دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

قنا تحتفل بالمولد النبوي.. طقوس تتوارثها الأجيال منذ قرون

منذ أكثر من أربعة قرون، ما زالت قنا تحتفظ بطابعها المميز في ذكرى المولد النبوي الشريف. فمع حلول المناسبة، تتزين الشوارع والميادين بالأنوار والرايات، وتتهيأ العائلات العريقة لاستقبال الزوار، في مشهد تختلط فيه أصوات الذكر والمديح النبوي مع نغمات المزمار البلدي، لتصنع حالة فريدًة تعكس عمق الموروث الشعبي في صعيد مصر.

مظاهر من البهجة

في القرى والنجوع، تبدأ ليالي المولد النبوي بالذكر والإنشاد الصوفي، بينما تحتل لعبة التحطيب مكانتها الأصيلة، كواحدة من أبرز ملامح الاحتفالات، حيث يتبارز الرجال بالعصي على إيقاع المزمار وسط دوائر حاشدة من المتفرجين.

كما تجوب “دورة المولد” الشوارع في موكب مهيب، يتقدمه الفرسان على ظهور الخيول والجمال التي تعلوها الهوادج. مشهد يختصر قرونًا من الذاكرة الشعبية التي لا تزال تقاوم الزمن وتحافظ على خصوصية الصعيد في إحياء المولد النبوي.

100 عام من التحطيب وليالي الذكر

ترتبط احتفالات المولد في قرية عباسة جنوب قنا باسم عائلة الشيخ يونس، التي تحيي المناسبة منذ أكثر من 100 عام. يحتشد الرجال من مختلف الأعمار في ساحة واسعة بجوار المقام ليمارسوا لعبة التحطيب، كبارًا وصغارًا، على أنغام المزمار.

ويروي الشيخ أحمد يونس، حفيد مؤسس الاحتفال في القرية لـ«باب مصر»، أن الهدف من الليلة، ليس اللعب فقط، بل اجتماع الأحباب وتلاوة القرآن والإنشاد، في تقليد يربط الماضي بالحاضر، ويؤكد حبهم للنبي.

ويشارك يحيى محمد أحمد، لاعب تحطيب يبلغ من العمر 61 عامًا من قرية حجازة مركز قوص، في هذا الاحتفال منذ سبع سنوات بساحة الشيخ يونس. يقول: “تعلقت بالتحطيب منذ الصغر، وأحرص على المشاركة في ليالي المولد كل عام. بعد صلاة العصر نستقبل اللاعبين من كل مكان مع أحفاد الشيخ يونس، نتناول الغداء معا، ثم تبدأ مباريات التحطيب”.

عائلات ومنشدون وقراء قرآن

يستعيد أحمد الجارد، الباحث في التاريخ وأحد أبناء قنا، أسماء عائلات ارتبطت بالمولد في قنا والأقصر وسوهاج منذ 400 عام مثل آل بقا، آل زارع ، آل كمال، وعائلات الأشراف التي تولت تنظيم الاحتفالات في مساجد عدة منها: سيدي عبد الرحيم القنائي، الحجاجية بالأقصر، سيدي القاسم في طهطا، وجزيرة شندويل بسوهاج.

ويضيف أن الاحتفالات كانت تشمل عروض الخيول والمزمار وحلقات الذكر، إلى جانب أشهر المنشدين مثل شوقي القناوي، والشيخ الشريف، كما شارك نجوم التلاوة في مصر، وعلى رأسهم: عبد الباسط عبد الصمد، المنشاوي، محمد الرزيقي، محمد حسنين الكلحي، عبد العظيم العطوان، وفي المديح برزت أسماء مثل أحمد التوني، التهامي، الدشناوي.

المولد قديمًا

يتابع الباحث:” قبل 400 عام، جابت فرق موسيقية شوارع قنا لمدح النبي بقصائد عذبة، وكانوا يتوجهون للعائلات الكبيرة طلبا للطعام والشراب والمال. تضمنت المسيرات الجمال والخيول المزينة بالهوادج، مع قصائد مثل “الجمل هام للنبي”. أما الطرق الصوفية المشاركة فكانت البرهامية، الرفاعية، الشاذلية، ولكل طريقة طابعها الخاص، فالرفاعية مثلا كانوا يتبارزون بالسيوف مرددين “حي يا حي”، مستخدمين الدفوف في الذكر”.

ويضيف أن الأطعمة المرتبطة بالمولد كانت تشمل الملوخية، المفروكة، الزلابية، ولقمة القاضي، حيث يتم توزيعها على المريدين طوال أيام الاحتفال.

صناعة العرائس

لم يكن المولد في قنا أهازيج وإنشادا فقط، بل ارتبط بحرف وصناعات، أبرزها عروسة المولد التي شكلت مظهرا أساسيا للاحتفالات. في الصعيد، كانت تصنع قديما من السكر الأبيض الخالص وتزين يدويا بألوان طبيعية وزخارف بسيطة. ومع مرور الزمن، حلت العرائس البلاستيكية محل السكرية، لكنها ما زالت تحتفظ برمزيتها كهدية أساسية في المولد.

موهبة سارة حسن، ابنة قرية منشأة العماري، في تصميم الفساتين الصغيرة تحولت إلى مشروع لصناعة فساتين عرائس المولد البلاستيكية. تقول لـ«باب مصر»: “بدأت الفكرة عندما أهداني والدي عروسة، فصممت لها فستانًا أعجب أسرتي، فقررت تحويل الهواية لمصدر رزق”.

توضح سارة أنها تنتظر المولد كل عام لتطلق تصميمات جديدة مستوحاة من خيالها أو من صيحات الموضة، رغم صعوبة شحن الطلبات. تبدأ التحضير قبل الموعد بأشهر، فتسافر إلى القاهرة لشراء بعض الخامات أو تطلبها أونلاين. وتبيع منتجاتها في محافظات عدة بأسعار تتراوح بين 350 و500 جنيه حسب المواصفات والمقاس، مؤكدة أنها لا تكرر التصميمات كل عام.</p>

زفة “دورة” الشوارع في المولد

منذ أكثر من مئتي عام، تشهد مدن قوص ونقادة ودشنا احتفالات المولد في زفة مهيبة تجوب شوارع المدينة وأزقتها. ورغم توقف قوص عن الاحتفالات منذ 13 عاما، وغياب دشنا عن المشهد هذا العام لدواع أمنية. بقيت نقادة وفيه للتقليد، تحتفل كما اعتادت بين العمارات الحديثة والشوارع القديمة.

تحمل الهوادج مشايخ الطرق الصوفية على ظهور الجمال، وتزدان الخيول بالفرسان. فيما تسير سيارات مزينة بالشباب الذين يلوحون بالعصي ويرقصون بها على أنغام المزمار. ويتعالى صوتهم تارة بالمديح والأناشيد الصوفية. وتطل السيدات والفتيات من شرفات البيوت على جانبي الشوارع مبتهجات، يلقين الحلوى على الموكب المار. وكأن المدينة كلها تردد مع الزفة: “صلوا على النبي المختار”.

ولم تقتصر الاحتفالات على الأزقة والميادين. بل شملت أيضا حفلات المديح وزفات الطرق الصوفية، ومنها الطريقة المرغنية الختمية في أسوان التي جابت الشوارع بأعلامها، مرددة كلمات المدح في النبي.

الجمل هام للنبي

رغم تغير الكثير من تفاصيل الحياة، يظل المولد في قنا مناسبة استثنائية تفتح أبواب الذاكرة على موروث متجذر وتمنح الناس لحظة نادرة للاحتفال المشترك. هناك تختلط روحانيات الذكر بفرحة الأطفال بعرائس السكر، ومهارة الشيوخ في التحطيب، وأهازيج المنشدين التي لا تزال تردّد: “الجمل هام للنبي”.

اقرأ أيضا:

«ليلة الملوخية».. عادة متوارثة للاحتفال بالمولد النبوي بنجع العقاربة

من العمارة للألعاب الشعبية.. تفاصيل مهرجان الفنون التراثية الأول في قنا

مولد «السلطان عبد الجليل».. روحانيات الصعيد بين الذكر والتحطيب

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.