«ليلة الملوخية».. عادة متوارثة للاحتفال بالمولد النبوي بنجع العقاربة

هناك في جنوب الأقصر، وتحديدًا في نجع العقاربة، يتجدد المشهد كل عام في ليلة المولد النبوي الشريف، حيث يتجمع الأهالي في احتفال فريد يختلف عن أي مظاهر أخرى في الصعيد. يتراص الرجال والنساء والأطفال على جانبي الطرقات وأمام المنازل لتناول وجبة «الملوخية الناشفة»، التي تحولت من مجرد طعام إلى طقس سنوي يحمل رمزية خاصة، فالوجبة الشعبية البسيطة صارت عنوانًا للفرح واللمة والبركة، وعادة متوارثة منذ أكثر من مئة عام، يحرص أهل النجع على إحيائها كجزء أصيل من هويتهم وذاكرتهم الجمعية.
عادة متوارثة
يقول الحاج عبدالرحيم الجمال، أحد كبار النجع: “إحنا ورثنا العادة دي من أجدادنا. كانوا كل سنة في المولد النبوي يعملوا الملوخية الناشفة في قدور كبيرة، ويوزعوا اللحم معاها على الناس كلها. الفكرة إن كل بيت ياخد نصيبه ويفرح مع أهله، لكن التجمع في الساحة بيبقى له طعم خاص، بيجمعنا على المحبة والبركة. أما سبب اختيار وجبة الملوخية الناشفة بالتحديد، منعرفوش، لقينا كبارنا بيعملوا كده من أكتر من 100 سنة”.
ويضيف أن الأهالي يحرصون على استمرار هذا التقليد مهما كانت الظروف، معتبرين أن وجبة الملوخية ليست مجرد طعام، بل رمز للتكافل الاجتماعي والتواصل بين الأجيال، إذ يتسلم الأحفاد سر الطقس من الأجداد، ليبقى عادة حية في قلوب الجميع.

إعداد المائدة
يقول الشيف محمود متولي، طاهي الوليمة، إن التحضيرات تبدأ منذ الصباح الباكر مع اقتراب الليلة الختامية. حيث يذبح شباب القرية عجلاً أو أكثر، ثم ينهمكون في تنظيف وتجهيز الملوخية الناشفة، وغسل الأرز، وإعداد الكمونية. تُرص القدور الضخمة، التي قد يصل عددها إلى عشرة أو اثني عشر قدراً، في الديوان أو دار مناسبات النجع، حيث تنبعث منها رائحة الملوخية الممتزجة باللحم، لتجذب الأهالي والضيوف على حد سواء.
ويؤكد سيد حساني، أحد المشاركين في الطهي: “الملوخية هنا مش مجرد أكلة، دي احتفالية. نجهزها بكميات ضخمة تكفي الكل، ونحرص أن تكون بنفس الطعم الذي تعودنا عليه منذ زمان. بنعتبر نفسنا خدّام أهلنا وضيوفنا في الليلة دي. أما ليه اختاروا الملوخية بالتحديد؟ معرفناش، بس لقينا جدودنا بيعملوها من زمان”.
ومع غروب الشمس، يبدأ المشهد الأجمل: رجال ونساء وأطفال يخرجون من منازلهم حاملين الأطباق والأكواب، يتوجهون بها إلى الساحة حيث القدور العملاقة. يجلسون على الأرض في نظام عفوي تغمره البهجة، في انتظار أن تُغرف لهم وجبات الملوخية واللحم.
فرحة وكرم
تقول سحر فريد متولي، إحدى سيدات القرية: “العيال بيستنوها طول السنة. الليلة دي ليها فرحة خاصة. بناخد الملوخية ونرجع على البيت نتعشى سوا، لكن لازم الأول نشارك في الساحة ونقعد وسط الناس”.
ولا يقتصر المشهد على أبناء النجع فقط، بل يشارك فيه الضيوف من القرى المجاورة. إذ يعتبر الأهالي أن “وليمة الملوخية” باب مفتوح لكل زائر، يعكس كرم أهل الصعيد وتقاليدهم في إكرام الضيف.
بعد الطعام.. مديح وذكر
بعد توزيع الوجبات وعودة الأهالي إلى بيوتهم، تنطلق في الساحة حلقات الذكر والإنشاد الديني، حيث يصدح المداحون بالقصائد في حب النبي. يجتمع الشباب والشيوخ في دوائر، تتعالى أصواتهم بالابتهالات، بينما تعلو من بعيد زغاريد النساء.
يقول الشاب فراج محمد أحمد: “إحنا بنعتبر الليلة دي مش بس أكل وشرب، دي ليلة روحانية. بعد ما نوزع الملوخية ونرجع الأكل للبيوت، بنقعد نسمع المداحين ونشارك في الذكر. أجواء مليانة نور وبركة.”
طقس اجتماعي وروحاني
تمثل وليمة الملوخية في نجع العقاربة نموذجاً فريداً لارتباط الطعام بالطقوس الدينية والاجتماعية في صعيد مصر. لم تعد الملوخية مجرد طبق.
بل صارت رمزاً لاحتفال جماعي يمزج بين الروحاني والاجتماعي، هذا التقليد يعكس تماسك المجتمع المحلي وقدرته على الحفاظ على عاداته وسط تغيرات الزمن.
احتفال يتحدى الزمن
رغم مرور السنوات وتغير أنماط الحياة، لا يزال أهالي نجع العقاربة متمسكين بهذه العادة. ففي كل عام، ومع ذكرى المولد النبوي، يتجدد المشهد وكأن الزمن توقف عند لحظة الوليمة الأولى التي أقامها الأجداد.
يقول الحاج جابر إبراهيم محمد: “الملوخية دي بتفكرنا بأصلنا وبأهلنا اللي ماتوا. وإحنا مصرين نعلم عيالنا العادة دي عشان تفضل مستمرة بعدنا. دي مش مجرد أكلة.. دي بركة النبي”.
صورة مبهرة
في ختام الليلة، وبينما يتوزع الأطفال في الشوارع حاملين أوانيهم المليئة بالملوخية، تبقى الساحة شاهدة على مشهد استثنائي، تتداخل فيه البساطة مع البهجة، والكرم مع الروحانية، لتكتب قرية صغيرة على ضفاف الأقصر صفحة مميزة من ذاكرة المولد النبوي الشريف.
وبينما تشهد قرى مصر كلها مظاهر احتفالية متنوعة، تبقى “وليمة الملوخية” في نجع العقاربة علامة فارقة، تجعل من الملوخية أكثر من مجرد طعام. بل طقساً شعبياً مقدساً يوحد القلوب في حب النبي.
اقرأ أيضا:
«إحياء إسنا التاريخية».. مشروع يحصد جائزة «الآغا خان» للعمارة 2025
«مرماح منشأة العماري».. 150 عامًا من الفروسية في مولد النبي بالأقصر
«أوكرا».. مطبخ إسنا التراثي الذي أعاد للذاكرة نكهة العدس والشلولو