كيف أخضع "عباقرة التلاوة" مقامات الموسيقى للقرآن؟

“نزل القرآن في مكة وقرئ في مصر”.. هذا المثل السائر الذي تتداوله الألسنة يلخص بعبقرية حجم مدرسة التلاوة المصرية.
أخضعت مدارس التلاوة في مصر مقامات الموسيقى إلى التلاوة بحرفية ومهارة نادرتين، لتفتح أصوات البلابل تلك، بابًا عظيمًا من السحر الحلال، ظل محتفظًا بقوته لقرون عدة.
ويخضع أسلوب ترتيل القرآن إلى عدة طرائق أو مدارس قرائية لها أحكامها وخصوصياتها ومن تلك المدارس العراقية المرتبطة بأصول المقام العراقي، ومدرسة المغرب العربي العريقة التي تعتمد في تنغيمها على تراث موسيقى النوبة الأندلسية، ومدرسة الحجاز بخصوصيتها المعروفة في التلاوة والإنشاد التي يغلب على تنغيمها سلم مقام الحجاز وتحولاته.

ثم تأتي المدرسة الأكثر تفردًا وهي المدرسة المصرية، التي يُبنى هيكلها الصوتي العام على مقامات الموسيقى الشرقية.

زكريا أحمد - مجلة المصور 1961
مجلة المصور 1961

دفعت إبداعات القراء وأساطين التلاوة في مصر الشيخ زكريا أحمد (1896- 1961) إلى اقتراح تلحين القرآن دون آلات موسيقية، بهدف حفظ تلك المقامات من الضياع أو من النسيان بموت روادها، لكن “الأزهر” قابل الأمر بالرفض آنذاك، بحسب ما ذكره صبري أبو المجد في “موسوعة أعلام العرب”.

المقامات والموسيقى

ترتبط المقامات ارتباطًا وثيقًا بعلوم الموسيقى وفنونها، وبحسب الشيخ المنشد أحمد شفيق، مدرب مقامات صوتية، فإن المقامات الصوتية لما لها من تتابع نغمات معين ومتزن ومتناسق تقع على الأذن بإيقاعها العذب، تاركة في النفس جماليات وعذوبة.
شفيق يوضح أن القراء والمنشدين في مصر يستخدمون ثمانية مقامات أساسية، يمكن اختصارهم في كلمة “صنع بسحرك”، وهم: الصبا والنهاوند والعجم والبياتي والسيكاه والحجاز والراست والكورد.
تنقسم تلك المقامات إلى شرقية مثل: الراست والبياتي والسيكاه والصبا، ومقامات غربية مثل: العجم والنهاوند والكورد، ومن الممكن استخدام المقامات الغربية في الألحان العربية ولكن ليس العكس.
يتابع شفيق أن لكل مقام دلالة معينة مثل الراست الذي يوحي بالعظمة والسيكاه الذي يوحي بالفرح والصبا يوحي بالحزن…
بينما يقول علي عبدالله، الباحث في الموسيقى المسرحية بجامعة عمّان بالأردن، في بحث حمل اسم “التعبير الدرامي والتنغيم في ترتيل القرآن الكريم” إن أكثر مدارس التلاوة في مصر ركزت على مقام موسيقي معين مع مُتغيّر إيقاعي متنوع، وذلك حسب شخصية القاريء وطباعه، كما في قراءة الشيخ محمد صديق المنشاوي وعلاقته بمقام “النهاوند”.

قبل أن نتحدث عن مدارس التلاوة نتناول فن التنقل بين المقامات ومن أين جاءت؟

الانتقال من مقام إلى آخر

يقول الشيخ محمد عبدالرؤوف، قارئ ومنشد إن التنقل بين المقامات فن عظيم وله ضوابط وقواعد، إذ يبدأ القارئ بقرار البياتي ثم يتجه إلى الراست ثم السيكاه، وعند الانتقال من البياتي إلي الراست يصعد بالدرجة الصوتية الرابعة.
لكن الدكتور طه عبدالوهاب، خبير المقامات الصوتية، محكم دولي لتلاوة القرآن، كان له رأي آخر إذ يقول إن المتحكم في استخدام المقامات هو نص الآية وما يناسبه أو المعنى.
ويضيف أن الهدف من التلاوة توظيف المقام للمعنى، فالمقام يخدم المعنى لا المغنى، وهنا يجب أن نفرق بين التغني والغناء، التغني هو تسخير النغم لخدمة المعنى، أما الغناء فهو العكس تسخير النص لخدمة النغم.
نخلص من ذلك إلى أن استخدام المقامات يخضع لإحساس القارئ نفسه بالقرآن، ومن هنا يمكن أن نوفق بين رأي القارئ الشاب وبين رأي خبير المقامات.

من أين جاءت المقامات؟

كلمة مقام دخلت في الاصطلاح الموسيقي العربي للدلالة على تركيز الجمل الموسيقية، لتحدث تأثيرا معينا على مؤديها ثم في سامعيها، هذا ما يراه صالح المهدي، الرئيس المساعد للمجلس الدولي للموسيقى التقليدية، في كتابه “مقامات الموسيقى العربية”.

الدكتور طه عبدالوهاب- المتخصص في المقامات الصوتية
الدكتور طه عبدالوهاب- المتخصص في المقامات الصوتية

نعود إلى الدكتور طه عبدالوهاب الذي يرى أن الموسيقى هي التي أخذت من المقامات وليس العكس “كان عبدالوهاب يقول لمصطفى إسماعيل طول ما انتو بتقرأوا إحنا بنلحن، وأعظم اتنين غنوا في مصر هما أم كلثوم وعبدالوهاب، أستاذ عبدالوهاب الشيخ علي محمود وأستاذ الست كان الشيخ أبوالعلا محمد والشيخ زكريا محمد”.

كيف دخلت المقامات الصوتية في تلاوة القرآن؟

يقول عبدالوهاب بدأ التفكير في الموسيقى منذ أيام لامك بن قابيل بن آدم، وهو أول من صنع العود، كان الإحساس الأول بعذوبة الموسيقى بأتي من خلال الطبيعية، أصوات العصافير وأمواج البحار والمطر، وفي علم الموسيقى تعد تلك الأصوات ثلاث درجات صوتية.
تعامل الناس مع الصوت على أنه ثلات درجات وعندما يرتفع صوته أكثر نقول الدرجة الرابعة، لتصبح جواب الصوت، وعندما نزلت التوراة استخدمت تلك الدرجات الصوتية في الترانيم، واستخدمت أيضًا نفس الدرجات مع الإنجيل.
وعندما نزل القرآن استخدمت نفس النغمات في بادئ الأمر، حتى في فيلم فجر الإسلام عندما غنى “نحن غرابا عك”، استخدم النغم بشكل جيد ونقل بشكل صحيح، ثلاث درجات والرابعة الجواب، بحسب ما كان معروف وقتها.
يتابع عبدالوهاب أنه في العام 32 هـ بدأ عبيد الله ابن أبي بكرة الثقفي، الذي ولد 14 هجريا، أبوه كان صحابيا ومن رواة الحديث، يفكر في درجات صوتية أكثر، ليصبح بذلك أول من رتل القرآن بالمقامات الصوتية.
خير الدين الزركلي في كتابه الأعلام الجزء الرابع يعرّف الثقفي بأنه عبيد الله ابن أبي بكرة الثقفي ولد 14 وتوفى 79هـ (635- 698م)، وهو أول من قرأ القرآن بالألحان، وهو تابعي وأبوه أحد رواة الحديث.
نعود إلى الدكتور طه عبدالوهاب، يقول إن ابن أبي بكرة لاحظ احتياج الناس إلى معرفة الفرق بين الله أكبر التي تتكرر في الأذان وفي الصلاة، من هنا ظهر مقام الحجاز، بعد أن حول درجات الصوت إلى سبعة والثامنة هي الجواب.
بدأ يكوّن عبيد الله جملا نغمية يسمى هذا نغم الحزن وذاك نغم الإنذار وذا نغم الفرح وهذا نغم الندم وهكذا، من هنا ارتبط لفظ المقام بالنغم، إذ إن المقام وردت في القرآن بمعنين إما درجة أو وصف حالة، ومن هنا جاء وصف ذلك النغم بالمقام، باعتبار أنه وصف حالة، ثم رحل الثقفي إلى مصر.

صورة تخيلية للفارابي
صورة تخيلية للفارابي

إلى أن جاء أبو النصر الفارابي أحد العلماء الذين يستمدون علومهم من القرآن، ألف هذا العالم الكبير كتابين استمدهما من مقامات القرآن هما: الإيقاعات والموسيقى الكبير، الكتابان من المراجع الأساسية في علم الموسيقى، من هنا تحولت المقامات إلى موسيقى ومن هنا انتشرت الموسيقى إلى بقاع الأرض.

موسيقى القرآن

لكن السؤال هنا كيف أخضع القراء المقامات إلى التلاوة دون أن تختل قواعد التجويد ومخارج الحروف.
أولًا علم التجويد هو علم المخارج والحركات والسكنات والمدود وغيرها من أحكام الإظهار والإدغام والإقلاب والإخفاء وغير ذلك.
والملاحظ أن البنية اللغوية والتركيبية للقرآن بها من توافق الألفاظ ومناسبة الكلمات الموضوعة في حسن صياغة وتقسيم عجيب، يجعلنا أمام نص يمكن أن تخضع له قواعد الموسيقى دن الإخلال بقواعد التجويد ولا بالمد ولا بالإدغام أو الإقلاب ولا حتى في التنقل بين القراءات العشر.
هذا التناسق ساعد القراء على استخدام المقامات في التلاوة دون إخلال بنطق اللفظ، فلا يحتاجون لإضافة حرف ولا لحذف حرف لخدمة المقام، بحسب ما ذكره محمد إبراهيم شادي، أستاذ البلاغة والنقد بجامعة الأزهر، في كتابه البلاغة الصوتية في القرآن.
طه عبدالوهاب يقول لا يمكن أن تجد نصًا يُخضع المقامات إليه دون الإخلال بقواعد التجويد أوزيادة حرف أو نقص حرف، بل إن القراء يستعرضون في التلاوة بالقراءات العشر دون أن يختل ذلك، لذلك فإن المقامات هي علم من علوم القرآن، بل هي الأقدم، مثله مثل علم التجويد.

للمزيد حول الأمر يمكن الرجوع إلى كتب: البرهان في علوم القرآن لبدر الدين الزركشي، ودلائل الإعجاز لعبدالقاهر الجرجاني.

مدارس التلاوة المصرية

عندما قدمت الحملة الفرنسية إلى مصر، خصص علماء الحملة أكثر من جزء للحديث عن الموسقى، في الجزء الثامن (حسب ترجمة زهير الشايب) تناول علماء الحملة شرح الإنشاد الديني والأذان والتلاوة في الصلوات.

الأذان كما سجله علماء الحملة الفرنسية
الأذان كما سجله علماء الحملة الفرنسية

الآذن الغربية الوافدة حللت طريقة التلاوة في الصلوات والأدعية وكذلك الأذان، أو ما أطلقوا عليه تراتيل على شرف النبي والأولياء، حللت كل ذلك بشكل موسيقي، ليفرق العلماء بين استخدام المقامات بين وقت وآخر.
لكن ماذا نعني بكلمة مدارس التلاوة؟ بحسب عبدالوهاب فإننا نطلق على القارئ أنه صاحب مدرسة إذا تفرد بأسلوبه وأصبح له تلامذة يقلدونه.
خبير المقامات يرجع تاريخ  مدارس التلاوة إلى عصر محمد علي، واستمر الأمر طيلة الفترة الخديوية، فكان انتشار القارئات أكثر من القراء، ومن أشهر القارئات نبوية النحاس وأم محمد، ولما ظهرت فتوى تحرم تلاوة المرأة باعتبار أن صوتها عورة، تقلص دورهن.
وبموت السيدة نبوية النحاس عام 1973، واحدة من أشهر المقرئات، انطوت صفحة رائعة من التلاوات بأصوات نسائية، كانت غاية في العذوبة.

استمع إلى نماذج من تلاوة القارئات، مساهمة من الدكتور عصمت النمر، أحد “السمّيعة” الكبار:

[soundcloud url=”https://api.soundcloud.com/playlists/235023242″ params=”auto_play=true&hide_related=false&show_comments=true&show_user=true&show_reposts=false&visual=true” width=”100%” height=’439′ iframe=”true” /]
في نفس الوقت كان هناك مدرستان عملاقتان، هما الشيخ أحمد ندا والشيخ منصور بدار، والأخير خرج من عباءته الشيخ  عبدالفتاح الشعشاعي والفشني ومصطفى إسماعيل، والأخير أخذ من الشعشاعي، أستاذ التصوير النغمي، الكثير في بداياته، قبل أن تصبح له مدرسة مستقلة.
أما الفشني فقد عمل فترة طويلة في بطانة الشيخ على محمود، والأخير من مدرسة أخرى هي مدرسة الشيخ أحمد ندا، التي خرج منها محمد رفعت أيضًا، فالفشني أصبح خليطًا بين المدرستي، وقد تأثر مصطفى إسماعيل بصوت الفشني أيضًا وليس العكس كما شائع.
مصطفى إسماعيل خرج من عباءته قراء كثير مثل راغب مصطفى غلوش وأحمد نعينع وعبدالعزيز حصان وغيرهم، كل هؤلاء قلدوه في البداية، إلى أن أضاف كل منهم أسلوبه الخاص الذي تفرّد به لتصبح لكل منهم مدرسته الخاصة.
هذا ما حدث مع مدرسة التلاوة المصرية، قلّد التلاميذ الأساتذة، ثم أضافوا إليها إبداعاتهم فتفردوا بها، وتداخلت المدارس، فخرج من كل ذلك عباقر التلاوة تفرد كل منهم بمدرسته من أمثال: محمود علي البنا وعبدالباسط عبدالصمد ومحمود خليل الحصري والبهتيمي وعبدالعظيم زاهر وأبو العينين شعيشع وغيرهم كثير، إن مدرسة التلاوة المصرية بحر لا ساحل له.

استمع لنماذج من المقامات التي ساهم في إعدادها المبتهل الشيخ أحمد شفيق، مدرب المقامات الصوتية:

 

 
[soundcloud url=”https://api.soundcloud.com/tracks/270016532″ params=”auto_play=false&hide_related=false&show_comments=true&show_user=true&show_reposts=false&visual=true” width=”100%” height=’478′ iframe=”true” /]

استعنا في الموضوع بصور من موقع الشيخ عبدالباسط عبدالصمد

مراجع:
  • خير الدين الزركلي، موسوعة الأعلام، الجزء الرابع، ص 191، دار العلم، بيروت 2002
  • علماء الحملة الفرنسية، موسوعة وصف مصر، الجزء الثامن، ترجمة زهير الشايب، 195، مكتبة الأسرة، 1993
  • صالح المهدي، مقامات الموسيقى العربية، تونس، نسخة  pdf دون تاريخ
  • علي عبدالله، التعبير الدرامي والتنغيم في ترتيل القرآن الكريم، المجلة الأردنية للفنون، مجلد 6، 2013
مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر