصعة البياض مزيّنة بتيجان ذهبية، يتقدّمها أفراد الخيّالة ببذلاتهم الحمراء يُزيحون الجماهير بسياطهم. حتى توقّفتْ عربات موكب التشريفة على الرصيف بإزاء الفرقاطة تحيا مصر، وترجّل منها عباس باشا الأول يرتدي بذلة مطرَّزة بقصب من أكتافها إلى أكمامها تتوسطها أزرار نحاسية، وقد ساعده خادمه الحبشي من لحظة نزوله وحتى وصوله الشُّرفة، ويبدو أن الوالي في سفريته الأخيرة بفرنسا اكتسب وزنًا إضافيًّا على وزنه، وكانت الشائعات بين المصريين تصوّره على أنه شخص نهِم تجاه لحم الخنزير والنبيذ الأحمر، وهو ما فسّر لهم انتفاخ لحم وجهه بهذا الشكل.

**

تقدَّم حسن قبطان حتى صار في عمق الفناء أسفل شرفة المنصة فضربَ التحية العسكرية. أشار الوالي لمعاوِنه فأخرجَ فرمانًا موضوعًا في مظروفٍ مختومٍ بالشمعِ الأحمر. فضَّه وقرأ محتواه مرة بالتركية ومرة بالعربية على مسمع الضباط والجنود الْمُتسمّرين والأهالي المُتكتِّلين خلف المتاريس:

إفادة حربية

“إلى مَن تقع بيده هذه الإرادة في كامل ولايات الدولة العلية.

بعناية حضرة عزة الله جلَّتْ قدرته وعلَتْ كلِمته، وبمعجزات سيد زمرة الأنبياء وقدوة فرقة الأصفياء؛ محمد المصطفى ﷺ الكثيرة البركات. لقد اقتضتْ إرادة سلطان السلاطين، برهان الخواقين، متوَّج الملوك، ظل الله في الأرضين، سلطان البحرين، خادم الحرمين الشريفين، أن أقوم أنا عباس باشا الأول، بترقية سعادة اليوزباشي حسن الإسكندراني إلى رتبة بكباشي، وتعيينه أميرًا على سفن الأسطول المصري المتّجِهة لحربها في الآستانة.

فلدى وصول ذلك إلى عِلمكم، تصغون لأوامر وتنبيهات الباشا المشار إليها وتنفِّذونها حرفيًّا، وتجتهدون إلى عدم الانحراف عن أوامره ونواهيه، وقد حرِّر هذا للمعلومية”.

 

                                                                                                                                                 عباس الأول

                                                                                                                            قصر رأس التين بالإسكندرية

                                                                                                                                      6 أكتوبر 1853

**

دوّى رعدٌ أعقبته أمطارٌ غزيرة. صعدَ حسن باشا لشرفة كبار الزوّار واستلمَ الفرمان من معاوِن الوالي بعدما ضربَ التحية العسكرية. هزَّ له عباس باشا رأسه كأنها إشارة الانطلاق للحرب. استدار البكباشي وحملقَ في قادة السريات المُنتصبين تحت أشعة الشمس، وقد بدأتْ تستعر فوق رءوسهم وظهر تململهم في أعينهم، فهتفَ بصوتٍ تردّد صداه: “كامل القوة، للخلف مارش!”. التفّتْ قوات الأسطول في حركةٍ مرسومة، ضاربين بكعوبهم أرض الفناء، محدِثين سحابة تراب خرجتْ من تحتهم وأخفتْ أرجلهم. ثم اتجهوا صاعدين سلالم المراكب كطوابير من النمل، كل سرية لسفينتها الْمعيّنة، وتبعتهم فصائل المشاة بزيّها الكاكي الْمُختلف عن زيّ البحرية.

المطر يتساقط عليهم مشبَّعًا برائحة بخارِ مراجل الفرقاطات. الجنود يدهسون الوحلَ غير مكترثين بتلطيخه لبياداتهم، قابضين على بنادقهم، ملقِين آخر نظرة وداع على أهاليهم المحتَجزين خلف المتاريس ينوحون ويلوِّحون لأبنائهم وأزواجهم وإخوتهم بأيديهم ومناديلهم وأعلامهم. يصرخون بهتافات متباينة، لم يكن من بينها هذه المرة كراهيتهم للعثمانلي، بل انحصر كل همِّهم في أن يعود رجالهم على أرجلهم وليسوا محمولين. ويبدو أن منظرَ صعودِ جحافل الجنود أثارَ طيورَ النورس؛ لأنها راحتْ تحلِّق بجنونٍ وصخبٍ فوق الميناء في شكل دوائر.

انتهى شحن الجنودِ لعنابرهم، فأعطى حسن باشا أوامره لتنفصل السلالم عن البوابات، وتحرَّر البوارج من آخر شيءٍ يوصلها للميناء.

**

مِن الشّرفة رفع الوالي كفَّه وكأنما يودِّعهم هو الآخر، فبدأتِ الفرقة الموسيقية دورها في المشهد؛ ضاربو الطبول والترومبتجية ونافخو الأبواق عزفوا موسيقاهم الحربية بحماسٍ، وأطلقت المدافع المنصوبة في الفناء عشر قذائف تحيةً للقوات المغادِرة. أما على الرصيف فهرعَ الجنود الباقون المكلَّفون بحراسة الميناء، ينزعون الحبال الغليظة المعقودة حول الشمعات المعدنية ليحرّروا الفرقاطات من مرساها.

سحِبت المراسي بجنازيرها الضخمة الصَّدِئة فأحدثتْ حلقاتها صوتًا مجلجِلًا وهي تنزلق على مجاريها داخل كوّات السّفن، وشدَّت الأشرعة البيضاء على الصواري، ورفِعتْ أعلام الإمبراطورية العثمانية على السواري. وبمجرد أن تجاوز الأسطول المياه الإقليمية الضحلة، بدأتِ المراجل يشتد هديرها ويتطاير من مداخِنها بخارها المتدفِّق، فانطلقتِ البوارج تعبر المياه وأمواجها العالية، يتطاير على جانبيها الزبد الأبيض، ترتفع مع الموج وتنزل بكل ثِقلها، مع بقاء “تحيا مصر” في مقدمة الحرّاقات.

بدا منظر الأسطول من تسلسُل قِطعه وفرط نظامها وانتظام سرعة كل قطعة وراء الأخرى، كأنها تشكِّل سورًا متحرِّكًا يشقُّ البحرَ.

**

صعدَ البكباشي حسن الإسكندراني للممشى، وأعطى رجاله تلقينه الملاحي ثم توقَّفَ أمام الدفَّة ممسِكًا بوصلته. التفتَ خلفه لمرة أخيرة، وعندها كان ميناء رأس التين قد بدأ يتضاءل، والوالي اختفى بين جموع المودّعين، والأهالي تحولوا لكرات سوداء صغيرة. لم يعد هناك ملمح ظاهر من المدينة سوى قلعة قايتباي. نادى أحد الصولات وهمسَ في أُذنه، فتحرك الصول مهرولًا يُنفِّذ الأمر العسكريّ دون تعليقٍ، فأنزلَ من على السارية علم الإمبراطورية العثمانية ورفع بدلًا منه علم مصر، وكان الفارق بينهما شكل النجمة فقط.

اقترب عمرو المنصوري من زميله وسأله:

  • “عايزهم يصفَّونا من ضهرنا”.

قالها ناظرًا بقلقٍ لعلم مصر المرفوع على السارية والذي سيُثير حتمًا غيظ العثمانيين إذا التقطوه، فأجابه حسن:

  • “مش هيلقطوا النجمة”.
  • “باربروسة المجنون في قفانا”.
  • “يحط راسه في أضيق مدفع”.

ضحكا من القلب وللحظة انطرد منهما أي خوف، وتذكَّرا أيام الزمالة والشقاوة في مدرسة الفنون البحرية، حين كانت الحرب مجرد درسٍ وليست حقيقة.

                                                                                                                           فصل من رواية بالعنوان ذاته.

اقرأ أيضا

عرض لكتاب “مقالات نجيب محفوظ الفلسفية”

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر