فراديس الناس اللي تحت

ربما أفلح المصريون القدماء في الولع بتدابير خاصة السكن في ديار الخلود الأبدي بعد مفارقة دور الدنيا، حيث صرفت أرواح الموتى ما أدركها من بزخ زائف بالحياة، ورحلت بصحبة زاد زهيد تمثل في ملكية هزيلة لبعض من قدور وآنية وأبسطة ضئيلة. حيث أعلنت عن يقين بالاستغناء عن طرف عابر، ولازمت ما يسري عن الروح في العزلة المبهجة، وتبدد ما يحوط الوجود من وحدة موحشة.
في أعقاب عصور مديدة، شابهت أنسابا ممتدة لتلك الأسلاف، سكنت بيوت الشوارع الخلفية والمتسعة قليلاً وما ضاقت به من حواري وأزقة معتمة جموع من الناس التي لا تعرف سوى الغبطة والسعادة ومشيئة الله. فصارت تكترث بتجدد البيوت الحائلة، وانهمكت في استعادة ما تهدم من أرجائها، وكأن فساد الكون لدى مواطني تلك الأحياء محض تخريج، وأن النفوس التي عرفت تلك الأنحاء آمنت بأن الحياة والأبدية تلاحمت في الزمن، حيث اكتسب من سكن تلك الأحياء رؤى وتصورات تبلورت في التجهز لأن تكون أكثر إشراقاً وذات جدوى. حيث اعتنت بتحضرها بطلاء واجهات البيوت التي حملت رسومات بالغة البساطة والعمق والجمال، وصوراً تصور بعضاً من فن القصص الشعبي، وحوائط مزينة بكتابات بلغت من الدقة والإتقان ما يوسمها بـ”أدب الجدران”.
***
وبضفاف الحواري الضيقة، تصطف أشجار ونباتات يانعة تميزت بالنضارة، وكد أرباب المحلات والدكاكين في تسوية شوارع الأسفلت التي تهالكت، دون عون مصلحة الأشغال الرسمية أو ديوان البلدية، كما اعتاد أبناء تلك الأحياء إطلالة محترفات التمريض على بيوت المرضى من العجائز، بغية الشفاء ورد العافية.
حينما اكتظت تلك الأرجاء بحشود من البشر وفدت من أنحاء أخرى خارج الإسكندرية، وحلت لمجاورة من انعقدت بهم صلات قديمة، وحيث انبعثت في النفوس سكينة وطمأنينة غامرة، شهدت كافة وجوه الحياة تحولات نابضة. كل تلك المشاعر قاربت بين كل من استوطن تلك الأحياء، حيث رسخت معاني الألفة وقيم التسامح، وكرست منظومة المنافع والتبادل، وأن من عرك وهجر تلك الأحياء أشبه بالخروج من الجلد وهزيمة الروح.
وفي هذا السياق، فإن ما طرأ من تغيرات وتحولات اجتماعية شملت ظواهر عديدة، لم يحجب عديدا من العادات والتقاليد التي وسمت قسمات الأحياء الشعبية، فرغم أنها راكمت مظاهر التمدين والتحديث، ظل الشغف بالأصالة يحتل صدارة المشهد. فما زالت أغاني بدرية السيد (بدارة) وعزت عوض الله تتسرب من النوافذ المهشمة ليلاً، وتناثر منصات الشاي والشيشة بنواصي الشوارع، وما زالت النساء رمزاً للجسارة والجدارة في ظل المحن والكروب التي تصادف أهل تلك الأحياء. كما أن ذيوع أفراح الشوارع، وفرق الزفة، تبعث المتعة والنشوة بالرقص والغناء وأن الضجة والصخب أحد علامات حيوية الحواري والأزقة.
***
كل تلك المظاهر والصور أكدت أن الشوارع الخلفية ازدهرت بالبسطاء والعاديين الذين نشدوا صناعة الحياة، وأحدثت انتصار الإنسان.
إن ما استغرقنا من تجارب وتأملات تلامست مع وقائع الأحياء الشعبية، يصحبنا لنطرق جهات أخرى راقية، سكنتها شرائح اجتماعية عليا، بين الأرستقراطية والطبقة الوسطى، تمثلت في الحي اللاتيني وشارع فؤاد ببناياته العريقة الشامخة، حيث عاشت بالطابق السفلي الخفيض (البدروم) وبالطابق العلوي حيث غرف الغسيل، نماذج إنسانية بارحت حي كوم الدكة الشعبي الذي يدنو من تلك الأنحاء، والذي أنتج زخما آخر من شغيلة أبناء الظل، لتخوض رحلة الصباح والمساء في الكدح اليومي.
ماثلت تلك الظاهرة ما جرى في بقاع عديدة أخرى: العطارين، زعربانة، كفر عبده، جليم، حيث أحدث كل ذلك فجوة وجفوة هائلة بين عالم وآخر، ناس وناس، وأبواب مفتوحة حيث ترددت أصداء بوح مفرط، وأخرى موصدة على غيوم من الصمت، والذي رفدته أشكال من سخرة باهظة لم تطل طويلاً، لأن من قصد السكون المجحف الذي غشي تلك الأنحاء الراقية هجره ثانية حين أدرك أنه افتقد ما أنفق من بهجة صاخبة، واستعاد غربة حياة خلاقة.