في مناقشة كتاب المؤرخ هاني حمزة.. لماذا انحاز «ابن تغري بردي» للشعر؟
أقيمت مؤخرًا ندوة لمناقشة كتاب «أبو المحاسن بن تغري برد.. مؤرخ مصر المملوكية»، الصادر عن دار العين للنشر، للمؤرخ والمعماري الدكتور هاني حمزة، وذلك بمكتبة ديوان بمصر الجديدة. يناقش الكتاب سيرة المؤرخ ابن تغري بردي، الذي يصفه المؤلف بأنه المؤرخ الأهم في الحقبة المملوكية، وبالأخص القرن التاسع الميلادي.
يرى هاني حمزة أنه، بالرغم من المكانة العلمية الكبيرة لابن تغري بردي، فإنه لا يحظى بالحضور نفسه في الوعي المصري العام. كما هو الحال مع مؤرخين مثل المقريزي، الذي خلد اسمه في الشوارع والمدارس واقترن بـ”خطط القاهرة” قديما وحديثا. أو ابن إياس الذي وثق لحظات سقوط الدولة المملوكية، أو الجبرتي الذي صار اسمه مرادفا لكلمة «مؤرخ» في الذاكرة الشعبية. أما ابن تغري بردي، فقد اقتصر حضوره خارج الأوساط الأكاديمية على شارع وميدان يحملان اسمه بصيغة مُجهلة: “جمال الدين أبو المحاسن”، دون ذكر اسمه العلم أو لقبه، فلا يدرك كثيرون من هو هذا الرجل.
شغف شخصي
يكمل حمزة: “جاء العمل بدافع شغف شخصي طويل بهذا المؤرخ، ورغبة في إعادة الاعتبار إلى شخصية ظلمها التهميش. رغم دورها المحوري في تسجيل تاريخ حقبة شديدة الحيوية. وهو دعوة مفتوحة لإعادة قراءة التاريخ، لا من خلال الوقائع فقط، بل عبر أصحابه أيضا”.
ويضيف: “اعتمدت على المنهج التحليلي في محاولة للوصول إلى شخصية أبو المحاسن بن تغري بردي، من خلال الرجوع إلى الوثائق والمصادر المعاصرة. وحاولت أن يكون الكتاب موجها للقارئ العام الذي يريد أن التعرف على ابن تغري بردي، الذي نشأ القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي. وهو القرن الذي يعده كثير من المؤرخين قرن التحول. إذ يمثل نهاية العصور الوسطى وبداية إرهاصات العصر الحديث”.
ويقول: “للأسف، كانت نهاية العصور الوسطى بالنسبة لمصر بمثابة نهاية أزهى العصور التي شهدتها البلاد، إذ مرت بعدها بكبوة شديدة خلال ما يطلق عليه العصر الحديث. وهي كبوة لم نخرج منها حتى الآن. فأهم ما حدث في هذه الفترة كان الاجتياح المغولي الثاني بقيادة تيمورلنك، وسقوط الأندلس، واكتشاف أمريكا. ما أدى إلى تفاقم الثروات في كل من إسبانيا والبرتغال، قبل أن يصل الرحالة البرتغالي «فاسكو دي جاما» إلى الهند، ويضع نواة طريق التوابل الرئيسي نحو الشرق. وهنا كانت بداية سقوط الدولة المملوكية التي اعتمدت كثيرًا على تجارة التوابل، لكن تحويل هذه التجارة نحو البرتغال بدلًا من مصر ساهم في انهيارها”.
فخ الخرافة
يكمل «حمزة»: “أما ابن تغري بردي فقد عاصر 16 سلطانًا، بداية من برسباي وصولًا إلى الأشرف قايتباي. وكان قريبًا جدًا من بعض السلاطين، كما تزوجت أخواته من أبناء السلاطين. هذا إلى جانب قربه من السلطة والأمراء والضباط؛ لذلك استغل هذه المكانة في توظيفها داخل كتاباته التاريخية. ورغم غزارة إنتاجه، نظرًا للحجم الهائل من مؤلفاته التي تقارب 19 كتابًا. فإن ما وصل إلينا في النهاية لا يتجاوز خمسة كتب فقط، وهي أعمال تاريخية، مثل: المنهل الصافي، والنجوم الزاهرة”.
ويضيف: “اختلف منهجه تمامًا عن ابن خلدون، فالأخير كان مهتمًا بالأخبار وتحليلها، وما وراءها. بينما لم يهتم ابن تغري بردي بتحليل الظواهر الاقتصادية أو الاجتماعية مثل ابن خلدون. وإنما بدأ كتاباته بالحديث عن الغزو الإسلامي لمصر، ولم يتحدث عن العصور القديمة، كالعصر الفرعوني. وهذا أمر أراه جيدا، لأنه لم يقع في فخ الخرافة والأساطير التي أحيطت بهذه الحضارة، والتي كانت مجهولة بالنسبة لهؤلاء المؤرخين. إذ كتب عن التاريخ المصري عندما صارت مصر دولة مستقلة، منذ أيام الطولونيين ثم الإخشيديين والفاطميين والأيوبيين. و«أرى أن كتاباته التاريخية الأهم بدأت عندما تناول عصر المماليك، فهو المرجع الأساسي لنا في القرن الـ15 الميلادي».
ويستطرد: “كان لابن تغري بردي أستاذان، هما العيني والمقريزي، لكن علاقته بهما كانت غريبة. ففي بعض الأحيان كان يكن لهما احترامًا وتقديرًا، وفي أحيان أخرى يكن لهما الكراهية. فعندما توفيا، أشادا بهما كثيرًا ووصفهما بأنهما أستاذاه. لكن في صلب كتاباته كان دائمًا ما يهاجمهما، ويتهمهما بالتقصير تارة، وعدم الفهم تارة أخرى. وفي المقابل، لم يكتبا عنه شيئًا. وبالتالي لا نعرف كيف كانا ينظران إليه كمؤرخ”.
زوايا مثيرة
من جانبه، قال الفنان التشكيلي محمد عبلة، مصمم غلاف الكتاب، إن معرفته بابن تغري بردي لم تكن كبيرة قبل قراءة الكتاب والعمل على تصميم غلافه. ويقول: “رغم أن حياته لم تشهد أحداثا كبرى، إلا أن اهتماماته كانت متنوعة. فقد اهتم بالشعر والعمارة، كحال أبناء جيله، وهو مؤرخ يستحق أن نتابع ما كتبه. وقد استطاع هاني حمزة تخليص الكتاب من الحكايات المملة. والتقاط الزوايا المثيرة، التي تثير شغف القراء والمتابعين”.
ويرى الكاتب والمؤرخ عبد الرحمن الطويل أن ابن تغري بردي لم يكن حاضرًا في أذهان العامة مقارنة بالمقريزي، الذي كان حاضرًا دائما في الوجدان الشعبي. وهذا ما ذكره «حمزة» في مقدمة كتابه. في المقابل، تم تهميش شخصية ابن تغري بردي في الوجدان الشعبي مقارنة بالمقريزي. الذي استطاع الوصول إلى أعماق الشعب عبر وصفه لما تعرضت له الطبقات الشعبية وتدوين حكاياتها.
بينما كان ابن تغري بردي شخصية مرفهة، كانت لديه أملاكا، وإيرادات، اعتزل المقريزي العمل العام مبكرًا وتفرغ للعلم. ولم يكن له مصدر دخل واضح، فقد كان يعيش على ما يهبه إياه الرعاة. ويمكننا اليوم القول إن المقريزي كان من محدودي الدخل.
الأمراء والسلاطين
في المقابل، يرى هاني حمزة أن المقريزي لم يهتم بالطبقات الشعبية كما ذكر «الطويل». إذ يبرهن على رأيه قائلًا إن المقريزي وصف العامة بالصعاليك والشطار. كما أنه لم يكن منصفًا في حديثه عن الأمراء والسلاطين، إذ كانت علاقته معهم تتسم دائمًا بالبرجماتية التوافقية. لكن يبقى السؤال: لماذا حضر المقريزي في الوجدان الشعبي للمصريين، ولم يحضر ابن تغري بردي؟
يرى حمزة أن السبب يعود إلى أن ابن تغري بردي لم يأتي في مرحلة انتقالية، بل في مرحلة وسطية. ويضيف “ما تميز به هي تحليلاته العسكرية نظرًا لانتمائه إلى الطبقة الحاكمة وكونه ابن أمير سابق من أمراء المماليك. فضلًا عن علاقته بأمراء المماليك المستجدين – إن جاز التعبير- فقد تربى تربية عسكرية نسبيًا. وهي أمور ساعدته على التحليل العسكري بحكم انتمائه. إذ كان مطلعًا على كثير من الأسرار العسكرية. فضلًا عن تسجيله لمقياس النيل السنوي، وهي مسألة مهمة جدًا بالنسبة للتاريخ الاقتصادي لمصر. وقد اعتمدت عليها المصادر اللاحقة في تحليلاتها لفترات طويلة. وفي رأيي، يرجع ذلك إلى معاصرته للكثير من المجاعات التي حدثت في فترات سابقة. وبالتالي كان يعلم أن النيل بمثابة شريان الحياة للمصريين”.
ابن تغري بردي وعلاقته بالشعر
من جانبه، قال «الطويل» إن إحدى النقاط الهامة في كتاب هاني حمزة هي تركيزه في إحدى الفصول على الشعر في حياة ابن تغري بردي، أي الشعر المملوكي. وقد ذكر علاقة ابن تغري بردي بالشعر والتراث. وكأنه كان جزءا رئيسيًا من ثقافة هذا العصر، شأنه شأن الفقه والتاريخ.
وأضاف: “كان الشعر هو الجنس الأدبي الأول في بدايات العصر المملوكي وحتى القرن الـ14، لكنه تراجع كثيرًا بعد ذلك وتدهور في القرنين الـ15 والـ16 الميلاديين. وربما يكون السبب أن نظام حكمهم كان عسكريًا في المقام الأول. ولم تكن هناك رغبة في تمويل الشعراء أو الاهتمام بالشعر من جانب الأمراء والسلاطين. كما كان يحدث في الماضي، فقد قامت دولتهم على السيف والقتال. ولم يكونوا بحاجة إلى التمجيد الشعري.
بينما تعاطف ابن تغري بردي مع شعراء سابقين مثل البهاء زهير. وقد سجل في كتاباته أنه بكى على شعره. وهذا يعني أن ابن تغري بردي لم يكن ناقلًا للأحداث فقط، بل تفاعل معها بحواسه. وكان حافظًا للشعر ومتذوقًا له، ويمتلك أيضًا ملكة نقدية للشعر”.
اقرأ أيضا:
«مونيكا حنا» تتحدث: توضيحات حول الاتهامات ومقترحات لإصلاح منظومة الآثار
المعماري «وليد عرفة»: نعيش لحظة ضعف.. والعمارة المصرية الآن بـ«عافية»



