في ذكراه: خيري شلبي.. العارف بقاع المدن

(هذا خيري يتخير /من قلب الظلمات النورا /ويعيد الزمن المغمورا /كم كانت في الليل أمور /لم تثمر في الفجر أمورا). هذا بعض ما كتبه الشاعر الراحل فؤاد حداد عن الكاتب الروائى خيري شلبي، كلمات يفخر بها العم خيري، كتبها بخطه وعلقها بجانب صورتي نجيب محفوظ ويحيي حقي في غرفة مكتبه.. وكان كثيرا ما يرددها لمحبيه. تسع سنوات على رحيل خيري شلبي (1938-2011)، جرت خلالهما مياه كثيرة في النهر، ولكن خيري لم يغب عن المشهد الثقافى لاتزال أعماله الروائية تنبض بالحياة بدون فذلكات سياسية وإدعاءات أيديولوجية.. باختصار أعمال شلبي هي الحياة نفسها التي عاشها الكاتب وعبر عنها في أعماله المتعددة والمتنوعة.

أعمال مختلفة

ولد خيري في قرية شباس عمير بمدينة كفر الشيخ (شمال القاهرة) لأب كان قد تجاوز الستين بقليل وتقاعد بعد سنين طويلة من عمله في هيئة فنارات الإسكندرية، وعاد إلى قريته ليستقر أخيرا وكان يكتب أحيانا مذكرات قانونية ويقدم خبرته القانونية والإدارية هنا وهناك حتى انتهي به الأمر إلى كتابة لافتة علقها علي باب المندرة تقول كلماتها: “أحمد علي شلبي.. أشغال قضائية وإدارية”. وبعد الابتدائية، واختصارا للمصاريف تقرر إلحاقه بمعهد المعلمين في مدينة دمنهور، وحتي يتم تدبير مصاريف تعليمه، انضم خيري وشقيقته خيرية لعمال التراحيل بعد أن وصلت حالة الأسرة إلى مفترق صعب. وهكذا أسرع خيري وشقيقته معا للعمل في حقول الوسية كنفرين في نقاوة القطن. تلك هي أولي محطات التى يمكن أن نقرأ تفاصيلها في روايته “السنيورة” و”الأوباش”، حيث سافر إلى بلاد بعيدة ليعمل في حقول، وكان هو النفر الوحيد الذي يحمل في “زوادته” كتبا وأقلاما وكراريس. وكان هذا معناه أيضا أن يحفظ أغاني ومواويل وحكايات وأمثالا تعود إلى قرون بعيدة من السخرة والمقاومة، وأن يتعلم من رفاقه في ليالي السهر الطويلة أسرار الأرض والحب والقهر والمقاومة.

وعندما انتقل للدراسة في معهد المعلمين، أصبح من العار عليه أن يستمر كعامل تراحيل، واتجه إلى ممارسة عدة مهن فتعلم الخياطة وسمكرة البوابير والنجارة، كما عمل كواء وخياطا ونجارا وحدادا وبائعا في المحلات. وانتهى به الأمر للانتقال إلى الإسكندرية قبل أن ينهي دراسته، وهو يهدف للحصول على الثانوية العامة والالتحاق بالجامعة كما كان يحلم، إلا أنه ضاع تماما في المدينة المتوحشة التي كانت تلتهم الجميع بلا رحمة، فعمل بائعا سريحا يحمل حقيبة ملأى بنحو 50 كيلو جراما من المنظفات وزهرة زوزو والبوتاس يدور بها علي المحلات ليكسب خمسة قروش في اليوم، ثم تمرد علي هذه السخرة الفظيعة التي كانت تتطلب منه أن يقطع يوميا عدة كيلو مترات علي قدميه حاملا 50 كيلو جراما مثل رافعي الأثقال! وانتقل لبيع الأمشاط والفلايات وعلب الكبريت وإبر الخياطة في الترام. وأخيرا دخل القاهرة من باب الخدم كما يقول، وظل سنوات بلا عمل ولا نقود مشردا في محطته التالية في شوارع القاهرة. تعلم خيري أن ينام وهو يسير في الشوارع، حرفيا ودون أي مبالغة، كما تعلم كيف يغسل قميصه في دورات مياه السكك الحديدية في محطة مصر وينعس بجواره حتي يكاد يجف، كما تعلم أن ينام جالسا على أحد المقاعد في مقهى مفتوح العينين حتي لا يتعرض للطرد من الجرسون.

ممثلا وعازفا 

ثم عمل في عدد كبير من المهن، وحاول أن يعمل ممثلا في فرق التليفزيون المسرحية، وعازفا للرق، ثم كاتبا للتمثيليات والبرامج الإذاعية ومحررا صحفيا بالقطعة. وفي تنقله بين المدن والمهن، عرف قاع هذه المدن، ومهمشيها وعرف أزقتها وعطفاتها وزنقاتها وحواريها المسدودة أو المفتوحة، من أقصاها إلى أقصاها، وإن كان تخصصه هو حزام المدن ومستوطنات المهمشين والمطاريد.. وهم أبطال رواياته. سواء في قرى خارج القاهرة، والقاهرة نفسها التي أصبح فيها بمجرد وصوله إليها عارفا بأسرارها  حواريها، أزقتها، مطاعمها، باراتها.. مقابرها، حيثما تولي وجهك تجد خيري شلبي، معروفا للجميع، عارفا بتاريخ المكان والزمان.. عمله في الإذاعة والمسرح والصحافة أتاح له أن يعرف الكثيرين معرفة شخصية عميقة أهلته أن يدخل إلى كواليس السياسة والثقافة والفن في مصر. ما لديه من أسرار وأشعار وحكايات يفوق كثيرا ما كتبه.

في إحدى الجلسات الثقافية المغلقة، وبين أصدقاء سهر العم خيري يتحدث، لم يستطع أحد أن يوقفه عن الحكي، جمهور المثقفين حوله يضحكون أو يعلقون.. هو بهدوء شديد ونبرة صوت مختلفة، لا ديماجوجية راح يحكي.. عن شخصيات شهيرة عرفناها، وأشعار لا يحفظها أحد سواه، وكتب لم نسمع بها، بينها مخطوطات حصل علي صور لها من ورثه أصحابها أو من دار الكتب، أو حتى من مكتبات الجوامع القديمة.. ومعظمها غير معروف أو منشور. كان لديه مخزونا من الحكايات التي تشكل جزءا من الذاكرة الثقافية، ولكن لم يتح القدر لعم خيري أن يكتبها. دائما كنا نسأله متي سيكتب سيرته؟، وكان يرد: “لا أملك حق نشر ما أعرف لأنها حكايات تخص الآخرين..”. وقبل رحيله بأيام نشر جزءا من السيرة بعنوان “أنس الحبايب” (الهيئة العامة للكتاب) عن أيام الطفولة والتشرد، عن أهل قريته المنسيين، وطقوسهم السحرية، والكتب التي سحرت خياله وقادته إلى عالم الأدب، وتوقف عند بدايات كتابة القصة الرومانسية، واعدا القارئ باستكمال السيرة في أجزاء أخري، ولكن الحياة لم تعطنا ما كنا نتوقع.

عن الواقع والتراب

سيرة صاحب “الوتد” مكنته أن يضع نفسه – رغم كل ظروف الاحباط التي واجهته، وظروف الحياة الصعبة – في مكانة متفردة في تاريخ الرواية العربية. كان صاحب مدرسة متفردة نقيضة ربما لمدرسة الحداثة التي مثلها إدوار الخراط. شلبي كان يكتب على الأرض، عن الواقع والتراب، عن الهوامش المنسية.. لغته هي لغة هؤلاء البشر المطحونين.. في السنة الأخيرة كان فرحا، فقد أصبحت رواياته “بيست سيلر”، وكانت تنفد بعد صدورها مباشرة.. قال: “حاجة غريبة.. في أيامنا الأخيرة بدأنا نشتهر والناس بتقرانا”.. كان يعتبر أن كتبه السابقة مجرد محاولة للتمرين على الكتابة وأن أيامه القادمة ستشهد انفجارا إبداعيا، سيكتب فيه ما يريد بعد أن وجد صدي لما يكتب، وخاصة أنه كان يشكو دائما من قلة عدد القراء، وتجاهل النقد لما يكتب. في مكتبته وضع شلبي صورتي يحيي حقي ونجيب محفوظ أمامه دائما، يستعين بهما على مواجهة الإحباط، الأول هو أكثر الرواد تأثيرا فيه لغويا وأسلوبيا ومعرفيا، أما محفوظ فيراه هو مؤسس فنّ الرواية في الثقافة العربية ورائد التكنيك الروائي. كلاهما “تميمة” عندما يصيبه الإحباط، يرفع رأسه ليستمد منهما طاقة طاقة معنوية وقدرة علي المقاومة، لأنّني أتذكر ما قدّماه لحياتنا الثقافية. في أيامه الأخيرة كان يتابع بدقة شديدة تفاصيل الثورة المصرية، يقلق أحيانا، ويفرح أحيانا.. ولكنه كان يحارب معركته ضد القمع والدكتاتورية.

 

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر