«كما دخلوها أول مرة».. كيف قاوم فدائيو قناة السويس الاحتلال البريطاني؟

يُعد يوم الجلاء، الموافق 18 يونيو 1956، أحد أبرز المحطات الفارقة في التاريخ المصري الحديث، إذ يمثل نهاية حقبة طويلة من الاحتلال البريطاني الذي استمر أكثر من سبعة عقود، لم يكن هذا اليوم مجرد انسحاب لآخر جندي بريطاني من مصر، بل كان تتويجا لنضال شعبي ومقاومة ممتدة.
ففي أغسطس من عام 1882، دخل الجيش الإنجليزي مدينتي بورسعيد والإسماعيلية عبر قناة السويس، بعد معركة الإسكندرية، وذلك لمواجهة جيش أحمد عرابي في معركة التل الكبير، تمهيدا لاحتلال بقية الأراضي المصرية ووضع البلاد تحت الحماية البريطانية.
وقبل هذا التاريخ، قاد أحمد عرابي ثورة ضباط الجيش المصري ضد الخديوي توفيق، بسبب سماحه بالتدخل الأجنبي في شؤون البلاد. وفي كتابه “الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي”، يروي عبد الرحمن الرافعي كيف فكر عرابي في تعطيل الملاحة بقناة السويس خوفا من دخول الجيش الإنجليزي. لكنه تراجع بعدما استمع لنصيحة فرديناند دي لسبس، رئيس هيئة القناة وقتها.
يوم الجلاء عن مصر
بعد هذه الأحداث بـ74 عاما، وقعت مصر اتفاقية الجلاء عام 1953م. وغادر آخر جندي بريطاني الأراضي المصرية في 18 يونيو 1956، من قاعدة منطقة قناة السويس، كما دخلوها أول مرة.
وخلال الفترة ما بين أغسطس 1882 ويونيو 1956، برزت بطولات الفدائيين المصريين في مواجهة الاحتلال البريطاني. ودونت هذه البطولات في مذكرات ضباط بالجيش المصري وفدائيين وثقوا مقاومة المصريين عبر عقود الاحتلال.
من بين هذه المذكرات ما كتبه الدكتور أحمد فهمي عبد القادر، الرئيس السابق لجمعية الإسماعيلية للتنمية الثقافية والاجتماعية، عن وقائع يوم 16 أكتوبر. حيث شهدت المدينة مظاهرات لطلبة مدرسة الإسماعيلية الثانوية وعمال المصانع، تحولت إلى اشتباكات مع جنود بريطانيين، وأُعلن لاحقا هذا اليوم عيدا قوميا للإسماعيلية.
مذكرات كمال الدين رفعت
في مذكراته “حرب التحرير الوطنية بين إلغاء معاهدة 1936 واتفاقية 1954″، يسرد كمال الدين رفعت ما عايشه خلال مقاومة الاستعمار البريطاني. من تصريح 28 فبراير عام 1922 إلى اتفاقية 1936. وظهور تنظيم الضباط الأحرار، وميثاق منقباد، وعلاقته بالضباط الأحرار.
تتطرق المذكرات أيضا إلى علاقة الملك فاروق بالنحاس باشا وحزب الوفد، خاصة في عام 1942. حيث شهد يوم 16 أكتوبر انطلاقة شرارة حرب التحرير الوطنية ضد الاحتلال البريطاني في منطقة قناة السويس. كما أشار إلى بطولات رجال الشرطة في 25 يناير عام 1952، وحريق القاهرة، وثورة يوليو 1952، وانتهاء باتفاقية الجلاء في 1956.
سيرة فدائي قناة السويس: غريب تومي
سلط كمال الدين رفعت الضوء في كتابه “حرب التحرير الوطنية” على سيرة غريب إبراهيم خضيري، الشهير بـ”غريب تومي” (1927 – 2010). وصفه كمال الدين بـ”الفدائي الصغير”. إذ كان في السادسة عشرة من عمره عندما جُند، وتمكن خلال 10 أيام متواصلة من اﻻستيلاء على ما يعادل حمولة 30 شاحنة ذخيرة من مخازن الإنجليز. ما أثار المخابرات البريطانية التي اعتقلته لاحقا وعذبته لاستجوابه. نال غريب شهرته نسبة إلى مسدس إنجليزي من نوع “توم جن”. حيث عرف بلقب “تومي”.
شهادات غريب تومي
في لقاء مع صحيفة الخليج الإماراتية المنشور في أغسطس 2006، تحدث غريب عن نشأته في حي المحطة الجديدة. حيث عمل والده موظفاً بسيطا في شركة قناة السويس. يقول: “كنت سعيد الحظ عندما ألحقني أبي بالدراسة في إحدى المدارس الفرنسية التي كانت مخصصة للأجانب فقط، فتلقيت تعليما متميزا وأتقنت اللغتين الإنجليزية والفرنسية. لكن والدي، رحمه الله، علمني منذ البداية أن هؤلاء الأجانب محتلون. وأنهم يجب أن يغادروا أرضنا مهما كلفنا الأمر”.
صدام الاحتلال والطفولة
يسترسل الفدائي غريب تومي في سرد ذكريات طفولته، مشيرا إلى تفوقه الدراسي في سن مبكرة، يقول إنه بلغ المرحلة النهائية من دراسته بتفوق لافت. ما دفع إدارة المدرسة الفرنسية لاختياره ضمن الطلاب المتفوقين المكرمين في حفل نهاية العام.
ويحكي: “كانت تلك أول لحظة صدام بيني وبين الاحتلال، ممثلا في ناظر المدرسة مسيو مونيه، فرنسي الجنسية. وقفت في طابور المكرمين انتظر جائزتي. لكني فوجئت بأن الجوائز الموضوعة على ثلاث مناضد كانت عبارة عن صلبان ذهبية، وأطقم ملابس فاخرة، وبعض الهدايا العينية الأخرى. وعندما جاء دوري طلب مني ناظر المدرسة اختيار جائزة. وجدت نفسي في حيرة، لا يمكن أن أختار صليبا ذهبيا لأني مسلم. كما أنني لست عاريا كي تهديني المدرسة بعض الملابس، فاعتذرت عن قبول أي جائزة، ما أوغر صدر مدير المدرسة ضدي”.
لم تنته المواجهة عند هذا الحد. فقد تضمن الحفل أيضا مباراة كرة قدم بين الطلاب المصريين وأبناء الجاليات الأجنبية. ويصفها تومي قائلا: “خضنا المباراة وكأنها معركة حقيقية، وكنت مصمما على الانتصار. سجلت هدفي الفوز. لكنني فوجئت بعد المباراة بناظر المدرسة يعاقبني، وأمرني بالركوع على ركبتي، ووضع تحت كل منهما حجرا صغيرا. حتى سال الدم من قدمي. عدت إلى البيت محطما نفسيا، وهناك لقنني أبي أول دروس الوطنية”.

مذكرات اللورد كيلرن ودور الفدائيين
تتزامن ذكريات تومي مع ما ورد في مذكرات اللورد كيلرن، المندوب السامي البريطاني في مصر (1934-1946)، التي أعدها تريفور أ.إيفانز. وترجمها الدكتور سامي أبو النور. توثق هذه المذكرات تفاصيل مفاوضات معاهدة 1936، التي أتاحت لبريطانيا تأمين قواعدها العسكرية في مصر خلال الحرب العالمية الثانية. ورغم ما نصت عليه المعاهدة من اعتراف شكلي باستقلال مصر. فإنها كرست فعليا استمرار الوجود العسكري البريطاني. خاصة في منطقة قناة السويس، ما أثار استياءً شعبيا واسعا.
بين عامي 1945 و1951، تصاعدت العمليات الفدائية في مدن القناة الثلاث: الإسماعيلية، السويس، بورسعيد. ووفقا لإحصاءات وزارة الدفاع البريطاني (أرشيف العمليات الخارجية 1950-1956). أسفرت تلك العمليات عن مقتل أكثر من 500 جندي بريطاني، إضافة إلى مئات الشهداء من أبناء المقاومة.
قناة السويس: من الاستغلال إلى السيادة
بعد الجلاء، أصبحت قناة السويس أحد أهم مصادر الدخل القومي المصري. تشير بيانات هيئة قناة السويس الرسمية إلى أن إيراداتها عام 1957 بلغت نحو 35 مليون دولار. بينما ارتفعت إلى 9.4 مليار دولار في العام المالي 2023/2024، وهو أعلى رقم مسجل في تاريخ القناة حتى الآن (هيئة قناة السويس).
لعب القناة دورا محوريا في تعزيز الاحتياطي النقدي المصري وتوفير العملة الصعبة. وأسهمت بنحو 2% من الناتج المحلي الإجمالي. وقد استُثمرت عوائدها في مشاريع قومية، أبرزها السد العالي، الذي تم تمويله بدعم سوفيتي بعد رفض الغرب تمويله.
التحول العسكري والدبلوماسي: من التبعية إلى التوازن
لم يكن الجلاء فقط انسحابًا عسكريًا، بل إعلانًا عن تحول كامل في توجهات السياسة الخارجية المصرية. فمع خروج القوات البريطانية، أعاد الرئيس جمال عبد الناصر هيكلة الجيش المصري. وأطلق برامج محلية لصناعة السلاح، وانفتح على المعسكر الشرقي في إطار تبنيه لسياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز.
وقد لعبت مصر دروا رئيسيا في تأسيس حركة عدم الانحياز رسميًا بعد الجلاء بسنوات قليلة. لتكون أحد أقطاب العالم الثالث في مواجهة الاستقطاب الدولي بين المعسكرين الغربي والشرقي.
لكن استعادة السيادة لم تمر دون مواجهة. ففي 26 يوليو 1956، أعلن عبد الناصر تأميم قناة السويس، ردا على سحب الغرب تمويل مشروع السد العالي. وقد أدى ذلك إلى العدوان الثلاثي الذي شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في محاولة فاشلة لإسقاط النظام الجديد واستعادة السيطرة على القناة. إلا أن الضغط الدولي، خصوصا الرفض السوفيتي، وضغوط الولايات المتحدة، إلى جانب الدعم العربي الشعبي، أجبر المعتدين على الانسحاب في نهاية المطاف.
إعلان الحرية: مصر بلا احتلال
في يونيو 1956، غادر آخر جندي بريطاني الأراضي المصرية، ليعلن عبد الناصر بعدها بأيام من الإسماعيلية قائلا: “لقد أصبحت مصر حرة حقيقية لأول مرة منذ احتلال الإنجليز”. وقد اعتبرت هذه اللحظة، سواء في الإعلام المصري أو البريطاني، من أكثر الأحداث رمزية في تاريخ ما بعد الاستعمار.