قراءات جديدة في العمارة والأدب السكندري خلال فعاليات «أيام التراث»
تنوعت المحاضرات التي شهدتها الدورة السادسة عشرة من احتفالية «أيام التراث السكندري» لتقدم نظرة شاملة على تاريخ المدينة ووجوهها المتعددة. تناولت الموضوعات جوانب من التراث المعماري والفني والأدبي، وطرحت قراءات جديدة في تاريخ الطباعة والعمارة. وجمعت اللقاءات بين باحثين وفنانين ومهتمين بالتراث، في حوار مفتوح يستعيد ذاكرة المدينة ويبحث سبل الحفاظ عليها أمام تغيرات الزمن.
بالوثائق.. الإسكندرية عاصمة الطباعة الأجنبية
في تصريح خاص لـ«باب مصر»، قال الدكتور أحمد منصور، مدير مركز دراسات الخطوط بمكتبة الإسكندرية، إن بحثه يدور حول كون الإسكندرية عاصمة الطباعة الأجنبية في مصر، مشيرا إلى أن هذا العمل استغرق سنوات من البحث. وتمكن خلال العام ونصف من الحصول على مستندات ووثائق قديمة تتحدث عن المطابع التي كانت قائمة في المدينة.
وأوضح أنه تحقق من هذه المطابع من خلال إنتاج الكتب الموجود في قسم الكتب النادرة بمكتبة الإسكندرية.
وأضاف “منصور” أن أهم مطبعتين تناولهما البحث هما: المطبعة الفرنسية لأنطوان موريس، الذي كان عاملا في مطبعة بولاق قبل أن يؤسس مطبعته الخاصة. ولد موريس في جنوب فرنسا، وجلب معه ماكينة طباعة يُطلق عليها “ألوزيه” تعمل يدويا وتطبع أوراقا كبيرة الحجم. وقد تأسست مطبعته في الإسكندرية عام 1875 بالعقار المجاور لكنيسة سانت كاترين بمنطقة المنشية. وتُعد أول مطبعة تطبع الحروف الهيروغليفية في أواخر القرن التاسع عشر.
أما المطبعة الأخرى، فهي مطبعة اليوناني لاجوداكيس، الذي ترك أثرا بارزا في تاريخ الإسكندرية. إذ أسس مصنعا للورق وآخر لتغليف السجائر باسم “ورق بفرة”. وكان الأول من نوعه في المدينة، وتواجد بمنطقة المحمودية واستمر حتى ستينيات القرن الماضي. ومن أهم إنتاجه “قاموس الإدارة والقضاء”.
وبين منصور أن إنتاج مطابع الإسكندرية كان يتم توزيعه داخل المدينة، وفي القاهرة وبورسعيد، بل ويصدر أحيانا إلى الخارج. حيث تعيش الجاليات الأجنبية.

توثيق الطباعة الأجنبية في الإسكندرية
أوضح الدكتور أحمد منصور أن بحثه يتضمن تحليلا للإصدارات والمعلومات التاريخية والروايات التي تسهم في توثيق تاريخ الطباعة الأجنبية بالإسكندرية. كما استعان بالدراسات المنشورة على موقع مركز الدراسات السكندرية الفرنسي حول الصحافة الفرنسية والفرانكوفونية. إضافة إلى الكتب الموجودة في مكتبة الكتب النادرة بمكتبة الإسكندرية.
وأشار إلى أن مشاركة هذا البحث في الدورة الـ16 من “أيام التراث السكندري”، التي حملت عنوان “فسيفساء الأحياء”. جاءت لما كشفت عنه الدراسة من انتشار المطابع قديما في معظم أحياء المدينة مثل كليوباترا ومحرم بك والمنشية. سنجد تقريبا في كل حي مطبعة للجاليات الأجنبية أو للمصريين.
رمسيس ويصا واصف.. العمارة بروح الإحساس
قالت المهندسة المعمارية والباحثة المستقلة إحسان أبو شادي، المشاركة في تأليف كتاب “رمسيس ويصا واصف في الإسكندرية والبحيرة”، إن فكرة العمل على الكتاب بدأت عام 2015. بعد أن لاحظت غياب كتاب يجمع كل أعمال ويصا واصف.
وأضافت أن الكتاب يوثق معظم أعماله المعروفة، رغم وجود مشاريع أخرى لم توثق بعد. وكان المصدر الأهم في إعداد الكتاب قسم الوثائق المعمارية في مكتبة الجامعة الأمريكية.
وأشارت “إحسان” إلى أنها عثرت على رسومات لمشروع كنيسة القديس يوسف بالإسكندرية، الذي لم ينفذ بسبب اندلاع ثورة 1952. ووصفت أسلوب ويصا واصف بأنه “عمارة تعبر بالإحساس أكثر من الزخرفة”.

مشروع فندق فلسطين
أما في مشروع فندق فلسطين بالإسكندرية، فقد شارك في تصميم سقف صال الفندق فقط، بطلب من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. حين جرى إنشاء الفندق بسرعة لاستضافة المؤتمر العربي عام 1964. حيث أنجزت الأعمال في ستة أشهر فقط. ونفذ ويصا واصف القبة الجبسية المزخرفة والملونة في سقف الصالة.
كما صمم الزجاج الملون في كنيسة الشهيد مارمينا بفلمنج. بينما في كنيسة الشهيدين أباكير ويوحنا بأبوقير وجد أن التصميم المنفذ يختلف عن ما ورد في أرشيفه. كذلك وضع بصمته في كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل بدمنهور التي بنيت في خمسينيات القرن الماضي.
وقدمت “إحسان” عرضا لتصميماته الخاصة بفيلات أبوقير، ومنها فيلا المصيف التي صممها لوالد ووالدة زوجته “أوجيني عبد السيد وحبيب جورجي” على طراز البحر المتوسط. وكذلك فيلا والدته برلنتي يوسف التي بناها على الطراز الحديث.
الإسكندرية وكڤافي .. بين البيوت والأبيات
تحدث الدكتور محمد عادل دسوقي، رئيس قسم العمارة بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا بالعلمين، عن سيرة حياة الشاعر كڤافي، السكندري ذو الأصول اليونانية. موضحا أنه ولد في الإسكندرية وتلقى جزءا من تعليمه فيها، وعمل بها حتى وافته المنية ودفن في ترابها.
وأكد “دسوقي” أن كڤافي شاعر بارز ومجدد يستحق الاهتمام العالمي، مشيرا إلى أن بداية علاقته به كانت أثناء مشروع إعادة إحياء متحف كڤافي بالإسكندرية. حيث شارك ضمن لجنة متخصصة درست سيرته وحياته الأدبية.
وأوضح أن كڤافي كان مشغولا بالمعاني والأفكار أكثر من اهتمامه بالمحسنات اللغوية. ولم يصدر في حياته أي ديوان مطبوع. إذ كان يعدل قصائده باستمرار بالحذف أو الإضافة، وينشرها في المجلة الدورية الخاصة بالجالية اليونانية. ولم يجمع شعره في كتاب إلا بعد وفاته بعامين ثلاثة.

العودة إلى الإسكندرية
أضاف “دسوقي” أن كڤافي كان شديد التعلق بمدينة الإسكندرية وشوارعها التي عاش فيها، خاصة في محيط المنشية ومحطة الرمل وشارع فؤاد. ورغم سفر عائلته إلى بريطانيا بعد وفاة والده. حيث تلقى تعليمه الأساسي هناك، فإنهم آثروا العودة إلى الإسكندرية مجددا. وبعد قصف الاحتلال الإنجليزي للمدينة عام 1882، انتقلت الأسرة إلى إسطنبول لفترة قصيرة. ثم عادت مرة أخرى إلى الإسكندرية. ويعد آخر بيت أقام فيه كڤافي هو المبنى رقم 17 بشارع رشيد (فؤاد حاليا)، والذي أصبح متحف كڤافي.
وبسبب الضائقة المادية التي ألمت بأسرته بعد أن كانت من أغنى عائلات المدينة. اضطر كڤافي للعمل موظفا في وزارة الري، كما عمل مضاربا صغيرا في البورصة. لكنه ظل وفيا للشعر، يكتب قصائده ويلقيها في الأندية الاجتماعية والثقافية مثل كازينو سان ستيفانو ومقهى أتينيوس بمحطة الرمل. وكانت الإسكندرية حاضرة دائما في وجدانه وإبداعه الشعري.
وأشار “دسوقي” إلى أن بيت كڤافي ومكتبه كانا أكثر الأماكن التي يقضي فيها وقته. كما كان يتردد على مكتبة بلدية الإسكندرية، والمتحف اليوناني الروماني، وتياترو زيزينيا، باعتبارها من أهم المؤسسات الثقافية آنذاك. حيث كان يبحث من خلالها عن التفاصيل الصغيرة وقصص المهمشين والمهزومين أكثر من المنتصرين.
واختتم قائلا إن كڤافي دفن في مقابرالجالية اليونانية بالإسكندرية، التي تُعد من الكنوز المعمارية والفنية المبهرة.
الإسكندرية بين الماضي والحاضر
قالت الباحثة ياسمين حسين، مدير البحوث في منظمة الإنسان والمدينة للأبحاث الإنسانية والاجتماعية، في تصريح لـ«باب مصر»، إن أيام التراث السكندري من أهم الفعاليات في الثقافية في المدينة، لأنها تدعو للتفكير العميق في الشأن السكندري. مؤكدة حرصها على المشاركة فيها باستمرار.
وأوضحت أنها شاركت هذا العام بمحاضرة في مكتبة الإسكندرية لمناقشة كتاب “الإسكندرية بين الماضي والحاضر”، مشيرة إلى أن العمل على الكتاب بدأ بين عامي 2015 و2018 وصدر عام 2021. وكان هدفه رصد التحولات التي شهدتها المدينة بطريقة مبسطة تتيح للجمهور فهمها دون أحكام مسبقة أو توجيه.
كما شاركت في فعالية أخرى عبارة عن ورشة تفاعلية تهدف إلى تشجيع الناس على كتابة ترثهم بأنفسهم والبحث فيه من خلال ألعاب تعليمية وتراثية.
وأضافت “ياسمين” أن رؤية الكتاب تتوقف عند عام 2018 فقط، لكن السنوات التالية شهدت تغيرات كبيرة في المدينة قائلة: “في رأيي، المدينة كائن حي يتأثر ويؤثر، فهي ليست مفعولا به فقط. بل لها رد فعل على كل هذه التغيرات. فالإنسان والبيئة يؤثران في بعضهما سلبا أو إيجابا. وهذا التفاعل ينتج تغيرات قد لا تتناسب لاحقا مع تطور الأجيال واحتياجاتها. لذا تبقى مهمتنا الأساسية هي التوثيق المستمر. لأن الإسكندرية تغيرت كثيرا منذ 2017 وحتى اليوم”.

“قصة حي”.. خرائط تكشف تحولات المدينة
شهد اليوم الأول من الاحتفالية افتتاح معرض “قصة حي” بالمعهد الفرنسي. حيث أوضحت الدكتورة سيسيل شعلان، المسؤولة عن قسم المساحة والخرائط بمركز الدراسات السكندرية الفرنسي، في تصريحها لـ«باب مصر» أنها أعدت خرائط المعرض بالتعاون مع عدد من أقسام المركز الفرنسي للدراسات السكندرية.
وأشارت إلى أن المعرض يضم خرائط من عام 1850 تبرز التطور العمراني والإداري الذي حدث في الإسكندرية، وتغير الأسماء والحدود الإدارية مع توسع المدينة شرقا وغربا. مؤكدة أن الهدف من المعرض هو تتبع التطور بمرور الوقت.
تطور الأقسام على مر السنين
قالت “شعلان” إن من أبرز التحديات التي واجهتها قلة الوثائق والخرائط التي تظهر حدود المدينة بدقة. لكنها استطاعت، عبر تتبع المستندات القديمة ووصفها الإداري، رسم خريطة لتطور الأقسام على مر السنين. مثل سجلات التعداد السكاني التي توضح الأقسام والشياخات. وأضافت أن المعرض يضم خرائط تظهر تقسيم الإسكندرية الإداري في أعوام 1910 و1970 و2017.
وتابعت: من خلال استطلاع آراء الزائرين، اكتشفنا أن الناس لا تستخدم الحدود الإدارية الموجودة على الخرائط. بل تعتمد على الأسماء الأصلية للأحياء أو على معالم مميزة في المنطقة، حتى وإن تغير اسمها لاحقا.
حفلات وجولات ميدانية
حرص مركز الدراسات السكندري برئاسة توما فوشيه، على أن تتضمن الدورة الـ16 من “أيام التراث السكندري” عددا من الفعاليات الفنية والموسيقية المتنوعة لجمهور المدينة منها:
حفل غنائي “الحي اللاتيني” في المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية. وعرض حكي موسيقي “راكيتوس” للفنانين محمد عبد الواحد وفريد جزر، على مسرح الجزويت الثقافي. كما استقبل متحف الإسكندرية القومي حفل غنائي “كوم الدكة” لفرقة فلكلوريتا. وعرض صوت “بصمة صوت” في نادي البحارة الألمان، للفنان أسامة حلمي (ؤزؤز). تلاه حفل غنائي لـBako FM. وجاء حفل الختام “باكوس من تراث إذاعة الإسكندرية” للفنان ابن البلد.
كما شملت الدورة جولات ميدانية متخصصة، منها: جولة مع ميسرة حسين بمنطقة بحري، وجولة في شارع فؤاد مع فريق فوت نوت. وزيارة لمتحف كلية الفنون الجميلة، وزيارة لقنصلية فرنسا بالإسكندرية. وختام الفعاليات بجولة في قصر عمر طوسون بمنطقة جليم.
إلى جانب ذلك، شهدت الاحتفالية عروضا مسرحية على مسرح المعهد الفرنسي ومركز الجزويت.
اقرأ أيضا:
المعماري محمد عوض في افتتاح «أيام التراث السكندري»: «هل يمكن أن يكون للمدينة DNA؟»
«ريم بسيوني» في منتدى الإسكندرية والمتوسط: العمارة الإيطالية منحت المدينة ثراءً ثقافيا فريدا
بين التطوير والتراث.. شارع «أبوقير» بالإسكندرية يفقد أشجاره المعمَرة





