قصة هدم «القصر الأحمر» بالمنصورة.. مأساة مقننة متكررة
أثارت إجراءات هدم «القصر الأحمر»، أو قصر «إسكندر باشا»، غضب مثقفي المنصورة، واستياء المهتمين بهوية المدينة البصرية ومبانيها الأثرية. ولقيت صور الهدم ضجةً عارمة على مواقع السوشيال ميديا في أنحاء الجمهورية، ولا عجب؛ فقد جعلت السوشيال ميديا من الدولة المصرية -شأن العالم- قريةً صغيرة جدًّا، يتفاعل أبناؤها مع كل حادثة، بعقلانية وموضوعية حينًا، وبالعاطفة الجارفة أحايينَ كثيرة.
ومن المؤكد أن أغلب المتفاعلين على السوشيال ميديا – سواء بالإيجاب أو بالسلب- ليسوا على دراية كافية بالخلفية التاريخية لما وقع يوم الخميس 4 ديسمبر 2025 من أعمال الهدم التي تعرض لها القصر. وليسوا كذلك على معرفةٍ وافية بخلفية المحاولات الجادة من أبناء المدينة. والسعي المتواصل من أجل الدفاع عن القصر، والحفاظ عليه. وضمه إلى قائمة الأماكن المعمارية ذات الطابع الأثري المتميز، ضمن ما يشكل الهوية البصرية والحضارية للمدينة.
مؤسس مبادرة أنقذوا المنصورة
يقول د. مهند فودة، مؤسس مبادرة أنقذوا المنصورة: “المبنى كان مسجَّلًا كمبنى تراثي، على قوائم الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، ‘ضمن سجل المباني ذات الطراز المعماري المتميز. بموجب قرار وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية رقم 226 لسنة 2016. والتي لا يجوز التعرض لها بالهدم أو التعديل، طبقًا لقانون 144 لسنة 2006”.
وتابع: “وفقًا للمادة الثانية منه، فإنه ‘‘يحظر الترخيص بالهدم أو الإضافة للمباني والمنشآت ذات الطراز المعماري المتميز، المرتبطة بالتاريخ القومي، أو بشخصية تاريخية، أو التي تعتبر مزارًا سياحيًّا”.
وبحسب المادة الأولى منه: “تسري أحكام هذا القانون على المباني والمنشآت غير الآيلة للسقوط. وكذا المباني والمنشآت التي يتوافر فيها أحدُ الأوضاع المبيَّنة في الفقرة الأولى من المادة الثانية من هذا القانون، أيًّا كان موقعها أو مالكها”.
حول قانون 144 لسنة 2006
يؤكد د. مهند فودة أنه لا يبدي أي اعتراضٍ على حكم المحكمة، الذي مضى تمامًا وفق القانون. لكنه في الوقت نفسه يطالب ‘‘مجلس النواب‘‘، بالتعاون مع ‘‘جهاز التنسيق الحضاري‘‘، بتشكيل لجنة لدراسة مواد القانون رقم 144 لسنة 2006، وإعادة النظر فيها. ويشير إلى أن طلبه هذا غير متعلق بهذه القضية تحديدًا؛ وإنما بالظاهرة المتكررة في قضايا مشابهة.
الخبراء المنتدبون.. والقيمة النسبية للمبنى
يشير د. فودة إلى أن لجنة الخبراء التي تنتدبها المحكمة عادة ما تتشكل من متخصصين من خارج المحافظة. ورغم كفاءتهم، فإنهم أحيانا يغفلون ‘‘القيمة النسبية‘‘ للمبنى. ويضرب مثالا بالقصر الأحمر: فبالنسبة لمباني القاهرة الخديوية ووسط البلد، قد لا يبدو مميزا، وربما لا يساوي شيئا أمامها، على حد قوله. لكنه بالنسبة لمباني المنصورة، فهو في مقدمة المباني المميزة من حيث قيمته الحضارية. وما يضيفه إلى الهوية البصرية للمدينة. وكأن – لو لقي الرعاية المناسبة- ليكون أحد أبرز معالمها الأثرية ومزارًا سياحيًّا معتبرًا.
ويؤكد أيضا أنه لا يلقي بأي لوم على المالك، موضحا أن المالك لم تتح له البدائل المناسبة ولا الفرص الاستثمارية أو التسهيلات المادية من الجهات المعنية. وتنص المادة 3 من القانون نفسه على أن ‘‘للدولة أن تباشر في أي وقت وعلى نفقتها -بعد إخطار المالك والشاغلين- ما تراه من الأعمال اللازمة لتدعيم وترميم وصيانة المباني والمنشآت المحظور هدمها”. وعلى مدار أكثر من عشر سنوات، قدم المهتمون بالقصر مطالبات عديدة بالتدخل لإنقاذه وإعانة المالك.
إجراءات الهدم
قدم المالك الحالي تظلمًا للجهاز باعتباره مالكًا للقصر وله حق التصرف فيه بالهدم، وقوبل التظلم بالرفض. ثم قدم طعنًا بدعوى قضائية، فانتدبت المحكمة لجنة من الخبراء. وبعد المعاينة، قررت اللجنة أن: “القصر لا يتمتع بمعايير المباني ذات الطراز المعماري المتميز، وأنه مجرد تقليد لطراز معماري في نفس فترة إنشائه. ولا يمثل حقبة تاريخية معينة، وغير مرتبط بشخصية تاريخية، ولم يشهد أي أحداث تاريخية على مستوى دولي أو محلي. كما لا يعتبر مزارًا سياحيًّا‘‘، وذلك وفق بيان محافظة الدقهلية المنشور تزامنًا مع أعمال الهدم.
وبناء على الحكم القضائي، وبعد عرضه على وزارة الإسكان: ‘‘أصدر القرار الوزاري رقم 661 لسنة 2025 بحذف العقار من كشوف الحصر‘‘. ثم عُرض العقار على ‘‘لجنة المنشآت الآيلة للسقوط”، التي درست حالة المبنى وقررت إزالته بالكامل نظرًا لخطورة حالته الإنشائية. وصدر على إثر ذلك ترخيص بهدم العقار بعد استيفاء جميع الإجراءات القانونية.
موقع القصر وقصة بنائه
يقع القصر بشارع أتابك نور الدين، بحي المختلط، قسم ثان المنصورة، الموازي للشارع المعروف اليوم بشارع ‘‘فريدة حسان‘‘، أو “المختلط” سابقًا.
بدأ بناء القصر عام 1920 على يد الخواجة ‘‘ألفريد جبور‘‘ أو ‘‘دبور‘‘، واكتمل بناؤه في غضون عامين، عام 1922. ثم آلَ القصر سنة 1934 إلى ‘‘إسكندر رزق بن رزق حنا‘‘، كما ورد في بعض المصادر. وهو الاسم الذي ينسب إليه القصر اليوم. أما تسميته بـ”الأحمر” فترجع إلى لون طلائه الأحمر غير المألوف بالمقارنة مع المباني الأثرية الأخرى بالمدينة. ويسميه البعض أيضا “بارون المنصورة” لتشابهه النسبي مع قصر “البارون إمبان” الشهير بمصر الجديدة.

معالم القصر
يتكون القصر من ثلاثة طوابق وروف، وتبلغ مساحته 514 مترًا. وقد بني على طرازٍ قوطي مستوحًى من المفردات المسيحية في عمارة الكنائس. حيث تتخذ نوافذه فتحاتٍ على شكل صلبان. وتحيط به من جهاته الأربع حديقة خضراء ذكر أنها كانت تضم مجموعةً من أندر أنواع نباتات الزينة. وفي واجهة القصر يرتفع برجٌ يعلوه سقف مغطى بطبقة من القرميد على هيئة ‘‘قشور السمك‘‘. وهي هيئة يقال إن لها دلالة رمزية في أدبيات الكنيسة.
مآل القصر فيما بعد
بعد وفاة إسكندر باشا، آلت ملكية القصر إلى ابنه الأكبر ‘رزق‘، الذي تزوج وعاش فيه. وبعد وفاته هو الآخر، رحلت أسرته خارج البلاد، تاركين القصر يواجه مصيره المأساوي. إذ بدأ بالتنازع حول ملكيته بين عدة أشخاص، ثم تعرض منذ التسعينيات للإهمال والخراب. ثم عَمل في تخريبه ملاكه الجدد؛ بنزع أبوابه ونوافذه، وتهديم السور المحيط به وبحديقته؛ سعيًا لهدمه. وتعاقبت عليه السنون حتى أصبح في أيامه الأخيرة طللًا باليًا مهجورًا، كعزيز قومٍ ذل، تُنسج حوله الأساطير؛ من مكونه مسكونًا بالجن والعفاريت، التي يزعم بعض الجيران والمارين ليلا أنهم يسمعون أصواتها.
مبادرة ‘‘أنقذوا المنصورة‘‘ والقصر الأحمر
سعت المبادرة، بقيادة مؤسسها د. مهند فودة، سعيًا حثيثًا إلى إنقاذ القصر الذي يعتبر في نظرها تحفةً معمارية داخل مدينة المنصورة، لدرجة أن المبادرة حينما قررت استخدام ‘‘لوجو‘‘، لصفحاتها على مواقع التواصل، وقع اختيارها على هذا القصر بالتحديد، منذ تأسيسها عام 2013. لكونه في نظرها خير معبر عن توجهاتها واهتماماتها الرئيسية.
وكان من أبرز الأنشطة التي نفذتها المبادرة: إقامة حفل بعنوان ‘‘أوبرا البلكونة‘‘ داخل القصر، بالتعاون مع ‘‘محطات للفن المعاصر‘‘، مساء السبت 14 مارس 2015م، وامتد الحفل لمدة ساعة كاملة بحضور عشرات من شباب المنصورة. حيث كانوا يستمعون لمزيجٍ من الطرب الشرقي، قدمه الفنان أحمد صبري، والغناء الأوبرالي الذي قدمته الفنانة لبنى الدغيدي. وذلك كان دعوةً جادة من المبادرة، والقائمين عليها، والمشتركين فيها. من أجل الحفاظ على القصر مما تعرض له من إهمال، ومن الهدم المخطط له.
كما قدمت المبادرة فيما بعد حلولًا جادة ومقترحاتٍ بديلة للاستفادة من القصر. وطالبَت الجهات المعنية بالأمر بالتدخل وطرح القصر للاستثمار بعد الاتفاق مع المالك، وإعادة ترميمه والاستفادة منه على ما يرضي جميع الأطراف.
مباني مماثلة
على الرغم من أن “القصر الأحمر” لقي مصيره المحتوم وفق إجراءات قانونية سليمة، فإن في المنصورة وغيرها من المدن المصرية مبانيَ مماثلة لها بُعد تاريخي وقيمة حضارية، وحضور في ذاكرة ووجدان أبناء تلك المدن. جار عليها الزمن، وتركت مهجورةً تحت وطأة الإهمال، وتتعرض لنفس تلك الإجراءات ‘‘القانونية‘‘. وينتهي بها الأمر مسوَّاةً بالتراب، لم تصبح أثرًا بعد عين، وإنما لم يصبح لها أي أثر.
ويبقى الأمل معقودا على الجهات المعنية، ومن بيدهم مقاليد الأمور؛ للنظر في هذا القانون بعين الناقد البصير، ومعالجة ما يمكن معالجته من ثغرات، وسد الباب على من يحاول التحايل عليها، من أجل تحقيق غرضه. فالغاية العظمى هي تحقيق العناية الكاملة، بالهوية البصرية والحضارية للمدن المصرية، بالنظر لكل مدينة على حدة، والحفاظ على معالمها التراثية ودعمها، بدلًا من السعي في هدمها. ولن يتم إلا بالتعاون التام بين الملاك، والجهات المعنية، بتوفير البدائل التي تعود على جميع الأطراف بالنفع العام.
اقرأ أيضا:
حكاية «فواخير طلخا».. من دخان الأفران إلى صمت الشارع
رحلة التآليف المولدية عبر القرون.. من كتب الموالد إلى أصوات المشايخ
«ليلة الملوخية».. عادة متوارثة للاحتفال بالمولد النبوي بنجع العقاربة





