«فرقة السويس للآلات الشعبية».. حراس تراث السمسمية يغنون للأمل

في قلب مدينة السويس، حيث تختلط رائحة البحر بعبق التاريخ والمقاومة، نشأت واحدة من أبرز الفرق الفنية في مصر: «فرقة السويس للآلات الشعبية»، التي حملت على عاتقها مهمة إحياء وصون التراث الفني الشعبي، وعلى رأسه آلة السمسمية، رمز المدينة وأيقونتها الموسيقية.
تأسست الفرقة ضمن الجهود التي تبذلها الهيئة العامة لقصور الثقافة للحفاظ على التراث المحلي، لكنها سرعان ما تحولت إلى مدرسة حقيقية تخرّج منها كبار عازفي ومغني السمسمية الذين ذاع صيتهم في أرجاء مصر.
السمسمية.. آلة السويس الساحرة
السمسمية ليست مجرد آلة موسيقية، بل هي مرآة لروح المدينة. بدأت كآلة تقليدية تُعزف في الموالد وعلى الشواطئ. لكنها في السويس اتخذت طابعًا مختلفًا. وأصبحت رفيقة النضال، تغني للمقاومة والبطولة والفقد والفرح. ارتبطت هذه الآلة ارتباطًا وثيقًا بالوجدان الشعبي. وأصبحت جزءًا من الذاكرة الجمعية لأبناء السويس، خاصة خلال فترات الحروب.
وفي هذا السياق، لعبت فرقة السويس للآلات الشعبية دورًا محوريًا في إعادة تقديم السمسمية للأجيال الجديدة. ليس فقط كأداة موسيقية، بل كوسيلة للتعبير عن الهوية والانتماء
منارة للمواهب.. جيل يسلم جيل
من أبرز ما يميز فرقة السويس للآلات الشعبية هو نهجها التربوي والفني القائم على توارث الأجيال. فهي لا تعتمد فقط على الكبار أو المحترفين، بل تفتح أبوابها لكافة الأعمار والمواهب، من الأطفال حتى كبار السن. الشعار غير المعلن للفرقة هو: “الكل يسلم الكل.. وجيل يسلم جيل”.
وتضم الفرقة اليوم نحو 30 فردًا من مختلف الفئات العمرية. من بينهم أصغر عازفي ومؤدي البمبوطية، الطفل الموهوب محمد أسامة، الذي بات وجهًا معروفًا في المناسبات الثقافية الكبرى. ما يدل على نجاح الفرقة في غرس حب الفن والتراث منذ الصغر.
ويقود الفرقة الفنان أحمد عدوية، الذي يعد أحد أعمدة السمسمية المعاصرين. فهو ليس فقط قائدا فنيا، بل يتمتع بخبرة واسعة وموهبة متميزة في تأليف وتوزيع الألحان الشعبية المستوحاة من وجدان المدينة. تمكن من توحيد الفريق وتطوير الأداء الجماعي، مع الحفاظ على روح البساطة والعفوية التي تميز الموسيقى الشعبية في السويس.
البمبوطية.. رقصات البحر وملامح الأصالة
إلى جانب السمسمية، تهتم فرقة السويس بإحياء رقصات البمبوطية. وهي نوع من الأداء الشعبي المرتبط بثقافة الميناء والبحر. تعبر هذه الرقصات عن طبيعة حياة البمبوطية، الذين كانوا يستقبلون السفن ويبيعون الهدايا والتذكارات للركاب. ويؤدون أهازيجهم الشعبية المليئة بالحيوية.
وتضم الفرقة عددًا من المؤديات المتخصصات في هذا الفن. ما يضفي على عروضها طابعًا بصريًا وموسيقيًا متكاملًا.

ألوان السويس.. هوية بصرية موحدة
ما يلفت الأنظار في أي عرض تقدمه فرقة السويس للآلات الشعبية هو ملابسهم الموحدة، التي تحمل الألوان التقليدية للمدينة: الأزرق والأبيض. يرمز الأزرق إلى البحر والحرية، بينما يرمز الأبيض للنقاء والسلام. وهي رموز عميقة تعكس روح المدينة وتاريخها العريق.
تشكّل هذه الملابس عنصرًا أساسيًا في العروض. فهي لا تقتصر على الشكل الجمالي فقط، بل تُعزز الإحساس بالانتماء والهوية المشتركة بين أفراد الفرقة.
مشاركات محلية ووطنية
لا تقتصر أنشطة الفرقة على العروض المحلية، بل تمثل فرع ثقافة السويس في العديد من المسابقات والمهرجانات الفنية على مستوى الجمهورية. وقد حصلت على جوائز وشهادات تقدير في أكثر من مناسبة، أبرزها مشاركاتها في مهرجان السمسمية الوطني، ومهرجان الإسماعيلية للفنون الشعبية. وغيرها من الفعاليات التي تكرّم الفنون التراثية.
دور ثقافي مستمر
بجانب العروض الفنية، تشارك الفرقة في الفعاليات المجتمعية والوطنية الكبرى، مثل احتفالات 6 أكتوبر، وتحرير سيناء، واحتفالات قناة السويس. كما تقدم ورش عمل للأطفال والشباب في مراكز الثقافة والمدارس، بهدف نشر التراث الموسيقي والتعريف بأهميته.
وفي زمن تتعرض فيه الفنون التراثية لخطر الاندثار، تمثل فرقة السويس للآلات الشعبية نموذجًا ناجحًا للحفاظ على الهوية من خلال الفن. ونقلها للأجيال القادمة بروح عصرية دون أن تفقد أصالتها.
في كل مرة تعزف فيها السمسمية على مسرح أو ساحة عامة، تنبعث روح السويس في النغم. هناك، حيث تختلط الألحان بأصوات الموج، وتتردد أغاني الأجداد في أصوات الأحفاد. تؤكد فرقة السويس أن التراث ليس مجرد ماضٍ نحتفل به، بل هو حاضر حي يُغنّى ويرقص ويُعاش كل يوم.
أحمد عدوية.. من طالب إلى قائد
قال الفنان أحمد عدوية، قائد فرقة السويس للآلات الشعبية، لـ«باب مصر – بحري»، إنه التحق بالفرقة عام 1980. حيث كانت نقطة الانطلاق الحقيقية له في عالم الفن الشعبي. تلقى تدريبه الفني على يد الفنان الكبير محمد فرج، الذي كان يقود الفرقة في ذلك الوقت، واكتسب منه خبرات فنية كبيرة ساعدته على صقل موهبته.
وأكد عدوية أن الفرقة شاركت في العديد من المحافل الفنية والمهرجانات الكبرى، أبرزها مهرجان البحر الأحمر، الذي شهد مشاركة العديد من الدول. إلى جانب الفعاليات والمناسبات الثقافية التي تمثل هوية السويس وتراثها الشعبي المميز.
وأضاف أن فرقة السويس للآلات الشعبية تعد الحاضنة الأساسية لمعظم فناني السمسمية في المدينة. مشيرًا إلى أن “99% من فناني السمسمية بدأوا من خلال هذه الفرقة”. وهو ما يعكس دورها البارز في الحفاظ على هذا الفن التراثي وتقديمه للأجيال الجديدة.
فرقة السويس للآلات الشعبية مصنع المواهب
حول رؤيته المستقبلية للفرقة، أوضح الفنان أحمد عدوية أنه، منذ توليه قيادة الفرقة، يحمل تطلعات كبيرة لتطويرها على كافة المستويات. سواء من حيث زيادة عدد أعضائها أو إدخال آلات موسيقية جديدة تدعم الهوية التراثية وتفتح المجال لابتكارات فنية.
وأشار إلى أن طموحه لا يتوقف عند حدود المحافظة، بل يمتد نحو رفع اسم السويس فنيًا على مستوى الجمهورية وخارجها. من خلال إحياء التراث الشعبي بروح عصرية تحفظ الأصالة وتواكب التطور.
محمد أسامة.. أصغر عشاق السمسمية
يلمع اسم محمد أسامة كأصغر أعضاء فرقة السويس للآلات الشعبية. حيث يعكس شغفه الكبير بالموسيقى التراثية، وخاصة آلة “السمسمية”، روح الأجيال الجديدة التي تتمسك بماضيها الفني وتحمله نحو المستقبل.
بدأت علاقة محمد بالسمسمية في عمر مبكر جدًا؛ إذ يقول إنه أحب هذه الآلة الساحرة وهو في الرابعة من عمره. وكان ينجذب إلى أنغامها المميزة كلما سمعها في المناسبات أو الاحتفالات الشعبية بالسويس. هذا الحب الغريزي دفعه للبحث عن أي فرصة لممارسة هوايته، فتنقل بين الأماكن التي تعزف فيها السمسمية. سواء في المدارس أو النوادي أو الفعاليات الفنية.
من هواية إلى انتماء للتراث
لم يكن حب محمد للسمسمية مجرد هواية عابرة، بل تحول مع الوقت إلى انتماء حقيقي لتراث بلدته. وبإصراره واجتهاده، تعلم العزف على هذه الآلة الفريدة. وبدأ يحفظ الكثير من الألحان القديمة والحديثة التي ترتبط بتاريخ السويس وسيناء والبحر الأحمر. كما أصبح ملمًّا بأغلب المقامات التي تُعزف على السمسمية. وبدأ يشارك في العزف خلال الاحتفالات الصغيرة، ما عزز ثقته في نفسه ودفعه لتطوير موهبته.
“السمسمية حياة”.. نقطة التحول
كانت مدرسة “السمسمية حياة” نقطة التحول الحقيقية في مسيرة محمد أسامة، التي تُعنى بتعليم فنون السمسمية والحفاظ على التراث الشعبي. هناك، وجد محمد البيئة المناسبة لصقل موهبته، وتلقى الدعم والتدريب على أيدي فنانين متخصصين. ما مكنه من الانتقال إلى مستوى احترافي. وفي هذه المرحلة، انضم رسميًا إلى فرقة السويس للآلات الشعبية، ليصبح أصغر أعضائها سنًا، لكن بروح فنية تضاهي الكبار.
ولم يكتفِ محمد أسامة بالعزف على السمسمية فقط، بل أبدى اهتمامًا كبيرًا بفنون الرقص الشعبي. خاصة رقصة “البمبوطية” التي تعبر عن حياة الصيادين والبحارة في السويس. وقد أتقنها وبدأ في تأديتها ضمن عروض الفرقة، ليجمع بين العزف والرقص. ويقدم نموذجًا ملهمًا للفنان الشاب الذي يتمسك بجذوره ويعيد تقديمها بأسلوب معاصر.
يُعد محمد أسامة نموذجًا حيًا للأمل والاستمرارية في الحفاظ على التراث المصري، وتؤكد قصته أن الفن الأصيل لا يعرف عمرًا، بل يحتاج إلى شغف حقيقي وبيئة داعمة تحمي التراث وتنقله للأجيال الجديدة.
عازفو السمسمية في السويس
يؤكد الفنان السيد فواز، أحد أبرز عازفي السمسمية بفرقة السويس للآلات الشعبية، أن جميع عازفي السمسمية المعروفين في المدينة بدأوا مسيرتهم الفنية من داخل قصر ثقافة السويس. وتحديدًا ضمن صفوف فرقة السويس للآلات الشعبية.
ويضيف فواز، الذي التحق بالفرقة عام 1981، أنه تلقى دعمه الأول على يد الفنان الكبير محمد فرج، قائد الفرقة في ذلك الوقت. مشيرًا إلى أنه كان شاهدًا على العصر الذهبي لفناني السويس. حيث عاصر كوكبة من الأسماء اللامعة، مثل الكابتن سيد عبد السلام، وبكر حسن، وعبد اللطيف محمود، وغيرهم من رموز الفن الشعبي بالسويس.
ويختتم السيد فواز حديثه بالتأكيد على أن السمسمية ليست مجرد آلة موسيقية في السويس، بل هي روح المدينة ونبضها الفني. إذ يعشقها أهالي السويس، ويجدون متعة خاصة في الاستماع إلى أنغام أوتارها التي تعبر عن تراثهم ووجدانهم.
اقرأ أيضا:
موائد البحر وسر الملوحة.. حكايات الصيف مع الأسماك في تراث السويس
«يوم رجع الوطن لأهله».. حكاية الجلاء يرويها شاهد من قلب مدن القناة
حوار| الكاتب «محمد أيوب»: القصة القصيرة فنّي وعشقي.. والثقافة لا تُدار بعقلية الجزر المعزولة