قاهرة يوليو (14): ماذا قالت ضحى عن قاهرة الستينات؟

من بين الروايات التي تنتمي إلى هذه الموجة الأدبية الجديدة، تبرز رواية «قالت ضحى» لبهاء طاهر، التي صدرت عام 1985. طاهر (1935-2022) روائي ومترجم مصري، بدأ مسيرته في الإذاعة المصرية منذ عام 1957، حيث قدم برامج لاقت نجاحا واسعا. أيد بهاء طاهر ناصر وأيديولوجيته. ثم عارض نظام السادات الذي منعه من النشر وأجبره على مغادرة البلاد. عمل في جنيف مترجماً في الأمم المتحدة بين عامي 1981 و1990.
أما مسيرته الروائية، فقد بدأت عام 1966 بمجموعة قصصية بعنوان “الخطوبة”. فيما نشر عدة روايات تُرجمت إلى لغات متعددة مثل “قالت ضحى” (1985)، و”خالتي صفية والدير” (1991)، و”الحب في المنفى” (1995)، و”ذهبت إلى شلال” (1999)، و”واحة الغروب” (2006). حصل عام 2000 على جائزة جوزيبه أتشيربي عن رواية “خالتي صفية والدير”. وعن رواية “واحة الغروب”، التي تدور أحداثها حول الحركة الوطنية والنهضة الثقافية العربية في القرن التاسع عشر، نال الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر). على الصعيد الوطني، حصل طاهر على جائزة الدولة في الأدب عام 1998.
وبحسب الروائي الفرنسي إدجار ديفيديان، تُعتبر أعمال طاهر تعبيرا روائيا عن المجتمع المصري “بصراعاته وتناقضاته، وتطلعاته للحرية والتحرر، وتطلعاته، غباره وعطره، ألوانه، ونوره”.
***
تتناول رواية “قالت ضحى” تأثيرات ثورة 1952 على المجتمع المصري. فمن خلال الأحداث والشخصيات والحوارات، خاصة تلك التي تدور بين ضحى والراوي، تتشكل صورة تحولات المجتمع القاهري وتغيرات وسط المدينة. في الرواية نجد الراوي رجلا في الثلاثينيات من عمره، يعمل موظفا حكوميا يتعرف على ضحى التي تقارب عمره، وهي امرأة متزوجة وأكثر تمردا منه. تنتمي ضحى إلى الطبقة النخبوية قبل 1952. وفرت لها هذه الطبقة تعليما مختلفًا فحصلت على دروس خاصة في العزف على البيانو والفروسية كما تعلمت شيئًا في الزراعة وفي اللغة الفرنسية، قبل أن تبلغ الخامسة من عمرها ومن ثم سلكت ضحى مسارًا تعليميًا نادرًا في ذلك العمر مقارنة ببقية المصريين في تلك المرحلة.
تجري أحداث الرواية في الستينيات، حيث تنتقد ضحى بقوة تلك الحقبة. ومن خلال تأملات الراوي في حالاته النفسية وإدراكه للآخر ولضحى تحديدًا، يمكن للقارئ فهم المرحلة وأسباب الاستياء منها. بانتمائها لعائلة أرستقراطية وإقطاعية، تمثل ضحى وزوجها شكري العصر “البائد”. حيث وضع النظام الناصري وضع كل ممتلكاتهما تحت الحراسة:
قالت: “سأحكي لك عن أقرب إنسان أعرفه، عن زوجي. عندما تزوجنا كان يملك كل شيء، الشباب والثروة والمجد. كان عضوا بارزا في الحزب والحكومة، مدير مكتب الوزير أو شيئا من هذا النوع، كانت كل خيوط الوزارة التي يعمل فيها بيده. عندما جاءت الثورة وأخذوا أرضه وأرضي لم يهتم بذلك، قال ما بقي يكفينا، ولكنهم عندما أخرجوه من الوزارة بعدها إلى المعاش مع من أخرجوهم وقتها لم يصدق ما حدث”.
***
من خلال الحوارات بين ضحى والراوي، ومع أصدقائها وأقاربها، تُستحضر الثورة والثورة المضادة بصفة دائمة. وتُطرح أسئلة ذات صلة بالمرحلة حول فساد رجال الدولة الجدد الذين تحولوا إلى الإقطاعيين جدد. كما تتعرض الرواية بالنقد لحرب اليمن التي فقد فيها قناوي، إحدى شخصيات الرواية، ساقه، وكذا الصراع العربي الإسرائيلي، كل ذلك وسط بانوراما ترصد التحولات المجتمعية الكبرى في فترة الثورة.
في مقدمة الطبعة الأولى للرواية، يؤكد الروائي والشاعر والناقد الأدبي إدوار الخراط على الصفات الأدبية للرواية التي يعتبرها، وفقاً للمعنى العربي للمصطلح، “جمال الرواية”:
“جمالها (الرواية) يأتي من كون بهاء طاهر يحكي، بذكاء وبلمسات ناقدة جارحة رقيقة معا، لحقبة مضطربة وملتبسة من حياتنا. تحوي آمالاً عريضة وإحباطات عميقة. يؤرخ لقاهرة الستينيات بمعالمها التي اندثرت وكأنه بقوة الفن والحب يريد أن يبعثها فتبقى أبدا وبمزاجها السياسي والاجتماعي الذي اندثر أيضاً كأنما يريد أن يثبته في جو من الرثاء والحيرة معا. لكنه فوق ذلك يؤرخ تقلبات الروح والفكر عند أبطاله، وللهوى المشبوب الذي يحلق بقلوبهم ويمزقها ويطوح بها في شباك من العطب والمجد معا”.

***
تتناول الرواية التحولات الاجتماعية والسياسية للبلاد دون إغفال المشهد الحضري تحت موجة “التمصير” الناصرية التي تُرجمت في بناء المباني الجديدة التي ظهرت في وسط المدينة. أثناء زيارة الراوي لمكتب صديقه القديم حاتم، الموظف الحكومي الأعلى منه درجة، ينظر الراوي من نافذة المكتب الواقع في شارع البورصة بوسط البلد ويراقب مبنى الإذاعة المصرية المحاط بالمباني الحديثة المشيدة:
“ومن نافذة ذلك المكتب كان يبدو مبنى الإذاعة العتيق بحجارته الضخمة البنية والمربعة ونوافذه الواسعة المتجاورة وكنت كلما نظرت إلى هذا المبنى من نافذة مكتب حاتم رأيته غريباً وسط البيوت الحديثة المحيطة به وكأنه أثر غامض من حضارة مجهولة”.
ومن خلال تأملات الراوي يمكن لنا استنتاج أن عملية الهدم والبناء التي ابتدأت بعد 1952 تبدو وكأنها نجحت في محو الهوية الأصلية للمباني القديمة في منطقة وسط المدينة: فمبنى الإذاعة المصرية، المبني عام 1934 على الطراز النيو كلاسيكي، كان ملكا لشركة شل حتى 1951 حتى اشترته الحكومة الوفدية حتى يضم استوديوهات الإذاعة ومكاتبها في مبنى واحد بعد أن كانت متناثرة في شقق متعددة بوسط البلد. منذ 1955، أصبح المبنى مقرا للإذاعة المصرية حتى افتتاح مبنى التلفزيون والإذاعة على كورنيش النيل عام 1960.
***
نلاحظ أن أهمية هذا المبنى للراوي تنبع من تاريخه وليس من استخدامه. المبنى محاصر بمباني جديدة يصفها الراوي بـ“الحديثة” وليس الجديدة أو الحديثة العهد. إنها إذن مباني ترمز للتحديث الناصري وليست مجرد مباني جديدة، لا سيما أنها قد حلت محل المباني القديمة في المنطقة.
كما أن اعتبار مبنى الإذاعة القديم أثرا من حضارة مجهولة يؤكد على المحو الكامل ضد أثار العهد البائد. تتضح أيضا فكرة فقدان ذاكرة المكان التي بدأت تولد نتيجة الإجراءات التي اتخذتها الدولة التي يبدو أنها تريد أن تترك بصمتها على حساب التاريخ:
“والتفت حاتم بجانب رأسه إلى النافذة وإلى مبنى الإذاعة الذي كان فوقه جنديان يحملان مدفعين رشاشين وكان شارداً تماماً وهو يتكلم”.
نظراً لأهمية المبنى، يحرسه عسكريون وليس الشرطة. وهنا تبدو السياسات الأمنية للنظام ما تزال مرتبطة بأصوله العسكرية. وقد ذكرنا في أوائل حلقات السلسلة سابقاً كيف ظل العنصر الأمني والحاجة إلى التأمين حاضرين في عقلية الضباط الأحرار وهو ما يفسر وجود “القبضة المحكمة”، إحدى السمات البارزة للنظام الناصري، وهيمنتها على مبنى الإذاعة في قلب وسط البلد.
***
تماما مثل رواية “لا تطفئ الشمس”، تستحضر “قالت ضحى” الأنشطة الاستهلاكية في وسط البلد، خاصة النزهات في شارع قصر النيل حيث كانت تقع أشهر المتاجر وبيوت الأزياء ولكن دون نسيان المظهر العام:
“وفي ذلك الصيف كنا نسير معاً في شارع قصر النيل. كانت تلك أول مرة تظهر فيها طراز الفساتين التي تعلو الركبة، والعيون تحاصر البنات اللاتي يسرن على الرصيف وقد تعرت سيقانهن الطويلة وأفخاذهن المشدودة، ولكن البنات كن يمشين ببطء ويتوقفن أمام واجهات المحلات يتظاهرن بعدم المبالاة بالعيون المحدقة والتعليقات الفاضحة التي تصدر أحياناً من المارة وأحيانا من السيارات المتتابعة في الطريق”.
في هذا المقطع، يقدم الراوي فكرة عن المجتمع الذي بدأ يظهر في وسط المدينة خلال الستينيات. الموضة الجديدة، موضة التنورة القصيرة (الميني جوب)، لم تكن لتُتقبل بسهولة من المجتمع الجديد الذي بدأ يسكن مركز العاصمة. في العهد الجديد، نجد أن الحرية الشخصية للفتيات تتعرض لمضايقات من السكان وزوار المدينة. إنهم مستفزون ومتحرشون لفظيا، وهو ما يتناقض مع الطابع الكوزموبوليتي الذي عرفه وسط البلد منذ قرن من الزمان. أما الراوي، بصفته موظفا من الطبقة الوسطى، لا يعتاد رؤية الفتيات في الأزياء القصيرة ويشعر بالحرج. على العكس من ضحى، الأرستقراطية المتمردة، التي تسخر من خجله:
“وعندما تمر إحداهن بجانبي وأنا مع ضحى كنت أنظر أمامي مباشرة ولكن ضحى تلفت انتباهي وتتطلع إلى وجهي فيزداد ارتباكي بينما تضحك هي”.
***
لاحقاً في الرواية، تفرض هذه الموضة الجديدة نفسها في الحياة اليومية وتصبح عادية للسكان والمارة لدرجة أن الراوي يتوقف عن التفكير فيها. رغم عملية التمصير والتأميم، لا يمكن لوسط البلد إلا أن يتبع تطور الموضة في العالم:
“كان عدد البنات اللائي يرتدين الميني جيب ويتمشين في الشارع يزداد وعدد الرجال الذين يحملقون فيهن أو يقولون تعليقات بذيئة أقل، ولم أعد أخجل من النظر إليهن وأنا أمشي مع ضحى بل لم أعد أنتبه إليهن”.
نهاية الكوزموبولتانية
في الحلقات السابقة للسلسلة، أوضحنا سابقا كيف نُفذت إجراءات التأميم في إطار عملية “الصفحة البيضاء” ضد النخب والأجانب من قبل الدولة الناصرية لتمصير مركز العاصمة وجعله في متناول الطبقات الوسطى. أثر رحيل الأجانب نتيجة هذه الإجراءات على الحياة الكوزموبوليتية لوسط البلد. تتعرض ضحى في مرات عديدة لهذه المسألة لدرجة من خلالها يمكن فهم الاختفاء التدريجي للنمط الحياتي القديم:
“وكنا في ميدان سليمان فدخلنا إلى محل صغير بجانب كشك الجرائد، تقدم صاحب المحل الأجنبي من ضحى وسألها بالفرنسية قائلاً يا مدام؟ فقالت هي أيضا بالفرنسية نعم، اثنان. ولما قدم لنا القهوة الإكسبرسو، ظل يقف خلف الحاجز الخشبي صامتا وهو يتطلع إليها فهزت رأسها بعد رشفة وقالت: تمام. وابتسم الرجل وهو يبتعد عنا ليجلس على مقعد طويل أمام آلة حاسبة. ووقفنا نشرب القهوة صامتين أمام العارضة الخشبية الصغيرة ومن خلفنا الميدان. لم يكن في المحل سوانا”.
***
أولاً، نلاحظ استخدام الاسم القديم للميدان “سليمان باشا”، لكن الراوي يفضل حذف لقب “الباشا” رغم أن الاستخدام اليومي يتضمن الاسم كاملاً. نعتقد أن الراوي أراد التأكيد على فكرة إلغاء الألقاب الشرفية التي حققها النظام الجديد في السلطة. كما نلاحظ أن الراوي لا يستخدم الاسم الجديد للميدان “طلعت حرب” بالرغم من تغيير اسم الميدان رسميًا في ذلك الوقت. في رأينا، أراد الراوي التمييز بين الاسم القديم للميدان وتسميته الجديدة لإبراز مرحلة انتقالية بين اسمه القديم “سليمان باشا” والجديد “طلعت حرب”. الحل الوسط في تسمية “سليمان” الذي تم استخدامه طوال أحداث الرواية لضمان هذا التمييز.
في الفقرة السابقة أيضًا، يمكننا ملاحظة التزام المالك الأجنبي للمقهى الصغير بقواعد الاتيكيت تجاه زبائنه: ظهر ذلك في مخاطبته لضحى أولاً، إضافة إلى محادثتها بالفرنسية ثم انتظاره للرشفة الأولى من أجل استطلاع رأي ضحى. الأجواء الصامتة والفراغ حول ضحى والراوي يعكسان خلو المكان من الزبائن المعتادين للمقهى الذي يقدم القهوة الإيطالية (الإسبرسو) بينما معظم المصريين لا يشربون سوى القهوة التركية التي تقدم في المقاهي التقليدية.
على بعد خطوتين من مقهى القهوة الإيطالية المهجور، يوجد محل سندويشات الفول. لكن على العكس من المقهى الصغير، يكتظ محل السندويشات بالزبائن:
“ولكن في محل فول على ناصية الميدان كان هناك راديو آخر وكان عبد الوهاب يقول بصوت حزين ‘الهوان وياك عزة’ وكان زحام شديد وصياح أمام محل الفول لشراء السندويشات وكأنها مظاهرة”.
***
هنا نمط استهلاك ونمط خدمة مختلفان في نفس المشهد. انتشار محال سندويشات الفول (الفول المدمس) في وسط البلد التي تقدم الإفطار الرمزي والتقليدي للمصريين يستحضر بوضوح الطبقة الاجتماعية الجديدة التي انتقلت للسكن هناك. علاوة على ذلك، يبدو أن صوت الراديو كان مرتفعًا لدرجة أن الراوي يسمعه من داخل المقهى “الإفرنجي” ويتبين كلام الأغنية وهو نمط معمول به في المقاهي ومحال السندويشات “البلدي” في مصر.
يمكننا بسهولة مقارنة ممارسات المحلين الواقعين في نفس الميدان، المقهى ومحل السندويشات. الأول صامت ومهجور والمالك أجنبي يطبق قواعد الأدب مع زبائنه. بينما الآخر مكتظ ومليء بالصراخ وصوت الراديو والبائع من المؤكد أنه يتواصل مع الزبائن باللغة العربية إلا أن قواعد الإتيكيت غائبة حيث أن الزبائن مجبرون على الصراخ للتغطية على صوت الراديو وفي سبيل تلبية طلباتهم.